المكون الإقليمي والدولي للنموذج التنموي في اليمن(1 - 2)
بقلم / أ.د/ محمد أحمد الأفندي
لم يعد تعزيز الشراكة الاقتصادية لليمن مع أشقائها وأصدقائها الإقليميين والدوليين يجد تبريره في كون هذه الشراكة مهمة لتجاوز الاقتصاد اليمني التحديات والصعوبات المزمنة فحسب، وإنما هي ضرورة كذلك لضمان انطلاق النموذج التنموي الجديد لليمن الجديد في هذه المرحلة الاستثنائية من تاريخ اليمن، فالشراكة بصورة عامة هي نسق للتعاون والتنسيق بين أطراف مختلفة، سواء كانت دولاً أو منظمات، لتحقيق أهداف ومصالح مشتركة، أو تفادي صراعات مسلحة، أو تجنب فشل أو انهيار أحد أطراف الشراكة، إذا كان ذلك يسبب مشكلات أخرى لبقية الأطراف.
إن مفهوم الشراكة يتكئ على نظرية الاقتصاد السياسي، التي تبين أن التعاون والتنسيق إنما هو انعكاس لنظرية الاندماج الدولي المعروفة بالنظرية السياسية، هذه النظرية تحدد أنماطاً معينة من العلاقات بين الدول: فالدول إما أن تكون دولاً ذات مصالح متعارضة متصارعة - أي أنها دول صراع- بمعنى أن مكسب الدولة (أ) يساوي خسارة للدولة (ب)، أو دولاً ذات نمط آخر من العلاقات- دول ذات مصالح مشتركة، ومعنى هذا أن هذه الأطراف أو أن هذه الدول تسعى إلى أن تواجه نفس المكاسب ونفس الخسائر، وبالتالي فإن عليها أن تتعاون وتنسق فيما بينها، لتعظيم هذه المكاسب وتقليل هذه الخسائر، أو قد تكون دولاً ذات مصالح مشتركة أحياناً ومتعارضة أحياناً، وفي هذه الحالة أيضاً مطلوب من هذه الدول أن تتعاون وأن تنسق فيما بينها لتعظيم المصالح المشتركة، وتقليل المصالح المتعارضة، بيد أن نظرية الاندماج الدولي تكون مرتبطة أكثر بحالة الدول ذات المصالح المشتركة، وفي هذه الحالة فإن الاندماج الدولي يعني أن على هذه الدول أن تسعى إلى تحقيق أعلى قدر من التوافق، أو أعلى مستوى من الاعتماد المتبادل أو التكامل ووفقاً لنظرية الاقتصاد السياسي، فإن هذا الاندماج إما أن تكون مجالاته الأساسية هي تنسيق السلوك السياسي، وبالتالي فإن هذه الشراكة يكون لها بعد سياسي، أو تنسيق السلوك الاقتصادي، أو قد يكون هذا الاندماج أو هذا الاعتماد المتكافئ ذا مسارات متعددة، وأياً كانت أبعاد الشراكة، فإن القضية الأساسية التي تؤخذ بعين الاعتبار هي أن أي اعتماد متبادل لا بد أن يكون فاعلاً، وكفؤاً - بمعنى أن للشراكة مقاييس ومعايير للفاعلية والكفاءة، من شأنها أن تحقق المصالح المشتركة للأطراف الداخلة في الشراكة، ومن هذه المعايير:
> معيار تحقيق مستوى أقصى من المكاسب في حالة الاندماج، أو قياس أقصى الخسائر في حالة عدم الاندماج، ويبين هذا المعيار درجة الرضا الذي تحصل عليه كل دولة، أو كل طرف من أطراف هذه الشراكة .
> معيار قياس مستوى الاستعصاء على عوامل التمزق والفشل إذا تم الاندماج، أو مستوى الاستعصاء على إزالة التوتر وعدم التوازن، فإذا تحقق توازن واستقرار فإن هذا يعني إنها شراكة فاعلة.
> معيار تحقيق أهداف الشراكة، أو قد تكون شراكة ذات هدف وحيد، وبالتالي فإن قياس الفاعلية يكمن في مدى إنجاز هذا الهدف.
