اقتصاد عربي نُشر

دمشق واهلها في رمضان بين الغلاء الفاحش والحرب

 

استقبل الدمشقيون رمضان هذا العام مع معمعة الحرب المستمرة في البلاد منذ سنتين، وتواصل الأحداث الدامية، ومع ارتفاع جنوني في أسعار المواد الاستهلاكية والغذائية والكهربائية وأجور النقل وحجة التجار جاهزة للرد فورا، إذا ما سألتهم عن السبب؛ إنه ارتفاع الدولار وانخفاض الليرة السورية أمامه حيث انخفضت إلى أكثر من الثلثين عما كانت عليه في رمضان العام الماضي (في رمضان العام الماضي كان الدولار يعادل 80 ليرة، حاليا يعادل نحو 275 ليرة في السوق السوداء)، ويقرن التجار أسعارهم بالدولار وارتفاعه، ولذلك يحركون أسعارهم كل يوم، بل أكثر من مرة في اليوم الواحد مع حركة الدولار في السوق السوداء.

وعلى الرغم من مآسي الحرب الدائرة والأزمة العاصفة والوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب يتبادل الدمشقيون التهنئة بقدوم الشهر الفضيل من خلال الهاتف بشكل خاص، ومن خلال تبادل الرسائل عبر الجوالات، التي تتضمن عبارات فيها مسحة من الحزن بسبب الأوضاع الصعبة، ومنها مثلا: «رمضان بيجي ورمضان بيروح وها رمضان قلبي مجروح.. بس معايدة الغوالي بترد الروح.. رمضان مبارك».

 

كثير من المتسوقين في أسواق دمشق يحدثونك بمرارة: «كل شيء في دمشق بات يحسب على سعر الدولار». ويقول فادي نصر، وهو أب لخمسة أولاد: «هل يُعقل أن أشتري كيلو الرز بـ180 ليرة وعلبة المحارم بمائتي ليرة وأعود في اليوم التالي لأرى أن السعر زاد أكثر من الربع، وإذا احتججت لدى البائع يقول لك: يا أخي، الدولار ارتفع ألم تسمع؟! البارحة غير اليوم!».

 

في العاصمة دمشق يقول الناس لك حتى الأسواق الشعبية خذلتنا يا صديقي فلحقت بأسواق «الغلاونجية»؟! فبينما تشهد الأسواق العريقة والراقية في دمشق جمودا في حركة البيع وإقبالا ضعيفا خاصة مع تلاشي ما يسمى بالطبقة الوسطى في نسيج المجتمع السوري.

 

يتنهد عامر سلوم، الذي يعرّف بنفسه على أنه مساعد فني في مكتب هندسي ومواظب يومي على ارتياد سوق الهال القديم وسط دمشق؛ تلك السوق الشعبية المتخصصة في بيع الخضراوات والفاكهة, ويقول: «للأسف، حتى هذه الأسواق خذلتنا نحن الفقراء وأصحاب الدخل المحدود، فرفعت أسعارها بشكل يفوق قدرات دخلنا، وهذا ما اضطرني لتقليص مشترياتي وشراء الضروري جدا فقط لحاجة أسرتي من الخضراوات، بينما عزفنا عن شراء الفاكهة؛ فهل يُعقل أن يتجاوز سعر كيلو الموز هنا وفي أرخص سوق للخضار بدمشق الـ300 ليرة، وكذلك حال فاكهة الصيف التي تشتهر بإنتاجها غوطة دمشق وريفها كالكرز والمشمش والخوخ والدراق وغيرها؟! هذه منتجات محلية ومع ذلك سعرها مرتفع جدا بحجة ارتفاع الدولار، تصوّر! حتى الأعشاب والحشائش التي تنبت لوحدها في البساتين ونستخدمها في السلطات والفتوش، مثل البقلة والجرجير وغيرها، رفع الباعة أسعارها بشكل غير مقبول. (أوف.. شي بحط العقل بالكف)»، ويطلق عامر تنهيدة عميقة وهو يتركنا باحثا عن أرخص بائع بندورة في السوق.

 

من جهته، يعلق سالم جابر (40 عاما)، وهو كما يعرّف نفسه موظف في محل لبيع الألبسة الجاهزة بدمشق وأب لثلاثة أولاد ولا يتجاوز راتبه الشهري الـ15 ألف ليرة سورية (نحو 50 دولارا أميركيا)، يعلق مستنكرا: «هل يعقل أن أشتري كيلوغرام البندورة من سوق الهال القديمة، وأنا مواظب عليها بشكل شبه يومي، بـ50 ليرة، لأفاجأ في اليوم التالي بارتفاع سعرها لـ150 ليرة، ولينخفض بعدها قليلا؟! هذا هو حال معظم الخضار كالكوسا والباذنجان، وحتى البصل، حتى البصل الذي لم يكن يعيره أحد اهتماما لحق بقافلة الارتفاع!».

