قبل أن يشارف مؤتمر الحوار الوطني على الانتهاء فإن من الأهمية إبراز القضايا والمسائل الاقتصادية والتنموية والاجتماعية في الدستور اليمني الجديد، والتي رغم أهميتها ودورها البارز في وصول الأوضاع السياسية والاجتماعية والأمنية في اليمن إلى ما هي عليه حالياً، إلا أنها لم تحظ بالاهتمام الكافي من قبل السلطة السياسية وحكومة الوفاق الوطني، وكذلك من قِبل الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية والمكونات الشبابية المشاركة في الحوار والتي ركزت جُل اهتمامها على القضايا والمسائل السياسية.
فأحداث التاريخ المعاصر تشير إلى أن القاسم المشترك بين الانتفاضات والثورات الشعبية التي قامت ضد الأنظمة السياسية المستبدة في معظم دول العالم، تتمثل في سعيها للخروج من حالة الفقر والتهميش وانعدام المساواة والعدالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مستهدفة كذلك الحد من الفساد ومكافحته بعد أن استشرى واستفحل في كافة مفاصل هذه النظم.
في يمننا الحبيب، تتمثل الخطوة الأولى في تأسيس نظام سياسي واقتصادي واجتماعي في اليمن، ويتطلب ذلك بالضرورة أن يؤسس الدستور اليمني القادم لعقد اجتماعي جديد يترجم اقتصادياً واجتماعياً من خلال تحديد توجهات اقتصادية واجتماعية صريحة تؤسس للسياسات الاقتصادية والاجتماعية المرجوة التي تلبي طموحات وآمال الشعب اليمني وتطلعاته وتضمن له الحياة الكريمة والعيش الكريم، وكذلك وسائل تطبيقها. صحيح أن السياسات الاقتصادية والاجتماعية، بحكم طبيعتها، هي إجراءات تتبدل وتتكيف ويشترط فيها أن تتأقلم لزوما مع المشاكل المطروحة، إلا أنه من المستحب كذلك أن تتوفر أرضية ومرجعية دستورية لهذه السياسات بحيث لا تنحرف أو تزيغ عن مرتكزات العقد الاجتماعي المتفق عليه والمتضمن في الدستور.
ولذلك، فإنه من باب المسئولية الوطنية التنبيه بأهمية المسائل والقضايا الاقتصادية والاجتماعية والتي يجب أن تحظى على الأقل بنفس الاهتمام بالمسائل السياسية , خاصة وأن المناخ الفكري العام السائد حالياً في اليمن لا يزال مركزا جل اهتمامه, إن لم يكن مهووسا ومطبوعا، على المسائل والجوانب السياسية، كذلك تمر اليمن حالياً بلحظة تاريخية فاصلة وغير مسبوقة في تاريخها المعاصر، ممثلا بالتغيير السياسي الكبير والذي لا بد أن يتعزز ويكتمل بإحداث التغيير الاقتصادي والتنموي والاجتماعي بصورة حقيقية وجذرية، وبما يعزز متطلبات واحتياجات التغيير السياسي الذي حدث، وفي الوقت نفسه يلبي يحقق أمال وطموحات الشعب اليمني وتضحياته وصبره الطويل.
بناء على ما سبق، اعتقد بأن المطلوب من المتحاورين في الحوار الوطني بصورة أساسية التوصل إلى توافق علمي وموضوعي قبل التوافق السياسي حول القضايا الأساسية الاقتصادية التنموية والاجتماعية التي سيتم تضمينها في الدستور اليمني الجديد، وتبرز هنا قضيتان في غاية الأهمية، تتمثلان في تحديد كلٍ من الأهداف الاقتصادية التنموية للدولة اليمنية الحديثة، وشكل النظام الاقتصادي المنشود، باعتبارها تشكل القاعدة الأساس التي سترتكز عليها بقية الأسس والمبادئ الأخرى.