إن من أشهر هذه الشراكات في بعدها الاقتصادي والاجتماعي الشراكة في تحدي الألفية التي انخرطت فيها اليمن، فشراكة الألفية تعد أحد مظاهر التعاون الدولي، وهي ثمرة جهود الأمم المتحدة، التي نظمت مؤتمر الألفية، وشاركت فيه 189 دولة في سبتمبر 2000م، وصدور ما سمي بإعلان الألفية، الذي تضمن التزام الدول، أو تعهد الدول بتحقيق أهداف ثمانية، تتعلق بمكافحة الفقر، والبطالة، وتطوير التعليم، والصحة، ومكافحة الجوع، وكذلك هناك نوع آخر من الشراكة الاقتصادية، وهي الشراكة الإنقاذية، أو الشراكة الوقائية، أو الحرجة، وهي التي تقع في ظل ظروف حرجة تمر بها الدولة، منها أن هذه الدولة قد تكون معرضة للسقوط أو للانهيار، أو أنها في طريقها إلى الفشل، وفي هذه الحالة تكون الشراكة ذات مهمة واحدة وهي إنقاذ هذه الدولة أو تلك من هذا الفشل أو الانهيار، ربما أن هذا النوع من الشراكة قد انخرطت فيه اليمن في مراحل مختلفة ، ومنها المرحلة الانتقالية التي تمر بها اليمن حالياً.
إن من أهم سمات الشراكة الانقاذية هي أنها تقوم على أساس ترتيب طارئ للتعاون والدعم بين طرفين غير متكافئين اقتصادياً وسياسياً، يمثل أحد الطرفين دولة أو مجموعة دول إقليمية أو دولية متقدمة، والطرف الآخر يكون دولة (في أغلب الأحيان).
ويأخذ هذا النوع من الشراكة مبرراته ودواعيه من عواقب، ما ينشأ من مآلات ومسارات خطيرة عندما تعاني دولة ما من تدهور اقتصادي، وعدم استقرار سياسي واجتماعي، يهدد استقرار وأمن دول أخرى إقليمية أو دولية، وكذلك فإن من أهم سمات هذه الشراكة:
إنها ليست إلا برامج إنقاذ اقتصادية وسياسية، تشارك فيها دول أخرى أو مجموعات إقليمية لها مصلحة مشتركة في تفادي انهيار هذه الدولة أو فشلها.
ولعل الحالة التطبيقية لهذه الشراكة هي شراكة أصدقاء اليمن الإقليميين (مجموعة مجلس التعاون الخليجي) والدوليين (الاتحاد الأوروبي) والولايات المتحدة الأميركية، بيد أن البعد الاقتصادي في هذه الشراكة ليس دائماً غاية بحد ذاته، وإنما هو وسيلة لتحقيق الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي. فهو بمثابة معجل ومحفز لتنفيذ إصلاحات هيكلية أساسية في البنية السياسية والمؤسسية للدولة.
وفي حالة اليمن فإن الشراكة الاقتصادية لم تكن أمراً غريباً، فمنذ ستينيات القرن الماضي واليمن منخرطة في شراكة اقتصادية، وظلت تتلقى العون الأجنبي، سواء من الأشقاء أو الأصدقاء، على اعتبار أن الثورة اليمنية ورثت اقتصاداً متخلفاً وموارد شبه معدومة، ولكن مع اكتشاف النفط في الثمانينيات، تطلع اليمنيون إلى الولوج نحو حقبة جديدة يتم الاعتماد فيها على مواردنا الذاتية ، لكن للأسف الشديد جاء اكتشاف النفط متزامناً مع سوء الإدارة والفساد ، فأوصلتنا إلى فجوة تمويلية اقتصادية متصاعدة قياساً بطموحاتنا في التنمية، إنها فجوة اقتصادية تتطلب عوناً خارجياً، لقد اتسمت الفجوة الاقتصادية بفجوة مؤسسية كانت سابقة لها أحياناً، الآن نحن أمام فجوة اقتصادية وفجوة مؤسسية تتعلق ببناء الدولة، وكسر هاتين الفجوتين يتطلب استمرار هذه الشراكة في هذه المرحلة الراهنة والعصيبة من تاريخ اليمن التي شهدت ثورة تغيير سلمية لم تؤت أكلها تماماً بعد.
