آراء وأقلام نُشر

الإدارة الاقتصادية للتنمية في اليمن

 

منذ انتهاج اليمن برنامج وسياسات الإصلاح الاقتصادي في النصف الأول من عام 1995م وتحقيق نقلة نوعية ونجاح كبير لا يمكن إنكاره في المرحلة الأولى من برنامج الإصلاحات الاقتصادية وتمثل ذلك في إصلاح القطاع المالي والنقدي وحدوث تحسن كبير في استخدام أدوات كل من السياسة المالية والنقدية وبالتالي تحسن أوضاع الموازين الداخلية والخارجية إلى مستويات مقبولة.

وفي الحقيقة أن نجاح المرحلة الأولى من برنامج الإصلاح الاقتصادي في اليمن يرجع إلى الدعم الفني والمادي المقدم من صندوق النقد والبنك الدوليين بشكل رئيسي ثم إلى دعم المجتمع الدولي والدعم المقدم من دول مجلس التعاون الخليجي، خاصة في اجتماع لندن للمانحين في عام 2006م أو في اجتماع المانحين في الرياض واجتماع واشنطن خلال 2012م.

من المهم القول إن الدعم الذي يقدمه المجتمع الدولي والدول الشقيقة في مجلس التعاون الخليجي دعم لم يحصل لليمن من قبل، خاصة ذلك الدعم المادي والسياسي والمعنوي الذي تمثل بدعم المجتمع الدولي في معظمه للمبادرة الخليجية التي هدفت إلى خروج اليمن من حالة الصراع والاحتراب التي أصابت البلاد خلال عام 2011م والبدء بتنفيذ المبادرة الخليجية وملحقاتها المزمنة والمرتكزة في الأساس على تسوية الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية والإنسانية، وما هو ملاحظ حتى الآن أن الملف السياسي ربما حظي بالاهتمام الأكبر حيث تم تشكيل حكومة وفاق وطني من القوى السياسية المتصارعة، ثم تلى ذلك إجراء انتخاب رئيس الجمهورية عبده ربه منصور هادي رئيساً توافقياً للفترة حتى فبراير 2014م وإجراء الانتخابات، ثم الموضوع الثالث هو إقرار إجراء حوار وطني شامل لكل المكونات السياسية الذي انطلق يوم 18مارس2013م.

حقيقة إن هذه الموضوعات والقضايا التي تم إنجازها ضمن محتويات الملف السياسي كانت إلتزاماً على اليمنيين تنفيذها وفق المبادرة الخليجية ولائحتها التنفيذية المزمنة بالإضافة إلى ترتيبات أخرى عديدة في الجانب العسكري والأمني إلخ.

صحيح إن الملف السياسي وتلك الإجراءات التي تمت في إطاره، بها أهمية بالغة إلا أن الملف الاقتصادي أيضا كان ولا يزال وسيظل قضية القضايا ومشكلة رئيسية دافعة لقيام حركات انقلابية وثورات اجتماعية مطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية المتعلقة بحياة المجتمعات وقد يكون الباعث الرئيسي لانفجار وقيام الثورات وسرعان ما يستجيب عامة الناس المتضررين من الأوضاع الاقتصادية المتردية عند أول نداء وقيام الثورات كما حدث في مطلع العام 2011م في الدول العربية والتي أطلق عليها «دول الربيع العربي» وآراها كاقتصادي « دول الشتاء الاقتصادي العربي القارس» لأنها أتت على الأخضر واليابس وزادت من المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها الدول العربية «دول الربيع العربي» قد يكون هذا الاسم ملائماً من منطلق سياسي كون «الربيع العربي» كانت ثورات مطالبة بالتغيير السياسي كحق طبيعي لأي مجتمع من المجتمعات سواء في دول الربيع العربي أو غيرها ولكن شريطة الحفاظ على كل المكتسبات والانجازات ومؤسسات الدولة والقطاع الخاص لأن كل ذلك ليس ملكاً للنظام السياسي الحاكم هنا في اليمن «أو هناك» وإنما ملك لكل اليمنيين شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً، فالوطن للجميع وملك لكل المواطنين داخل أحزاب المعارضة والحزب الحاكم أو خارج هذه الأحزاب ولذلك فإن الحفاظ على الوطن والمواطنين واجب كل القوى السياسية الحاكمة والمعارضة وفي كل ساحات الثورة، وهنا تصبح المطالب بتغيير النظام لأي سبب وأي مبرر هو أمر مشروع بل يمكن القول بأن «الثابت الوحيد هو التغيير الدائم» بما يتفق ومصلحة الوطن العليا..

