في رأي الكثير من المحللين السياسين ان إسرائيل اختارت لحظة وقوع العالم تحت صدمة الازمة الاقتصادية لتنفيذ جريمتها البشعة في غزة،
لقد خابت تقديرات القيادة الاسرايئلية ، فالذهول والصدمة مما حدث في غزة
كان اعنف من ان ينشغل عنها العالم بمتابعة اخبار البورصات في العواصم
المالية وإحصاء الأيدي العاملة التي تنضم إلى قوائم البطالة أو التغيرات
الحادثة في حركة الأموال و البضائع في الأسواق المالية و التجارية.
بقعة صغيرة لا تزيد مساحتها عن 350كليو متراً شدت انظار الساكنين في
المعمورة ، فأصوات القذائف وسحب الدخان المنبعث من الحرائق وغاز الفسفور
المسكوب على السكان ومشاهد الذعر و التشرد والدماء والاشلاء، كل هذا ابعد
الناس عن التوقف عند التحديات الماثلة أمام مستقبل الاسرة إلى التفكير
بمأساة الضمير الانساني .
لا أدري ان كان ثمة من رأى رابطاً بين الأزمة المالية والاقتصادية وبين
المحرقة البشرية في غزة غير استغلال اسرائيل زمن الأزمة لتنفيذ المحرقة.
لكن الروابط عديدة ليس أهمها أن الولايات المتحدة حاضرة في الإثنتين حيث
بدأت الأزمة المالية هناك وامتدت إلى الاقتصاد العالمي كله، ومنها أيضاً
تتدفق الاسلحة التي تحرق الأطفال في غزة وتنتشر المظلة السياسية الحامية
لاسرائيل من أي عقوبة قد يلوح بها المجتمع الدولي في وجهها.
ربما كان الرابط الأهم هو النظام الرأسمالي القائم على مبدأ المنفعة
الفردية التي يهون في سبيلها أن يجوع المئات من الملايين أو يقتلوا إذا
استدعت الحاجة.
من أجل هذا زرعت اسرائيل في منطقة استراتيجية وغنية بالثروة كي تستخدم عصا
غليظة لترويض الأنظمة ونهب الموارد واستباحة المواقع.
والمنفعة نفسها تجيز صناعة أشد الأسلحة فتكاً لأن
المهم في النهاية حجم الأرباح وإن تحققت بشلالات من الدم وفوق جبال من الجثث وبصرف النظر عن العويل والنحيب والفواجع والأهوال.
لقد طغى هدير المدافع على النبضات الالكترونية التي تسجل أسعار الأسهم والسندات والعملات النقدية.
مع ذلك رأى بعض الحكام العرب أن تناقش أحداث غزة على هامش قمة اقتصادية عقدت في
الكويت.
وغالب الظن أنهم ذهبوا إلى هناك للبحث في أعراض الأزمة وليس في جوهرها.
حسناً.. سنمضي معهم في الحديث عن الأعراض رغم ألا جديد فيه إذا لم يتعمق
البحث في استبطان ماتحت الظواهر حيث عفن الرأسمالية وافتقادها لأي وجه
انساني.
يتفق الاقتصاديون على السبب الظاهر للأزمات المالية المتمثل في عدم
التناسب بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد المالي.
ومؤدى هذا أن ماينتج من سلع وخدمات أقل بكثير من حجم التعامل بالنقد في
الأسواق المالية والمصارف. وتعبر الأزمة المالية عن حالة اضطراب مالي يعرض
المتعاملين في الأسواق المالية إلى مشكلات سيولة وإعسار وتأخذ شكل أزمة
مديونية أو أزمة عملات أو أزمة مصرفية.
وفي أزمة المديونية تتوقف الحكومات عن سواد خدمة الدين وتلقي بالحجر في
وجه الدائنين، أما في أزمة العملات فالحكومات وبعد استنفاد الاحتياطي تعمد
إلى تغيير سعر التعادل أو التخلي عن السعر المربوط في الأزمة المصرفية
يتدافع المودوعون لسحب ودائعهم من المصارف، وقد تنهار بعض البنوك أو تتوقف
عن صرف الودائع، وعندئذ تتدخل الحكومات لإعادة هيكلة البنوك المتعثرة
ودعمها بتمويل من الخزانة العامة.
منذ أزمة الكساد الكبير في مطلع ثمانينات القرن الماضي عرفت الاقتصاديات
في العالم العديد من الأزمات، لكنها جميعاً كانت أقل وطأة من الأزمة
الحالية التي بدأت بأزمة الرهون العقارية في الولايات المتحدة.
وترجع إلى توسع المصارف الأمريكية في الإقراض بما يفوق النسبة المحددة لما
تملكه من رأس مال واحتياطي، وبما يتجاوز الودائع التي تشكل المصدر الرئيسي
لتمويل البنوك.
والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فالنظام المالي هناك اخترع مايسمى
بالمشتقات المالية لتوليد موجات متتالية من الأصول المالية للتوسع في
الإقراض.
فحين يتجمع لدى البنك محفظة من الرهون العقارية يستخدمها لإصدار أوراق
مالية جديدة بضمان هذه المحفظة، ثم يتتابع إصدار سندات الاقتراض بموجبها
من مؤسسات مالية أخرى مما يؤدي إلى زيادة المخاطر. وتحدث الكارثة إذا
تحركت أسعار العقارات أو أسعار الفائدة أو كليهما.
وهذا ماحدث بالفعل.
وفي حين تتمتع المؤسسات المالية بثقة عالية من المستثمرين الذين ينظرون
إليها كمؤسسات تستند إلى قواعد مالية قوية ويثقون بما يصدر عنها من أدوات
مالية فإن قواعد المحاسبة المالية الحديثة تساعد على توفير درجة من
الشفافية في عرض المراكز المالية للمؤسسات المالية.
لكن الحقيقة أن هناك ضعفاً في الرقابة والإشراف عليها من السلطات العامة «البنوك المركزية».
وربما كانت البنوك التجارية تخضع لرقابة السلطات بدرجة شبه كافية ولكن هذا غير موجود أو
أنه موجود بدرجة أضعف بالنسبة للمؤسسات المالية الأخرى.
وعلى سبيل المثال فإن بنوك الاستثمار وهي التي تصدر معظم الأدوات المالية الجديدة «المشتقات» لاتخضع للرقابة أو تخضع
لرقابة غير كافية.
هناك أمر آخر وهو استخدام أدوات مالية مركبة، فقد أصبحت المؤسسات المالية تمارس أنشطة متنوعة في وقت واحد.
فهي تقوم بالنشاط المصرفي والتداول في الأوراق المالية وإدارة المحافظ وغير ذلك.
لذلك ففي الماضي كان انهيار سوق التأمين يؤثر على شركات التأمين والأنشطة
المتصلة بها، وإنهيار سوق العقار يؤثر في شركات التمويل العقاري وإنهيار
سوق البورصة يلحق خسائر في الشركات المقيدة بها.
أما وقد أنهارات الحواجز والحدود بين الأسواق والمؤسسات المالية فإن الاضطراب في قطاع معين يمتد إلى سائر القطاعات.
على أن انتشار الأزمة لم يعد محصوراً داخل حدود الاقتصاد الوطني الواحد.
فكلما سقطت الحواجز بين الأسواق والمؤسسات أنهارت الحدود الدولية بعد أن
هيأت ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات سرعة حركة النقود والأوراق
المالية وزيادة حجمها عبر الحدود، فالمستثمرون في أي بلد يتعاملون على
أصول وأوراق مالية في أرجاء العالم.
لقد نما التعامل في أسواق العملات بسرعة خارقة وبدرجة تفوق بعشرات أضعاف
حجم التجارة الدولية.وبحسب التقديرات فإن حجم التجارة الدولية «سلع
وخدمات» يصل إلى 90 تريليون دولار سنوياً بينما يتراوح حجم التعامل بالنقد
الأجنبي بين 500 و700 تريليون دولار.
هذه الأرقام تبين إلى أي مستوى باتت العولمة حقيقة مؤكدة، حيث بلغ
الاقتصاد العالمي درجة عالية من التكامل، ولكن التكامل المالي بين مؤسسات
التمويل بات أعمق وأقوى.
ومن هنا فإن الاختلال في الاقتصاد المالي في أي دولة لابد أن يمتد إلى
سواها. ولما كان الاضطراب قد حدث في أكبر مركز مالي وهو نيويورك وفي أكبر
اقتصاد عالمي وهو الاقتصاد الأمريكي فقد كانت النتائج كارثية على مستوى
العالم كله.
غير أن الأزمات المالية تحدث صدمة نفسية لدى المتعاملين في الأسواق
المالية الذين يفقدون الثقة في هذه الأسواق فيلجأون إلى الإحجام عن
الاستثمار والبحث عن ملاذ آمن لأموالهم ويفضلون في الغالب السيولة.
كان من الطبيعي أن تتأثر الاقتصاديات العربية بالأزمة خصوصاً في الدول
الحائزة على استثمارات مالية موظفة في الأسواق العالمية، إذ أدى تدهور
الأسعار إلى انخفاض قيم هذه الاستثمارات.
والأرقام المعلنة تؤكد تراجع قيم الأصول المالية في الخارج بنحو 2.5
تريليون دولار بعضها ناجمة عن خسائر في استثمارات مباشرة في قطاع العقارات
وبعضها في شركات الرهن العقاري وفي البنوك التي تم الاعلان عن إفلاسها.