 

بائعون في السوق يبررون ويرون أنه من المنطقي أن تتأثر سوقهم، وهو سوق الفقراء بالأزمات والأحداث التي تمر بها البلاد، ومع ذلك تبقى الأسعار فيها أقل من معظم أسواق دمشق الأخرى.

 

ليست الخضراوات والفاكهة هي التي غدرت بالصائمين والفقراء فقط، فقد لحقتها أسواق اللحوم الحمراء والبيضاء وحتى الفول والفلافل والحمّص (المسبحة)، تلك الأكلات الدمشقية الشعبية والعريقة التي لا غنى للصائم عنها في رمضان على موائد الإفطار والسحور, تضاعفت أسعارها.. لحوم الغنم عزفنا عن شرائها، يقول إبراهيم المصري، وهو موظف في مؤسسة حكومية، حيث وصل سعر الكيلوغرام منها لأكثر من 2500 ليرة.. يضيف إبراهيم: «المسبحة والفول المدمس تضاعفت أسعارهما أيضا، وعندما تسأل الحمصاني (بائع المسبحة) والفوّال (بائع الفول) يجيبانك على الفور: «يا أخي، الدولار ارتفع بشكل كبير، ولذلك ارتفعت أسعار المواد الأولية التي نحضّر منها منتجاتنا»! حتى الفلافل تضاعف سعرها، وهي التي كانت رفيق الفقراء عندما لا يجدون المال الكافي لشراء وجبة طعام، فيكون الحل بساندويتشات فلافل للأولاد والأسرة.. الآن، حلّق سعرها لتنافس ساندويتش الشاورما! وحدث ولا حرج عن القهوة والشاي، التي تضاعفت أسعارها، والمتة ذلك المشروب الشعبي الشهير زادت أسعارها وبشكل متسارع ومدهش، وعندما تسأل البائع يجيبك على الفور وبثقة عالية بالنفس، وكأنه محلل اقتصادي عريق: «يا أخي الدولار دوبل (تضاعف) والمتة والقهوة والشاي مواد مستوردة من أميركا الجنوبية والهند، ولذلك سعرها سيرتفع بالتأكيد».

 

«يا مستعجل وقف تقلك»، يستعيد حاليا الدمشقيون هذا المثل الشعبي مع أزمة النقل التي يعيشونها والازدحام المروري حيث ينتظر الناس طويلا ليستطيعوا ركوب حافلة نقل عام أو السرافيس التي كانوا يتندرون عليها ويسمونها «الفئران البيضاء»، فقد أعادت الأزمة مجدها وعزّها الذي تبوأته كوسيلة نقل داخلي عاملة في العاصمة والمدن الكبرى في تسعينات القرن الماضي, كما أعادته لباصات النقل الداخلي الكبيرة، التي انتشرت أواخر سبعينات وثمانينات القرن الماضي مع عودة للمشهد نفسه، وهو ركاب محشورون على الواقف وبعضهم لم يجد مكانا له، فتعلق على باب الباص حتى يضمن وصوله لمنزله قبل موعد الإفطار.. «إننا كعلبة سردين محشورين داخلها نتصبب عرقا في هذا الجو الدمشقي الحار جدا»، يعلّق عباس أحمد، وهو موظف في مؤسسة حكومية استطاع أن يحجز مكانا له في حافلة النقل الداخلي الكبيرة المتجهة من مكان عمله في شارع بغداد نحو ساحة العباسيين حيث يقع منزله! أما سيارات الأجرة الصفراء، فحدّث ولا حرج؛ فكثير من سائقي هذه السيارات باتوا يفرضون الأجرة التي تناسبهم من دون أن يشغلّوا العداد، وإذا اعترضت على غلاء أجرتهم وعدم التزامهم بالعداد فالجواب يكون جاهزا: «البنزين تضاعف ثمنه، وكذلك زيت السيارة وقطع التبديل، فلم يعد يتناسب معنا ما يسجله العداد», وفي كثير من الأحيان (يتابع عباس) يتوقف السائق ليركب شخص آخر وثالث إذا كان ذاهبا لمنطقة قريبة من الطلب الأول، ويأخذ من الجميع الأجرة التي يريدها!

 

الشرق الأوسط
 

مواضيع ذات صلة :