مما سبق فإنه يمكن القول أن الملف الاقتصادي بالغ الأهمية سواء قبل 2011م أو بعدها، بل إن إعطاء الشأن الاقتصادي الأولوية المطلقة كان يمكن أن يؤدي إلى تحسن الأوضاع المعيشية لكل أفراد المجتمع من خلال التركيز على معالجة الفقر والبطالة وتحسين مستويات معيشة أفراد المجتمع، كان يمكن أن يجعل درجة استجابة الكثير من أفراد المجتمع وبالذات أولئك الذين يقطنون جولات ونقاط عواصم المدن بحثاً عن عمل، بالإضافة إلى القوة العاملة القادمة من مؤسسات التأهيل المختلفة مثل الجامعات والمعاهد وكليات المجتمع بحثاً عن العمل ومصادر دخل في سوق العمل بمؤسساته العامة والخاصة نقول لو أن الملف الاقتصادي كان حظي بالاهتمام والمعالجات الحقيقية المتصلة بحياة الناس لكانت درجة استجابة كثير من أفراد المجتمع فاترة إن لم تكن منعدمة ولم تراهم في ساحات الثورة لاعتبارين الأول: إن هؤلاء الناس يحصلون على حقوقهم اقتصادياً في عيش كريم ولديهم مصادر داخل تغطي حاجياتهم وثانياً: ارتباطهم بأعمالهم في مختلف مؤسسات الدولة والقطاع الخاص وحفاظهم على أعمالهم قد يمنعهم من ترك أعمالهم والذهاب إلى ساحات الثورة.

لقد سبق أن أكدنا على أهمية الالتفات الحقيقي وإتخاذ الإجراءات الفعلية الحقيقية لمعالجة المشكلات الاقتصادية التي يئن منها معظم أفراد المجتمع في اليمن حتى بعد انتهاج برنامج الإصلاح الاقتصادي وتلقى الكثير من الدعومات المالية والفنية لليمن، كما أكدنا في مقابلة لنا في 24 /2 /2011م، في إحدى الصحف الرسمية الثورة تقريباً أو صحيفة 26 سبتمبر، على ضرورة الالتفات والاهتمام بوضع حلول عاجلة للمشكلات الاقتصادية ذات المدى القصير وسرعة تنفيذ تلك الإجراءات التي كان من الممكن أن تشكل حلولاً جذرية للناس والتي سيكون لها أثر إيجابي في التعاطي مع الأزمة القائمة والتوصل إلى حوار أو وفاق وفي وقت مبكر قبل أن تكبر وتزداد وتنتشر الخسائر والتكاليف الاقتصادية والسياسية وحتى الاجتماعية في ربوع اليمن، نقول ذلك لأن الدولة عندما أعلنت عن «60» ألف وظيفة ترك الكثير من الشباب ساحات الثورة وذهبوا إلى الخدمة المدنية للإطلاع على الأسماء ومدى وجود كل منهم في الترشيح والحصول على فرصة عمل، وهنا نؤكد على أن الإدارة الاقتصادية للتنمية في البلاد لم تكن قادرة على اتخاذ القرار الاقتصادي المناسب في الوقت المناسب لحل كافة القضايا والمشكلات الاقتصادية قصيرة الأجل وذات الصلة بمعيشة وحياة الناس أو طويلة الأجل، ولذلك تراكمت المشكلات الاقتصادية قبل الإصلاح الاقتصادي أو بعد ذلك، ويرجع ذلك إلى اعتبارات عديدة منها:

أولاً: اختيار الكثير من المسئولين الحكوميين وبالذات أولئك المسئولين عن المؤسسات المعنية بالإدارة الاقتصادية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية من غير المتخصصين والمحترفين.

ثانياً: عدم إدراك أولئك الذين يديرون اقتصاد البلاد لا يدركون معنى السياسات الاقتصادية والربط بينها وبين الإجراءات اللازمة لحل الاختلالات الاقتصادية ومعالجة الأوضاع المعيشية لكافة أفراد المجتمع، وهذا مظهر من مظاهر الفساد التي برزت بتولي الشخص غير المناسب في إدارة مؤسسات غير مناسبة وغير متناسبة مع إمكانياته وقدراته.

ثالثاً: قيام هؤلاء بإدارة اقتصاديات الدولة بشكل عشوائي وإرتجالي واتخاذ الإجراءات غير المناسبة وفي الوقت غير المناسب لمعالجة مشكلة اقتصادية واختلالات اقتصادية معينة ناهيك عن عدم القدرة على التنبؤ بآثار وأعراض وتشابك تلك القرارات أو الإجراءات وبالتالي فإن عدم مناسبة المعالجات الاقتصادية للمشكلات الاقتصادية أو تأجيل المعالجات يؤدي بالضرورة إلى زيادة وارتفاع التكاليف ليس الاقتصادية ولكن ارتفاع التكاليف الاجتماعية وحتى السياسية.

رابعاً: غياب العمل المؤسسي وآلياته المؤسسية سواء في اختيار القيادات في مختلف مجالات العمل وبالذات تلك المعنية بالإدارة الاقتصادية للدولة، الأمر الذي أدى في المحصلة النهائية إلى انتشار ظاهرة الفساد في مختلف أجهزة ومؤسسات الدولة.

لقد كانت الإدارة الاقتصادية للتنمية ولا تزال وستظل هي الحل الناجع لأساس المشكلة الاقتصادية المتمثلة في موارد اقتصادية محدودة مقابل حاجات مجتمعية لامحدودة» ويكمن دور «الإدارة» الاقتصادية للتنمية هي توزيع الموارد المحدودة المتاحة لأي دولة أو مجتمع على الحاجات غير المحدودة لأفراد هذا المجتمع بما يؤدي في النهاية إلى تحقيق ولو الحدود الدنيا لإشباع حاجات أفراد المجتمع من السلع والخدمات اللازمة لبقاء ونماء هذا المجتمع بالتزامن مع نماء وتنمية موارد المجتمع من خلال إدارة اقتصادية تنموية ذات كفاءة وقدرة وفاعلية في توزيع الموارد الاقتصادية على أفراد المجتمع، التوزيع والتخصيص الأمثل وتحقيق الرشد الاقتصادي في اتخاذ كافة الإجراءات الاقتصادية، خاصة في ظل الاختلالات الاقتصادية في الدول الساعية للنمو والتقدم والنقص الكبير في الموارد الاقتصادية المختلفة عن الاستخدامات اللامحدودة لأفراد المجتمع من جهة وارتفاع معدلات النمو السكاني من جهة أخرى.

ونظراً للظروف السابق ذكرها، محدودية الموارد ولا محدودية الحاجات قد يكون لزاماً على الإدارة الاقتصادية للتنمية هنا أو هناك إلى البحث عن مصادر لجلب مزيد من الموارد لتغطية وتلبية حاجات المجتمع التي تفوق الموارد الذاتية.. هنا تلجأ الإدارة الاقتصادية على سبيل المثال- إلى الاستدانة إما داخلياً وإما خارجياً أو كلاهما بالإضافة إلى الحصول على معونات أو هبات أو منح لسد تلبية حاجات أفراد المجتمع التي تفوق الموارد الذاتية للمجتمع، فمثلاً عندما لجأت الجمهورية اليمنية في عام 2006م لطلب العون من المجتمع الدولي، وحصلت على ما يقرب أو يزيد عن (6) مليارات دولار كان ذلك بهدف الوفاء بمتطلبات المجتمع اليمني بعد عدم قدرة الموارد الذاتية اليمنية وعدم كفايتها لتغطية حاجات المجتمع اليمني، وكان ذلك الإجراء والتصرف لصانع القرار الاقتصادي إجراء طبيعي وواقعي في المحصلة النهائية (بحذر شديد) نقول بحذر شديد لإدراكنا أن الموارد الذاتية لم يتم استخدامها الاستخدام الاقتصادي الرشيد ناهيك عن تسرب جزء منها لوجود شبهة فساد..

وفي عام 2012م حصلت اليمن على دعم اقتصادي وغير اقتصادي لم تحصل عليه من قبل على الإطلاق، خاصة بعد أحداث عام 2011م وتوقيع القوى المتصارعة في اليمن على المبادرة الخليجية التي تقدمت بها دول مجلس التعاون الخليجي وفي المقدمة المملكة العربية السعودية ووقوف المجتمع الدولي والأمم المتحدة وراء المبادرة من أجل إخراج اليمن من أزماتها ومن أتون حرب أهلية محدقة، بعد أحداث ثورة 2011م التي أتت على الجزء الأكبر من الموارد الاقتصادية الحقيقية وغير الحقيقية، وأضافت أزمات جديدة إلى أزمات الاقتصاد اليمني واختلالاته التي حلت به قبل عام 2011م.

تمثل الدعم الخليجي والدولي بعقد لقاءات للمانحين الأشقاء والأصدقاء وتقديم العون الإنمائي حتى يتجاوز الاقتصاد اليمني أزمات عديدة وعجوزات الموازين الداخلية والخارجية.

وقد تم عقد لقاء المانحين في الرياض كما تم عقد لقاء واشنطن لتقديم الدعم المالي لسد فجوة التمويل التي أصابت الاقتصاد اليمني وتم حصول اليمن عبر لقاء واشنطن والرياض ما يقرب من (8) مليارات دولار.

لكن للأسف الشديد لم يتم استغلال تلك المبالغ التي حصلنا عليها في مؤتمر المانحين في عام 2006م قرابة ستة مليارات دولار رغم الحاجة الماسة للاقتصاد اليمني لذلك التمويل وتلك المبالغ ووصلت الأمور في نهاية المطاف إلى نشوب خلاف بين رئيس الوزراء (قبل أحداث 2011م) مع نائبه للشئون الاقتصادية وإحالة كل منهم بالمسئولية على الآخر، واضطر معها رئيس الدولة السابق إلى إدارة مجلس الوزراء لثلاثة أيام متواصلة تقريباً.

وفي 2012م حصلنا تقريباً على (8) مليارات دولار عبر اجتماعي الرياض وواشنطن، وحتى الآن لم تسلك الإدارة الاقتصادية للتنمية في اليمن سلوكاً يكفل سرعة الحصول على منحة تقضي على الاختناقات التي يعاني منها الاقتصاد اليمني ويستعيد عافيته.

وللإنصاف نقول بأن حكومة الوفاق تقدمت مؤخراً بوثائق ودراسات وتخصيصات تمثل خارطة طريق لتقديم وتنفيذ التعهدات وتخصيص استخدام ذلك التمويل في تنفيذ المشروعات المتفق عليها بمساعدة المانحين في وضع تلك الخارطة وكذا التزام الحكومة بتوقيع إطار المساءلة المتبدلة يبنها والمانحين من أجل الإسراع في استخدام وتخصيص وتمويل برنامج الاستقرار الاقتصادي المكون من أربعة ملفات، الملف السياسي، والملف الأمني، الإنساني والملف الرابع الاقتصادي.

لكن ما نخشاه هو عدم البدء بالإسراع في فتح الملف الاقتصادي واستغلال الدعم المادي المقدم من أصدقاء وأشقاء اليمن والإسراع في معالجة أزمات الاقتصاد اليمني اليوم وليس غداً، لأنه كما سبق القول إن أي تأجيل في معالجة اختلالات الاقتصاد والمشكلات الاقتصادية يؤدي إلى زيادة وارتفاع قيمة وتكاليف معالجة الاختلالات والمشكلات الاقتصادية خاصة وأن المشكلة الاقتصادية في اليمن تشكل النسبة الأغلب في حالة اليمن 80-70% من أزمة اليمن في 2011م وما بعدها أزمة اقتصادية وذات بعد اقتصادي مع التسليم بأهمية الملفات الأمنية والسياسية التي حققت وقطعت شوطاً كبيراً تنفيذاً للمبادرة الخليجية.

وختاماً نقول: علينا الإسراع في فتح الملف الاقتصادي ومواجهة مشاكلنا ولو جزئياً بالدعم المادي المقدم لنا من أصدقاء اليمن في 2012م وبذلك نضمن الإسراع في تنفيذ المبادرة الخليجية والوصول إلى إجراء الانتخابات في 2014م.

والله من وراء القصد.

 

أستاذ الاقتصاد والعلوم المالية والمصرفية- جامعة تعز

مواضيع ذات صلة :