فمصدر الخلل الأول في الدستور اليمني الساري يتمثل في الأسس الاقتصادية، وبالذات عدم إشارته مطلقا لأي أهداف اقتصادية تنموية واجتماعية للدولة أو النظام الاقتصادي.فالمادة السابعة من الدستور اليمني الساري تنص " يقوم الاقتصاد الوطني على أساس حرية النشاط الاقتصادي بما يحـقق مصلحـة الفرد والمجتمع، وبما يعزز الاستقلال الوطني وباعتماد المبادئ التالية".وقد اتضح خلال السنوات الماضية بأن هذه المادة اطلقت العنان الحرية الكاملة لكافة الأنشطة الاقتصادية بدون توجيهها نحو تحقيق أهداف اقتصادية تنموية وطنية محددة، وكذلك دون تحديد طبيعة الدور الاقتصادي التنموي والاجتماعي، والرقابي الإشرافي للدولة، ودون تحميل القطاع الخاص مسئوليات ومهام محددة. وقد أدى كل ذلك إلى جعل الغلبة للمصالح الشخصية للأفراد وسيادتها كدافع أساسي لكافة الأنشطة الاقتصادية والتنموية، لا في القطاع الخاص فحسب وإنما أيضاً في كافة أنشطة الدولة وقطاعاتها. لذلك لم يحظ دافع تحقيق مصلحة المجتمع اليمني بأي أهمية إلا في إطار المصالح الشخصية. وقد أثبتت التجربة خلال السنوات الماضية أن هذه الحرية كانت لها نتائج وخيمة الأداء الاقتصادي اليمني وعلى الأوضاع المعيشية والاجتماعية للمواطنين، ولم تتمكن اليمن من بناء قاعدة اقتصادية وطنية سليمة.
ولذلك، تتمثل الخطوة الأولى في ضرورة توصل المتحاورين إلى اتفاق حول طبيعة الأهداف الاقتصادية التنموية والاجتماعية التي يتوخاها غالبية الشعب وتلبي أمالهم وتطلعاتهم، استناداً إلى التشخيص العلمي والموضوعي لطبيعة أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية والتحديات والمشاكل التي تواجهنا، ثم نبدأ بعد ذلك البحث عن المبادئ الاقتصادية التي من شأنها المساهمة في تحقيق تلك الأهداف. بعبارة أخرى يتم اختيار النموذج بناء على الأهداف التي تم تحديدها والتوافق عليها وليس قبلها.
وبالنسبة لتحديد شكل النظام الاقتصادي المنشود، أرى بأن الأحزاب والقوى السياسية والمجتمعية في اليمن أمام خيارين أساسين، دون أن يعني ذلك الحصر والتقييد:
1. التوافق على تحديد هوية الاقتصاد اليمني في نظام اقتصاد السوق الاجتماعي البيئي نظراً لما يتميز به من مرونة ومن توازن بين الكفاء الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وبكونه نظاماً غير إيديولوجي، وأنه يتضمن آليات السوق الحر التي تتفق مع توجهات مجتمع المانحين لليمن. وينطبق الأمر نفسه بالنسبة لنموذج التنمية المستدامة، الشاملة والعادلة.
2. بذل الجهود لتطوير نموذج خاص باليمن،
ونظراً لطبيعة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسة في اليمن اعتقد بأهمية تحديد الأهداف الاقتصادية التنموية والاجتماعية المنشودة، وبعد ذلك يتم تحديد شكل النظام الاقتصادي الذي سيتم التوافق عليه (أو على الأقل ملامح هذا النظام)، كون ذلك سيحد من الاختلالات والاختلافات مستقبلاً. كذلك، يتطلب النموذج الاقتصادي التنموي الجديد التزاماً دستورياً من قبل الدولة بالتنمية والعدالة الاجتماعية، والفاعلية الاقتصادية التنموية. أيضاً، سوف يساهم ذلك في تحديد طبيعة أدوار كلٍ من الدولة، والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني في تحريك وتخصيص الموارد الاقتصادية، والتنسيق بين أنشطتها ومشاريعها، وكذا ترتيب الأولويات الاقتصادية والتنموية، وبالتالي ترشيد القرارات الأمر الذي سوف يساهم في الاستخدام الكفء والشامل للموارد الاقتصادية والمالية المتاحة، وكذا المساهمة نسبيا في التوزيع العادل للدخل القومي وثمار النمو الاقتصادي.
واخلص إلى القول، بأن تجريب المجرب خطأ، وبالتالي تحتاج بعض المقترحات الدستورية لفريق التنمية في الحوار الوطني إلى مراجعة علمية موضوعية بعيداً عن التوافقات السياسية الأنية والمصالح الضيقة، وبالذات فيما يتعلق بالمقترح الأول الخاص بطبيعة النظام الاقتصادي، وكذلك المتعلق بالتجارة والاستثمار.
خدمة المستثمر موبايل للرسائل القصيرة sms.. اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة للاشتراك ارسل رسالة فارغة إلى: يمن موبايل 2233 5656 MTN 5757 MTN سبأفون 3131 |