تشير التجارب التنموية في العديد من البلدان النامية والأقل نمواً إلى أن مشاركة القطاع الخاص في عملية التنمية يشكل أحد العوامل الأساسية والهامة في نجاح أو فشل عملية التنمية، كون مسئولية التنمية تقع على كافة أبناء المجتمع، أفراداُ وجماعات. وأن وجود شراكة فعّالة وإيجابية بين الحكومات والقطاع الخاص يساهم بصورة فاعلة في حفز النمو الاقتصادي وتسريع معدلاته، وفي تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفي التخفيف من الفقر.
واليمن كجزء من هذا العالم تحتاج إلى هذه الشراكة وبصورة ملحة، حيث تكمن أهمية قيامها في؛ أن الدولة اليمنية، لـوحــدها، لم تعد قادرة على قيادة عملية التنمية بكافة أبعادها المختلفة (الاقتصادية، التنموية، الاجتماعية، السياسية، الثقافية وغيرها)، وكذلك على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وتوظيف وتشغيل خريجي الجامعات والمعاهد الفنية في الجهاز الإداري للدولة والقطاعين العام والمختلط، وايضا الإنفاق بصورة كافية على الخدمات الاجتماعية الأساسية من الموازنة العامة للدولة. في المقابل يؤدي القطاع الخاص دوراً اقتصادياً واجتماعياً في الاقتصاد اليمني، سواءً من حيث كبر حجم نشاطه الاقتصادي أومن حيث حجم العمالة التي يشغّلها.
لذلك، فإنه ومنذ انطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي في بداية 1995م، والحديث عن الشراكة بين الدولة (ممثلة بالحكومة) والقطاع الخاص لم ينقطع، ومع ذلك فإنه منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا والإشكالية الرئيسية القائمة في بلادنا تتمثل في أنه رغم الجهود التي قامت بها الحكومات المتعاقبة من أجل افساح المجال للقطاع الخاص لتوسيع أنشطته وزيادة استثماراته، إلا أن هذه الأنشطة واستثماراته تواجه معوقات ومشكلات عديدة ومتنوعة ساهمت في عدم تطوير العلاقة الحالية بين الحكومة والقطاع الخاص إلى شراكة حقيقة وإيجابية. كذلك لم يتمكن القطاع الخاص حتى الآن من أن يكون المحرك الرئيسي للنشاط الاقتصادي ولعملية التنمية، ومن أن يسهم بصورة فعالة في الدفع بمسيرة الاستثمارات في بلادنا.
فالدولة ترى أنها قد قامت بما يجب عليها وأنها مهدت الطريق أمام القطاع الخاص لكنه لم يتمكن من اغتنام هذه الفرصة وتسلم قيادة عجلة التنمية الاقتصادية والدفع بالنشاط الاقتصادي. في المقابل يرى القطاع الخاص أنه يجب على الحكومة الاعتراف بدور القطاع الخاص الاقتصادي والتنموي وأنه شريك كامل وبنسبة 50% وخاصة في عملية صنع السياسات واتخاذ القرارات، مشتكياً بأن الحكومات اليمنية المتعاقبة لم تشركه في مناقشة الإصلاحات الاقتصادية والمالية والإدارية التي نفذتها خلال الفترة الماضية، وأن هذه الإصلاحات كانت في إطار مطالب واشتراطات مؤسستي صندوق النقد والبنك الدوليين والمانحين، ولذلك لم تتمكن من تحقيق النجاحات المأمولة والمؤشرات الكمية والنوعية المستهدفة.
وفي اعتقادي أنه يمكن إرجاع ذلك بصورة أساسية إلى عدم وجود تحديد واضح ومتفق عليه بين الحكومة والقطاع الخاص لمفهوم الشراكة وطبيعة مكوناته وعناصره الأساسية، وما ترتب على ذلك من أمور ونتائج سلبية مثل؛ عدم وجود آلية مؤسسية تنظِّم عملية الحوار والتشاور والتنسيق بين الطرفين، وغياب التحديد الواضح لأدوار ومجالات التعاون والتكامل بينهما. كذلك تتسم رؤية الحكومات اليمنية تجاه القطاع الخاص بعدم الوضوح والشفافية، وذلك على الرغم من أن الوثائق والخطط والخطابات الرسمية تشير إلى أن الدولة قد حسمت خيارها الاقتصادي بتبني نظام اقتصاد السوق وآلياته، والعمل على توسيع أنشطة القطاع الخاص واستثماراته من خلال تحديد دورها في توفير الشروط اللازمة والبيئة المناسبة لأنشطة وأعمال واستثمارات القطاع الخاص. كما أن الدولة لا تملك حتى الآن رؤية واضحة لطبيعة دورها الاقتصادي والاجتماعي الذي يجب عليها القيام به في ظل اقتصاد السوق، الأمر الذي ساهم في استمرار ضعف البناء المؤسسي والتنظيم الإداري للدولة بصورة عامة، والحكومة بصفة خاصة، الأمر الذي يشكل عقبة كأداء في سبيل تطوير وتوسيع أنشطة القطاع الخاص، وتمكينه من أداء دوره المنشود من قبل الدولة نفسها.
