آراء وأقلام نُشر

الاستحواذ على الوظيفة العامة وغياب ثقافة الاستقالة

 

 

. سبق أن نشرت صحيفة إيلاف مقالة لي العام الماضي بعنوان "هل تبادر القيادات الإدارية بوضع استقالاتها تحت تصرف رئيس الجمهورية والحكومة؟". وقد كتبت تلك المقالة أثناء ما سمي بثورة المؤسسات والمصطنعة من طرفي النزاع حين كان كل طرف يحرض أنصاره ومحازبيه على إثارة الشغب والقلاقل في المؤسسة التي يرأسها مسئول من الطرف المناوئ، فحتى هذا التصرف والتعبير الشعبي لم يُترك للناس أن يمارسوه باختيارهم وإنما كالعادة يُساقوا كالقطيع كيفما وحيثما يريد الراعي.

 

وقد شكل تمسك القيادات العسكرية والمدنية على حد سواء بمناصبها تحدياً خطيراً لما تبقى من دولة واستفزازاً كبيراً لأغلب المواطنين، رغم أن معظم تلك القيادات قد عاثت ولاثت في تلك المناصب دون حسيب أو رقيب، وكأن تلك المناصب كانت حقاً شخصياً وملكاً خاصاً لا ينبغي أن ينازعهم عليها أحد. كما بيّن هذا الوضع وذلك الحال خاصية من خصائص النظام السابق والذي أراد من خلالها أن يثبّت أقدامه في قلب وأطراف السلطة وأن يمهد كذلك من خلال تلك الوظائف والشخصيات لمرحلة التوريث، خاصة مع بروز الميل لتعيين شباب يفتقدون للخبرة في مناصب قيادية لارتباطهم بتاريخ آبائهم الذين تحملوا باستحقاق قدراً من السلطة في فترات سابقة.

ويتحمل كل من استمرأ البقاء في تلك المناصب لفترات طويلة جزءاً كبيراً من تبعات ذلك الوضع، وأيضاً المجتمع بشكل عام لسكوته أمام مثل تلك السياسة التمييزية والمخالفة للقواعد القانونية والتنظيمية ولكل الأعراف المؤسساتية وخاصة في جمهوريات تدعي مخالفتها للأنظمة الملكية التي تنحو إلى استمرار الأشخاص وبالذات أفراد الأسر المالكة في مناصبهم لفترات طويلة قد تمتد حتى وفاتهم. ونستطيع من منظور نفساني أن نتبين تعامل أولئك الذين يتصرفون في الوظيفة العامة كملكية خاصة، بل وكذلك استغرابهم واستهجانهم توجيه النقد لتلك التصرفات باعتباره تدخلاً غير مبرر. فهم لا يرون أنفسهم في غير تلك المناصب، ولا حتى يخطر في بالهم أنهم قد يغادروها ويتركوها لغيرهم ما لم يكن إلى منصب أعلى درجة أو أكثر مورداً. وربما نستذكر مقولة رائجة لرئيس وزراء يمني سابق أن من لم يحقق الثراء خلال فترة النظام السابق فإنه مغفل ولن يثري أبداً. وينطبق الاستغراب ذاته - مع الفارق - على الأحزاب والتنظيمات السياسية التي انتقلت إليها عدوى وفيروس الاستحواذ والسيطرة لتبقى زعاماتها ثابتة ومستقرة لسنين طويلة بغض النظر عن أدائها سلباً أو إيجاباً. 

ومن المستغرب اليوم أن دعاة التغيير وبناء يمن جديد ومن ساند الثورة الشبابية المستلبة لا يرون انطباق تلك الدعوات إلا على غيرهم، رغم أن بعضهم محنطون في مناصبهم وأضحوا عامل إحباط في المؤسسات التي استحوذوا عليها وكذلك عقبة أمام انطلاق أعمالها بعد طول سبات. ولا أشك البتة أن كل من ينطبق عليه هذا الحال يعرف حق المعرفة أنه قد تجاوز كل المنطق والمعقول في احتلال هذا المنصب أو تلك الوظيفة وسواء كان ذلك عن طريق المعرفة الشخصية أو القرابة. 