إن تقييم فعالية العون الاقتصادي في العقود الماضية ، و خبرات وسجلات الماضي، يظهر أن اليمن قد استفادت من موارد المانحين، وخاصة في مجالات البنى التحتية الأساسية، والأنشطة الانسانية الإغاثية، لكن بالنظر إلى سوء الإدارة، وحجم الفساد المتصاعد، فإن ذلك قد أدى إلى استفادة القلة المتنفذة من هذا العون، من خلال تركز الثروة في جيوب فئة معينة، مما أدى إلى زيادة حدة التفاوت، وعدم الإنصاف في توزيع الدخل والثروة. فأوجد سجلاً سيئاً في توزيع الموارد، وبالتالي أوجد حافزاً ودافعاً لإعادة النظر في منظور ومفهوم المنهج التنموي للبلاد، وآليات البناء المؤسسي والإدارة الاقتصادية للموارد، على المستوى المركزي والمحلي، وقد غدى هناك ادراكاً واسعاً بأن المانحين أصبحوا على فهم ويقين كبيرين بأن فاعلية الاستفادة المجتمعية من موارد المانحين، تكمن في تعزيز القدرات المؤسسية والأنظمة الوطنية للحكومة، وهو ما يعني انخراطهم في شراكة ذات أبعاد اقتصادية وسياسية واجتماعية، كما هي سمة المرحلة الجديدة التي تمر بها اليمن.
ومع كل ذلك، فإن هناك تساؤلات مثارة حول طبيعة ومقاصد الشراكة الاقتصادية الجديدة، وعما إذا كانت هذه الشراكة مجرد واجهة من واجهات التدخل الأجنبي في شؤون اليمن، وبالتالي، فما زالت التساؤلات قائمة عما إذا كان هناك تقييم لمدى نجاعة وفاعلية الشراكة، ودورها في تعظيم المكاسب المشتركة، وتقليل الخسائر المتوقعة.
ولعل ما يقلل من هذه المخاوف وهذه التساؤلات وهذه الحساسية تجاه الشراكة الاقتصادية، هو ما يتمسك به الجانب اليمني بمبدأ الملكية الوطنية للبرامج، يؤكد هذا المبدأ على أن تقوم الحكومة بتحديد أولوياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التي تستوعب موارد المانحين، ولكن هل يعني ذلك استبعاد المانحين من تحديد هذه الأولويات ، وهل من مقاصد الشراكة المشاركة في تحديد الأولويات والبرامج وهل يُعد هذا نوعاً من ممارسة المشروطية؟
بطبيعة الحال تظل هذه التساؤلات قائمة وخاصة فيما يتعلق بمدى نجاعة التمسك بالملكية الوطنية للبرامج، والمستوى المقبول من المشروطية كأداة لتخفيض مستوى هذه الحساسية، باعتبار أن ذلك يخلق رأياً عاماً مشجعاً للشراكة، بينما تشديد المشروطية يولد رأياً عاماً مضاداً للشراكة، ربما أن المشكلة لا تكمن في وجود المشروطية، أو عدم وجودها، وإنما في اللوم المتبادل بالتقصير بين الجانب اليمني وجانب المانحين، إن تبني حكومة الوفاق الوطني لمبدأ أو معيار المساءلة المشتركة، من شأنه أن يسهم في إزالة مخاوف الناس من جهة، وقلق المانحين من جهة أخرى.
وأياً كان الأمر فإن مما لا شك فيه أن المرحلة التي تمر بها اليمن هي مرحلة غير طبيعية، وأن المناخ الذي تم فيه إعلان المانحين بتعهداتهم هو مناخ استثنائي، ومن ثم فإن ما اعتاد عليه المانحون (دولاً ومنظمات) مما يتعلق بالتمسك بالمشروطية، لا يناسب طبيعة هذه المرحلة الاستثنائية، وإن الحالة تتطلب مقاربة استثنائية عند الجانبين أو الطرفين، تُمكن من تحقيق شراكة فاعلة وهذا ما أكدته عبارة وردت في وثيقة رسمية لوزارة التخطيط والتعاون الدولي تقول (في العلاقة التنموية اليوم، أصبح كل من المانح والمتلقي شركاء تنمية، والمعونة هي أداة الانخراط في هذه الشراكة، في سباق من التعاون والشراكة المشتركة)... وللمقال بقية.
> أستاذ الاقتصاد بجامعة صنعاء - عضو الحوار الوطني الشامل - رئيس المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية