لا جدال على أن الحكومة الحالية ورثت أوضاعا اقتصادية سيئة, بنية تحتية متهالكة, ورأسمال دولة متآكل.
تم تدمير القطاع العام بالتصفية ووضع اليد والبيع الرخيص, وما بقي من المؤسسات والشركات العامة تعاني من الإفلاس والديون والكثير منها تحقق خسائر سنوية تغطي من الموازنة العامة.
إن الفساد المالي الضارب في المؤسسات والأجهزة الإيرادية يضيع على الدولة الجزء الأكبر من الموارد, وليست هناك إحصائيات وبيانات دقيقة يمكن الاستفادة منها في تحديد الأرقام.
لكن ما يتسرب يشير إلى أن أكثر من نصف الموارد يلتهمها الفساد, كما تهدر نسبة كبيرة بسبب ضعف كفاءة الأجهزة الإيرادية.
ولا يتوقف الفساد عند تحصيل الإيرادات وإنما يستمر على الجانب الآخر في الاختلاس والعبث بالنفقات, وينعكس هذا كله على المتغيرات الاقتصادية، فهناك تدنٍ واضح في مستويات الادخار والاستثمار العام وعجز دائم في الموازنة وزيادة متواصلة للدين العام (الداخلي والخارجي) وارتفاع خدمته.
يتضافر الفساد المالي مع بيئة سياسية واجتماعية طاردة للاستثمار الخاص المحلي والأجنبي, ومسببة تباطؤ النمو الاقتصادي ومراوحة الناتج والدخل القومي عند مستويات دنيا, وبالتالي انخفاض نصيب الفرد وارتفاع مستوى البطالة ومعدلاتها.
ويعاني الاقتصاد اليمني من عجز مستمر في ميزان المدفوعات, وبرغم دخول اليمن نادي المصدرين للنفط والغاز إلا أن العجز في الميزان التجاري لم يزل قائما ودائما.
هذا العبء الثقيل ورثته الحكومة.. والمخيف فيما يبدو ويتأكد من أدائها أنها عاجزة عن الحركة, ومصابة بشلل خلقي لم يساعدها على التغلب عليه توكؤها على عكاز مشروخ وهي في كل الأحوال ليست سيد قرارها, وأجرؤ على قول ذلك.
وليست المأساة أن الحكومة هيئة غير متجانسة وإنما الأدواء والعلل أفقدتها جسارة الخيال وإرادة الفعل, كما أن أعضاءها منفردون تنقصهم الكفاءة, وتكفي نظرة لاستعراض الأسماء على المواقع للتأكد من أن أغلبهم بلا علم ولا اختصاص, فضلا عن أنهم لا يتمتعون بمزايا القادة القادرين على إدارة الكفاءات البشرية العاملة تحت سلطانهم الإداري.
وبسبب الشلل والافتقاد للعلم والخبرة استسلموا بسهولة للذين تلقفوهم من صغار الموظفين المصابين بالجهل ولكن البارعين في استخدام أسلحة الانتهازية الرخيصة والصدئة.
لهذا لا غرابة في أن تخطط حكومة الوفاق الوطني للفقر, فالأرقام المتاحة عن الناتج المحلي الإجمالي المتوقع حتى 2015م تشير إلى أن نصيب الفرد من الدخل القومي سيبلغ مستوى يقل بمعدل 9.8% عما كان عليه في 2010م إذ كان في تلك السنة 12.014 ريال, وتسعى الحكومة إلى أن يصل إلى 109.199 في 2015م, وبأخذ التفاوت الحاد في الدخول واتجاه الفجوة إلى الاتساع بين مستوياتها العليا والدنيا فإن النتيجة زيادة مخيفة في افتقار الطبقات الفقيرة.
وتذهب التوقعات إلى اتجاه عجز الحساب الجاري في ميزان المدفوعات نحو الارتفاع ليصل إلى حوالي 1.5 مليار دولار بزيادة 400 مليون دولار عنه في 2010م وبنسبة 36%.
والمحصلة زيادة الاعتماد على العالم الخارجي في ظل هشاشة البنية التحتية وارتفاع المخاطر أمام الاستثمار الخاص وشحة الموارد العامة المتاحة.
ما ينتج عنه التراخي في إدارة وتوجيه التنمية وانخفاض معدلات النمو أمام نمو سكاني نشط وغير خاضع للسيطرة.
كذلك تشير البيانات والتوقعات الرسمية المبنية عليها أن كمية الإنتاج من النفط ستنخفض في 2015م بنسبة 28% عما كانت عليه في 2010م، وسينخفض نصيب الحكومة من النفط الخام بنسبة 24.5% خلال الفترة نفسها, كما ستنخفض الصادرات من النفط الخام بواقع 54.5%
ومع افتراض ثبات الأسعار فإن تراجع عائدات النفط سيكون كارثيا على الاقتصاد الوطني وسيؤثر سلبا على الاحتياطيات النقدية ومن ثم على أسعار الصرف ومعدلات التضخم.
أمام هذه المخاوف لا تملك الحكومة أي تصور للبحث عن موارد جديدة ومصادر أخرى للعملة الصعبة, والظاهر أنها تراهن على الخارج وتنتظر الإحسان من المانحين.
ومنذ تشكيلها ماانفكت تنادي وتستجدي من غير أن تبذل جهودا لتطوير الموارد الذاتية وتقليم مخالب الفساد بما يطمئن بالتعافي النسبي للاقتصاد النائم في غرفة الإنعاش, ومع أن الإسراف في الاعتماد على الخارج تستتبعه أثمان سياسية فإن الحكومة لا تأبه ولا تبالي.
وتقديم الموازنة للعام المالي 2013م شاهد بليغ الدلالة على أن الحكومة ماضية في طريق ونهج سابقاتها, وقد نستدل على ذلك من أمرين:
الأول تبويب الموازنة بوضع إيرادات النفط والغاز في الجزء الجاري منها رغم أن هذه في حقيقتها إيرادات رأسمالية لأن النفط والغاز من الأصول الرأسمالية التي يتوجب عند بيعها استثمار عائداتها لتوليد أصول جديدة وبديلة.
إن هذه الأصول الرأسمالية (النفط والغاز وغيرها من الثروات المعدنية) هي ثروة ملايين السنين من فعل الطبيعة, ولا يجوز توجيه عوائد بيعها لأغراض استهلاكية.
والأفراد الأسوياء, ناهيكم عن الدول, يحافظون على ما ورثوه من آبائهم وأجدادهم ويراكمون فوقها إذا استطاعوا بالجهد والعرق, وأما السفهاء فهم وحدهم الذين يبددون ثروات الآباء والأجداد ويورثون أبناءهم الفقر والحرمان.
وربما تتذكر أن الرئيس السابق طفق يتحدث بعد استخراج النفط أن عائداته ستوظف في التنمية الزراعية.
وكان ذلك كلاما للاستهلاك لأن إيرادات النفط وضعت من البداية في الجزء الجاري من الموازنة ولم توجه للتنمية.
والآن فقد كان على الحكومة أن تتجه لمعالجة هذا الأمر تدريجيا, ولا أعني أنه من الواجب نقلها مباشرة إلى الموازنة الرأسمالية, ولكن الممكن بتنشيط الموارد الأخرى لتحقيق فائض في الموازنة الجارية لتمويل الاستثمارات, أما أن تستهلك إيرادات النفط مع تحقيق عجز جار فهي أسوأ الكوارث.
ولا يجوز تبرير هذا السلوك بما تفعله الدول العربية المنتجة للنفط, فالسفاهة ليست نموذجا قابلا للاحتذاء.
وإن كانت الحقيقة أن هذه الدول توفر فوائض وتستثمرها في أصول عقارية وصناعية وفي ودائع وسندات واستثمارات أخرى في الداخل والخارج.
وأما الأمر الثاني فهو استمرار الصناديق الخاصة التي يمثل وجودها إخلالا بإحدى القواعد الملزمة لوضع الموازنة العامة للدولة وأبرزها مبدأ وحدة الميزانية وشمولها كافة الموارد وجميع أوجه الإنفاق.
الصناديق الخاصة تعد خروجا على هذا المبدأ وتفتح أبوابا واسعة للفساد.
والوظائف التي تؤديها يمكن إسنادها للهيئات والوزارات ذات العلاقة, ولكن القيام بهذه الوظائف بواسطة الصناديق يهدر المال العام إذ تتطلب تكلفة مضاعفة على شكل مكافآت ومرتبات وسيارات للمدراء والمستشارين وبناء مقرات إدارية أو تحمل إيجارات ونفقات تشغيل, ومن ثم إيجاد شبكات مصالح وفساد تخلق تيارات مالية ونقدية خارج نطاق سيطرة راسم السياسة الاقتصادية.
والحكومة الحالية تناظر سابقاتها في تقديم أرقام مضللة؛ فالبيان المالي لمشاريع الموازنة العامة للعام 2013م يتحدث عن إيجابيات تحققت في العام 2012م ويقول بأن العجز الكلي للموازنة انخفض بنسبة 61% عن الربط المقدر بـ26% عن العجز الفعلي في 2011م.
لقد تحدث عن العجز الكلي دون أن يفصل للعجز الجاري ودون أن يبين أن سبب هذا هو خفض الإنفاق الاستثماري لأن هذا يظهر أداءا سلبيا للحكومة وليس العكس, وإن كان في الواقع قد أبان جزءا من الحقيقة وهو زيادة السحب من القروض والمساعدات الخارجية.
مع هذا فإن هذه الإيجابية تنكشف حقيقتها حين الحديث عن السلبيات إذ تعترف الحكومة في بيانها أن النفقات الاستثمارية تراجعت في 2012م بمعدل 58%.
وتتباهى الحكومة بالإيجابيات فتقول في بيانها المالي إن حصة الحكومة من الأرباح زادت في 2012م بمعدل 137.8% دون أن تبين أنها تشمل متأخرات لدى المؤسسات العامة من سنوات سابقة.
إنه جهد حقيقي في المتابعة والتحصيل ولكنه لا يعكس نموا حقيقيا للإيرادات.
هل أكتفي ؟
الصورة أشد قتامة وأكثر مدعاة للفزع, ولكني أكتفي وأتوقف عن الكلام المباح.