إن انتقال الأزمة في القطاع المالي إلى القطاعات العينية بداية حالة من
الركود الاقتصادي أدى إلى انخفاض الطلب العالمي على النفط والمواد الأولية
الأخرى التي تدخل في هيكل الصادرات العربية كالمعادن والسلع الزراعية
«انخفضت أسعار النفط من 47 دولار للبرميل إلى أقل من أربعين دولاراً».
غير ذلك تجاوبت الأسواق المالية العربية مع الانهيار في الأسواق العالمية
لأن العديد من الاستثمارات الأجنبية خرجت منها لمواجهة مالحق بها من خسائر
في بلادنها إضافة إلى تأثير الهلع والجانب النفسي.
أما عن تأثير الأزمة المالية على الاقتصاد اليمني فليست هناك أرقام عن حجم
الخسائر الناجمة عن انهيار الأسواق إلا أن أخباراً ساخنة تتردد عن أرقام
فلكية فقدها مستثمرون يمنيون في الأسواق العالمية, الخليجية منها بالذات.
والأثر الواضح هو ماترتب على تدهور أسعار النفط مما تسبب في انخفاض الايرادات العامة وانخفاض الموارد من القطع الأجنبي.
وقد حاولت الحكومة التكيف مع التغيرات الجديدة بتبني سياسة انكماشية تقوم
على خفض الإنفاق العام وتجميد البرنامج الاستثماري، وذلك سيؤدي بالطبع إلى
زيادة البطالة وبالتالي تراجع الطلب أي دخول الاقتصاد اليمني في حلقات
حلزونية من الركود.
المضحك أن العديد من المسؤولين في القطاع المالي والاقتصادي بادروا منذ
بداية الأزمة وما انفكوا يطلقون التصريحات بأن اليمن لن يصيبها أذى مما
يحدث في العالم.
بدت أكثر التصريحات مدعاة للسخرية هي تلك المنسوبة إلى محافظ البنك
المركزي، ومع هذا وبعد خمسة شهور على الأزمة خفض المركزي سعر الفائدة 1 ٪.
ربما برر عدم القيام بتخفيض أكبر إلى القلق من التوجه نحو المضاربة
بالعملات، لكن لعل المحافظ يجهل تماماً ماسيؤدي إليه انخفاض أسعار صرف بعض
العملات إلى اضطراب في هذا السوق، فالعملة الأوروبية انخفضت بما قيمته 120
ريال لليور الواحد، وقريباً من هذا بلغ الانخفاض في قيمة الجنية
الاسترليني.
وسوف يتجه الناس في هذه الحالة إلى التخلي عن الدولار وشراء اليورو والاسترليني حتى إذا ارتفعت
أسعارها يذهبون إلى غيرها.
المبكي أن البنك المركزي ضخ في 2008 مليار دولار من الاحتياطي النقدي
للحفاظ على استقرار سعر صرف الدولار، وكان المبلغ يكفي لحل مشكلة الكهرباء
إذا استثمر لهذا الغرض حتى وإن تحرك سعر الصرف بمقدار ريال أو ريالين.
على أي حال فإنه لايلمس أن هناك معالجات متكاملة للتداعيات المترتبة على
الأزمة، ويبدو أن كل جهاز في الحكومة ينظر للأمر من منظوره الخاص الضيق،
فالحكومة إذ تتجه لتخفيض الانفاق وزيادة الضرائب إنما تنظر للأزمة من
زاوية هدف توازن الموازنة وإن كانت على مستوى الاقتصاد الكلي ترتب نتائج
عكسية.
على أي حال فقد قلنا من قبل أن السبب الظاهر للأزمة يتمثل في عدم التناسب
بين الاقتصاد المالي والعيني، وهكذا فإن الجوهر الحقيقي للمشكلة يكمن في
النظام الرأسمالي الذي تفوق قدرته على الإنتاج قدرته على التوزيع.
أي أن الملكية الفردية لوسائل الانتاج وسوء توزيع ثمار الانتاج يخلق
فائضاً يسبب حالة من الكساد تدفع المشروعات إلى التوقف بل وإلى الإفلاس.
إن شره الرأسمالية إلى الربح السريع يجعلها توظف القليل من الأموال في
الاقتصاد العيني كالزراعة والصناعة والنقل والكثير منها في المضاربة أو
الاستثمار المالي، وحيث أن هذا الأخير مرتبط بالاستثمار في المجال الصناعي
والزراعي فإن الكارثة تحدث من تحليق الاستثمارات المالية في الهواء، وقد
لايكون المطلوب الآن القفز إلى النظام الاشتراكي. لكن هذا يلح على ضرورة
العودة إلى تدخل أكبر للدولة في النشاط الاقتصادي.