دستورياً، تنص المادة السابعة من الدستور اليمني الساري " يقوم الاقتصاد الوطني على أساس حرية النشاط الاقتصادي بما يحـقق مصلحـة الفرد والمجتمع، وبما يعزز الاستقلال الوطني وباعتماد المبادئ التالية...، الأمر الذي اطلق الحرية الكاملة لكافة الأنشطة الاقتصادية بدون توجيهها نحو تحقيق أهداف اقتصادية تنموية وطنية محددة، وكذلك دون تحديد طبيعة الدور الاقتصادي التنموي والاجتماعي، والرقابي الإشرافي للدولة، ودون تحميل القطاع الخاص مسئوليات ومهام محددة، بما في ذلك مسئولياته الاجتماعية. وقد أدى كل ذلك إلى جعل الغلبة للمصالح الشخصية للأفراد وسيادتها كدافع أساسي لكافة الأنشطة الاقتصادية والتنموية، لا في القطاع الخاص فحسب وإنما في ايضاً في كافة أنشطة الدولة وقطاعاتها. لذلك لم يحظ دافع تحقيق مصلحة المجتمع اليمني بأية أهمية إلا في اطار المصالح الشخصية. وقد أثبتت التجربة خلال السنوات الماضية أن هذه الحرية كانت لها نتائج وخيمة الأداء الاقتصادي اليمني وعلى الأوضاع المعيشية والاجتماعية للمواطنين.
في المقابل يعاني القطاع الخاص نفسه من صعوبات وتحديات عديدة، فهو يتصف في عمومه بالضعف وهشاشة بنيانه، واعتماد نشاطه وحركته على نشاط وحركة الدولة وإنفاقها العام، وذلك رغم استمرار تدفق المساعدات والقروض الخارجية التي تحتاج إلى خدمات القطاع الخاص.
ومن ثم فإن القضية المطروحة للنقاش حالياُ في اعتقادي لم تعد محصورة في الإختيار بين الدولة ودورها الاقتصادي والاجتماعي والتنموي، وبين القطاع الخاص ودور الأسواق الاجتماعي التنموي، وإنما أصبحت متمثلة في الكيفية التي يمكن من خلالها تحقيق شراكة حقيقية فاعلة بين كلا الطرفين بصورة أساسية، بحيث تتكامل أدوارهما وتتناسق باتجاه تسريع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإيجاد الحلول والمعالجات للمشاكل والتحديات المختلفة التي يواجهها الاقتصاد اليمني حالياً، وفي مقدمتها مشكلتا الفقر والبطالة.
وفي إطار تفاعلنا الوطني مع جهود الأخوة المتحاورين في الحوار الوطني، وخاصة المجموعة الرابعة في فريق التنمية المستدامة، سأحاول في هذه المقالة الموجزة تقديم بعض المقترحات العملية والموضوعة لإقامة شراكة حقيقية وفاعلة بين الطرفين، كونها سوف تساهم فعلاً في الدفع بعجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية بصورة أفضل وبخطوات اسرع من خلال المساهمة بصورة أساسية في تحقيق نمو اقتصادي مرتفع وأكثر استداماً، وتحسين بيئة الأعمال والمناخ الاستثماري، وكذا زيادة وتعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني، بما يمكنه من مواجهة التحديات والمشاكل الداخلية والصدمات الخارجية.
ذلك، لأن قيام مثل هذه الشراكة ستعمل على سيادة الثقة المتبادلة وبالتالي التعاون والتكامل بين الطرفين بدلاً من الصدام والصراع والتنافر والشك والريبة، الأمر الذي سيساهم في حشد الموارد الاقتصادية وقدرات وإمكانيات الطرفين والاستغلال الامثل لها في عملية التنمية، وكذلك الاستفادة من جميع المزايا النسبية والتنافسية لكلا الطرفين من خلال تحمل كليهما مسئولية الأدوار والمهام التي يستطيع القيام بها في إطار من التوافق والتكامل والتفاعل المتبادل. وكذلك وضع سياسات عامة أفضل، وبالتالي زيادة الثقة في السياسات والإجراءات الحكومية. كما يمكن للطرفين التوصل إلى رؤى مشتركة حول الغايات والأهداف الاقتصادية والاجتماعية والتنموية العامة، وكذلك حول طبيعة القضايا والمسائل المختلف عليها وكيفية معالجتها، بما في ذلك التوصل إلى مواقف مشتركة حول المستجدات والتطورات الإقليمية والدولية ذات العلاقة بأنشطة واستثمارات القطاع الخاص، وذات الاهتمام المشترك.
وأرى أن الخطوة الأهم تتمثل في توصل المتحاورين إلى مشروع وثيقة رسمية تتضمن بصورة أساسية ما يلي:
1- اعتراف كلا الطرفين (الحكومة والقطاع الخاص) بالطرف الآخر وبدوره كطرف وشريك فاعل في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبما يمكنهما من العمل معا برؤية مشتركة من خلال آليات متفق عليها وعلاقة مؤسسية تنظيمية مستدامة أساسها المصداقية والثقة بينهما.
2- تحديد واضح ومتفق عليه لمفهوم الشراكة وطبيعة مكوناته وعناصره الأساسية. وتشكل هذه القضية، القضية الأهم إذ يجب بداية التمييز بين المفهوم الشامل للشراكة باعتباره الإطار السياسي والتنظيمي والقانوني العام لهذه الشراكة، وايضا كآلية أساسية لحل أو إدارة تناقضات المصالح بين الطرفين في مستويات ومراحل عمليات التنمية المختلفة، وبين مفهوم الشراكة بين القطاعين العام والخاصPPP والذي يُـعد أحد جوانب (أو مجالات) الشراكة الشاملة بين الطرفين، ولذلك لا يمكن أن تتم شراكة الــ PPP إلا إذا ترسخ الإطار العام للشراكة الشاملة. كذلك فإن للشراكة مستويات مختلفة، وقد تكون كلية وشاملة وقد تكون جزئية.
3- بناء على ذلك يتم تحديد الأدوار والمهام الاقتصادية والاجتماعية والتنموية المناطة بكلا الطرفين بصورة محددة وواضحة، وبما يساهم في ضبط وتوزيع وتوازن الأدوار والمهام بينهما.
4- الالتزام بالتفاوض والحوار المستمر بين الطرفين في عملية اتخاذ القرار وما يترتب على ذلك من اتفاقيات تتكامل بموجبها الأدوار وتتضح من خلالها المسؤوليات ويلتزم كل طرف تجاه الآخر نحو تحقيق الأهداف العامة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العامة للمجتمع اليمني وفي الوقت نفسه تحقيق المصالح والمنافع المتبادلة للطرفين، وفي مقدمتها الاستقرار الأمني والسلم الاجتماعي.
5- تحديد طبيعة الآلية المؤسسية الإدارية التي سيتم أنشاؤها بغرض تنظِّيم عملية الحوار وبالتالي التشاور والتنسيق بين الطرفين،
6- كيفية توزيع التكاليف، وتوزيع العوائد الناتجة عن القرارات والسياسات التي تتخذها الدولة، وكذلك تلك التكاليف والعوائد الناتجة عن عملية التنمية وبما يسهم في تحقيق الأهداف والغايات العامة للمجتمع اليمني، وتبرز هذه الأهمية بصورة أكبر في تلك الحالات التي تخلق تناقضاً في المصالح بين الطرفين وتؤدي إلى توليد أشكال مختلفة من الصراع بينهما كما هو حاصل في موضوع تطبيق قانون الضريبة العامة على المبيعات.
وتتمثل الخطوة الثانية في طرح هذه الوثيقة الرسمية للنقاش من قِـبل منظمات القطاع الخاص المختلفة وفي مختلف المحافظات. وبعد استيعاب كافة الملاحظات يمكن بعد ذلك ترجمة ما سبق عملياً في مشروع الدستور اليمني الجديد، وفي وثيقة رسمية تشكل أسساً ومبادئ للشراكة بين الدولة والقطاع الخاص.
واللَّه الموفق.