لقد كانت مناشدتي في مقالتي التي ذكرتها أعلاه تنصب على إعادة النظر في القيادات الأمنية والسياسية التي كانت غارقة في الفساد حتى قمة رأسها، وتجاوز التردد في تغييرها واستبدالها بكفاءات، مع التنويه إلى ضرورة تجنب تعيين أشخاص متهمين بالفساد أو حتى تدور حولهم شبهاته، خاصة في هذه المرحلة الجد حرجة والتي تتطلب من الجميع درجة عالية من المصداقية والابتعاد عن المزايدات السياسية التي ما زالت دندن الطرفين السياسيين الرئيسيين. وفي ذات السياق، ولتوقع - كما اعتدنا - تأخير تفعيل قانون التدوير الوظيفي رغم إصدار لائحته التنفيذية، فقد اقترحت مبادرة تتبناها الحكومة باعتبارها تمثل الأحزاب السياسية المنطوية تحت المبادرة الخليجية وبدعمٍ من رئيس الجمهورية، ومؤدى تلك المبادرة دعوة القيادات الإدارية في كافة أجهزة الدولة ومؤسساتها والتي تجاوزت فترة خدمتها في ذات المنصب سبع سنوات إلى وضع استقالاتها تحت تصرف رئيس الجمهورية وحكومة الوفاق. وبالتالي تتيح تلك المبادرة وتساعد رئيس الجمهورية مع حكومة الوفاق على إزالة الاحتقان والتشنجات المبررة منها وغير المبررة، فضلاً عن إجراء التغييرات اللازمة لتجاوز المرحلة بشكل إيجابي بما في ذلك إعادة تعيين الكفاءات في مناصب أخرى بحسب المعايير المهنية للوظيفة. وأعترف اليوم أن ظني قد خاب، وثبت أن الوظيفة العامة بعيدة كل البعد عن التكليف في ثقافة وعُرف اليمنيين، فهي حقٌ من بلغها لا يمكن له التنازل عنها بسهولة، سواءً أدى صاحبها اليمين القانونية أم لم يؤدها وسواءً أحسن في عمله أم أساء.

وهنا أنتقل إلى الجزء الثاني من مقالتي لمحاولة تفسير تلك السلوكيات السلبية ورغبة الاستحواذ على الثروة والمنصب نتيجة التسلط وغياب الرقابة والمساءلة فضلاً عن الاستخفاف بما قد يسميه البعض ثقافة الاستقالة، علماً أن عقوبة أقل خطأ يرتكبه مسئول في دول الغرب هي تقديم الاستقالة مقابل إغلاق الملف حتى لو كان ذلك الخطأ مرتبطاً بحياته الشخصية وليس بمهنية عمله. وتأكيداً على حرص اليمنيين على المنصب وليس المصلحة العامة، ابتكر اليمنيون حالة وسط سموها "الاعتكاف" والتي تُمكن صاحبها من مزاولة ما يريد من أعمال وترك ما لا يريد مع استمرار الحصول على كافة مزايا المنصب دون أن يتحمل عناء التواجد في مقر عمله. والأعجب أن ذلك المعتكف يضع شروطاً ويفرض واقعاً دون أن يقع تحت طائلة القانون، على الأقل تقصيره في عمله. وفي هذا العجب العجاب أشير إلى الحديث النبوي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله حول مسألة الرغبة في الصدارة وطلب الإمارة، إذ نهى عن ذلك وحذر منه في قوله للرجلين اللذين سألاه الإمارة:" إنا لا نولي هذا من سأله ولا من حرص عليه.". والسبب الرئيس وراء ذلك هو فساد النية وضياع الإخلاص أو ضعفه وكذلك المداهنة في الحق وصرف الوقت والجهد في مراعاة الرؤساء ومداهنتهم والحرص على مدحهم، وذلك هو بذور النفاق وأصل الفساد. 

ورغم أننا نردد دائماً أن الوظيفة تكليف لا تشريف، فإن الواقع يدل على عكس ذلك تماماً من خلال سعي الأفراد للوظيفة العامة وخاصة الإيرادية والجشع للمال والرغبة فيه والاستعداد لمخالفة كل القوانين والأنظمة ما دامت الدولة من أعلاها إلى أدنى موظف فيها قد ارتضت السرق والرشوة سلوكاً مقبولاً وبعيداً عن عقاب الدولة إلا أحياناً صغار الحالات. وأصبحت السلطة والوظائف لا تمنح إلا للساعين إليها من الأصدقاء والمقربين، بما في ذلك الوظائف العادية والدنيا. 

وفي المقابل، هناك البعض وهم قلة يحملون أوراق استقالتهم في جيوبهم وبشكل دائم. ورغم أن ذلك السلوك قد يعكس قدراً من المبالغة، إلا أنه يعبر عن رغبة صادقة في القيام بواجبات الوظيفة وفق أسس وقواعد عامة بعيداً عن الضغوط أو المحاباة والمجاملة التي أصبحت وللأسف لصيقة بالوظيفة العامة. وأتذكر في هذا الجانب رئيس الوزراء الأسبق المرحوم فرج سعيد بن غانم حين استبشر به اليمنيون وباسمه الثلاثي عند تكليفه رئاسة الحكومة، والذي لم يعر أو يلقِ بالاً للضغوط التي مورست عليه وأصر على العمل وفق قناعاته وبإطار قانوني مؤسساتي بعيداً عن العشوائية والمزاجية. وقد اضطر لترك ذلك المنصب باعتباره مسئولية وأمانة وليس فرصة للتكسب وتراكم الثروة، فرحم الله ذلك الرجل وأمثاله وهم قلة.

ورغم أن النظام السابق بعقليته المتخلفة اعتبر أن مجرد الاستقالة يمثل إساءة في حقها، وحاول بشكل دائم من خلال أزلامه وزبانيته أن يشن حملات على من استقال من منصبه ويشيع أنه فاسد وغير كفؤ إلى غير ذلك من التهم، وأنه أقيل من أجل إصلاح الدولة وتطهير أجهزتها من الفاسدين والمرتشين، فيا سبحان الله كيف نُزع الحياء من قلوبهم ووجوههم ليصبح الفاسد مصلحاً والعكس صحيح؟

ولتجاوز هذا الوضع والتردي الشديد الذي بلغ مداه، لا بد من إزالة الخوف والقلق من ترك أي وظيفة أو منصب باعتبار أن القيام بها مهمة وقتية ينبغي بعدها الانتقال إلى غيرها وهكذا، بالإضافة إلى إزالة عوامل الإغراء في وظائف بعينها سواء منح مرتبات وحوافز فلكية أو صلاحيات مطلقة وامتيازات لامحدودة وكذلك تحديد فترات زمنية لتولي الوظيفة تتوافق مع طبيعتها ولا تتجاوز بأي حال عن فترتين. لذلك، يجب أن تراعي القوانين والأنظمة مسائل عديدة أهمها الترقية المستحقة والتدرج الوظيفي وكذلك التدوير الوظيفي وعدم تركيز السلطة في مناصب بعينها أو الجمع بين عددٍ منه مع ضرورة تفويض الصلاحيات وتفعيل الرقابة وعدم قبول الاستثناءات بحجة تفرّد شخص بعينه حتى لو كان رئيس الدولة، فضلاً عن منع توظيف الأقارب وضبط نظام التعاقد حتى لا يصبح باباً خلفياً للتوظيف، مع التأكيد على ضرورة التطبيق والالتزام بكل ذلك من أعلى السلطة. ويجب أيضاً العمل على تغيير هرم التوظيف في قاعدته العريضة من الدرجات الوظيفية الوسطى لتنحاز نحو أصحاب الشهادة الجامعية والدبلوم الوسطي بعد الثانوية.

مواضيع ذات صلة :