إن مصر بالنسبة للعالم الإسلامي حبة العقد التي إذا فرطت فرط العقد وهي بمثابة المضغة التي في الجسد إذا صلحت صلح الجسد وإذا فسدت فسد الجسد وهي في موقع القلب من أمة الإسلام فإذا كانت قويه فإن الأمة تكون قوية وبخير ومتعافية من كل شر وإذا كان هذا القلب ضعيفاً أصبحت الأمة ضعيفة وتعاني من الإرهاق والانحطاط والتعثر وعدم القدرة على النهوض.
فمصر قد حباها الله بميزات ومواصفات جغرافيه هيئتها لتكون كنانة الله في أرضه ومصنعاً للتاريخ والحضارات الأساسية التي لعبت دوراً محورياً في تاريخ البشرية فلم يكن عبثاً أن كثيراً من قصص القران الكريم التي قصّها ألله سبحانه وتعالى على محمد صلى الله عليه وسلم كان مسرحها أرض مصر الكنانة ومن هذه القصص قصة موسى عليه السلام وفرعون حيث أن فرعون كان يمثل دوله تمتلك من القوه والإمكانيات المادية وضخامة البنيان والعمارة ما ليس له مثيل لا في الأمم السابقة ولا اللاحقة ولا زالت أثارها شاهدة عليها للآن فأعظم هذه الآثار الأهرامات قبور الفر اعنه التي حتى الآن ومع كل التطور العلمي والتكنولوجي لم يتوصل خبراء وعلماء الآثار إلى كيفية بنائها حيث يقفون أمامها حائرين وعاجزين عن حل ألغازها إلى أن وصل الأمر ببعضهم أن يقول بأن الله سبحانه وتعالى قد خلقها على هذا الشكل , فمصر يوجد فيها أكثر من ثلثي أثار الأمم والحضارات السابقة الموجودة في العالم لذلك وصف الله سبحانه وتعالى مصر على لسان فرعون ( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ) .
أما مصر في تاريخ المسلمين فمنذ أن منّ الله على المسلمين بفتحها في عهد الخليفة العادل عمر بن الخطاب فإنها قد لعبت دوراً محورياً وأساسياً ورئيسياً في صناعة هذا التاريخ المجيد وفي بلورة فكرهم ووجودهم بين الأمم وحماية هذا الوجود من الاندثار والضياع عندما تعرضت ألأمه إلى أخطر الحملات الإستأصاليه والتي كادت أن تهدد وجودها في التاريخ وأشهرها الحملات الصليبية وغزوات التتار والمغول والتي سنتحدث عنها لاحقاً في هذا المقال وكيف كانت مصر قلعة الإسلام الحصينة وكنانة الله في أرضه.
فعندما فتح المسلمون بقيادة عمرو بن العاص مصر فتحت الطريق أمامهم لفتح معظم إفريقيا جنوباً وشمالاً حتى وصلوا إلى الأندلس غربا ,ولقد بشّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الفتح عندما قال
( ستفتح عليكم مصر فاتخذوا منها جنداً كثيفاً فإنهم خير أجناد الأرض ) .
فكان انضمام مصر إلى حاضنة الإسلام ودولته الفتيه مصدر قوه بشريه واقتصاديه حيث أن خراجها جعل خزائن بيت مال المسلمين تفيض بالأموال والخيرات التي صار ينفق منها على جيوش الفتح والأمصار الفقيرة حتى أن المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة في بيت المقدس تم بناؤهما من خراج مصر لمدة سبع سنوات ولم يبق بلد في العالم الإسلامي لا يوجد فيه تكية لا يصرف عليها من خراج مصر وخيراتها حتى سميت بخزائن الأرض ألم يقل يوسف عليه السلام لعزيز مصر
(اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) » يوسف:55 «
فدول النفط الحالية كانت تعيش قبل اكتشاف النفط على ما تقدمه لها مصر من كساء وغذاء وكانت ترسل لهم البعثات الطبية والتعليمية وهي أول من أدخل الكهرباء إلى المسجد الحرام والمسجد النبوي في بداية القرن العشرين وإن كسوة الكعبة كانت تتكفل بها مصر حتى عام 1963م وتوقفت عن ذلك لأسباب سياسيه .
وتمضي الأيام وتمر السنون فإذا بالفاطميين والحشاشين والباطنيين الذين تمردوا على الخلافة العباسية في بغداد يستولون على مصر مما أصاب العالم الإسلامي والدولة ألإسلاميه بضعف جعل الدول الأوروبية الغربية الصليبية يطمعون في العالم الإسلامي مما دفعهم لتجييش الجيوش وتشكيل الحملات الصليبية وشن حروب على المسلمين مستهدفين في البداية بلاد الشام وخصوصاً الجزء الأقدس والمبارك منها فلسطين وقلبها القدس التي كانت تحت سيطرة الفاطميين الشيعة يومذاك فسلموا بيت المقدس للصليبيين دون قتال فاستمرت في أيديهم لمدة ما يقارب التسعين عاماً إلا أن بعث الله البطل يوسف بن أيوب ( صلاح الدين ألأيوبي) فقام بتوحيد مصر مع الشام بعد القضاء على دولة الفاطميين التي تحالفت مع الصليبيين وجيش جيشاً قوياً يضم مصريين وشاميين وأكراد وأتراك وانطلق به من الكنانة كالسهم إلى حطين في أرض فلسطين ليحطم جيوش الصليبيين في معركة كانت فاصله في تاريخ المسلمين وتاريخ الحروب الصليبية وكانت ألمقدمه لاستعادة بيت المقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ولكن الصليبيين قد عادوا بعد حوالي ثلاثين عاماً في عام 1221 بحمله صليبيه جديدة بقيادة( بيلاج ) تستهدف الاستيلاء على مصر بكاملها انتقاما من مصر لأن الجيش الذي استعاد منهم القدس انطلق من مصر ولكن مصر الكنانة كانت لهم بالمرصاد حيث قام جندها الأبطال الذين بشّربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإغراق الأسطول الصليبي في دمياط وتم تحطيم هذه الحملة والقضاء عليها ولكن الصليبيين لم ييأسوا فأعادوا الكرة مرة ثانيه بعد حوالي ثلاثين عاماً فقاموا بحملة صليبية جديدة لأنهم أصبحوا على قناعه بأنهم لن يستقروا في المنطقة ولن يستطيعوا إعادة احتلال القدس والاستمرار في المنطقة إلا إذا سيطروا على مصر فشكلوا حملة صليبية جديدة بقيادة( لويس التاسع) في عام 1250 وكانت هذه الحملة معبأة بالحقد الأسود على الإسلام والمسلمين كما تدل الرسالة التي بعث بها لويس التاسع إلى الملك أيوب ابن الملك العادل حاكم مصر في ذلك الوقت حيث جاء فيها
( كنت قد وجهت إليك عدة إنذارات فلم تحفل بها وقد اتخذت الأن قراري سوف أهاجم بلادك ولن أعود عن رأيي حتى وإن أبديت ولاءك للصليب وان الجيوش التي تدين لي بالطاعة لتملأ الجبال والسهول وهي بعدد الحصى والتراب وتسير إليك بسيوف القدر )
وتحدث لويس في الرسالة عن انتصار الصليبيين على المسلمين في إسبانيا قائلاً:
(لقد طاردنا جماعتكم كقطيع البقر وقتلنا الرجال والنساء وسبينا البنات والصبيان أليس في ذلك عبرة لك ؟ أما جواب الملك أيوب على رسالة لويس فكانت:أنسيت أيها الأحمق الأراضي التي كنتم تحتلونها ففتحناها في الماضي القريب وحتى من عهد قريب؟؟أنسيت ما أنزلنا بكم من فواجع )
( كم من فئة قليله غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين )
فهزيمتك محتمة ولن تلبث أن تندم أشد الندم على المغامرة التي تورطت فيها .
فكانت معركة المنصورة التي تمكن فيها بضع عشرات من السفن المصرية من إنزال هزيمة نكراء بالأسطول الفرنسي الصليبي حيث طوقت أفواج من المتطوعين من الشعب المصري المسلم المجاهد جيش الغزاة الذي حاول فك الحصار عن الأسطول الفرنسي وما هي إلا ساعات قليله حتى كان الصليبيون في حصار شديد وإذا بلويس التاسع يستسلم ويطلب الأمان واقتيد إلى المنصورة مهزوماً مخذولاً مدحوراً مغلولاً فهذه المعركة الخالدة كانت بمثابة السهم الأخير الذي أطلقته الكنانة والذي لو طاش لا سمح الله لاستأصلت أمة الإسلام من الوجود .
وبعد أربعين عاماً تقريباً وفي عام 1291 أطلق المسلمون بقيادة مصر طلقة الرحمه على الحروب الصليبية في معركة عكا الخالدة بقيادة الأشراف بن قلاوون وابنه خليل حيث تم القضاء نهائيا على الوجود الصليبي في المنطقة وبذلك أنقذت مصر العالم الإسلامي من خطر مميت .
ولقد توافقت الحروب الصليبية مع اجتياح التتار والمغول للعالم الإسلامي من جهة الشرق وبمنتهى الوحشية والدموية حتى أن المسلمين أصابهم اليأس والإحباط وترسخ في أعماقهم بأن التتار والمغول لا يمكن هزيمتهم وخصوصاً بعد اجتياحهم بغداد عاصمة الخلافة العباسية ووصولهم إلى دمشق وفلسطين وحيث كانوا ينشرون الخراب والدمار ويزرعون الموت والهلاك أينما مرّوا أو حلّوا ولكن السهم الأخير مرة أخرى كان بيد مصر ففي عام 1260م انطلق جيش مصر الكنانة بقيادة البطل المسلم قطز إلى أرض فلسطين المباركة ليلتقي مع جيش ألتتار والمغول في قرية عين جالوت في شمال فلسطين فكان نصر الله المبين على يد الجيش المصري المسلم بقيادة المملوكي قطز واندحر التتار والمغول وأخذ الجيش المصري يطاردهم إلى دمشق ثم حلب وليطهر بلاد الشام منهم فكانت مصر مره أخرى هي السهم الأخير الذي لو طاش لتم اجتياح مصر وأبيد المسلمون ولتمكن التتار والمغول من إطلاق رصاصة الرحمة على دين الإسلام حيث أنهم كانوا يخططون لاجتياح مكة والمدينة ولكن الله تكفل بحفظ دينه,فكانت مصر الكنانة للمرة الثانية بعد الحروب الصليبية هي قدر الله بحفظ هذا الدين .
وتمضي الأيام وتمر السنون وإذا بالصليبيين يعودون مره أخرى بعد ستة قرون تقريباً لاحتلال بلاد المسلمين فبدئوا بمصر فكان الصراع بين بريطانيا وفرنسا في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر على مصر لأنهما استخلصتا العبرة من الحروب الصليبية بأن الذي يفوز بمصر يفوز بالعالم الإسلامي وان لا استقرار لأي احتلال أجنبي في المنطقة بدون احتلال مصر فجرت معركة أبي قير البحرية الشهيرة على شواطئ مصر بين الأسطول الفرنسي والبريطاني وقعت خلالها في الأسطولين خسائر فادحه و في عام 1798إحتل الفرنسيون مصر ثلاث سنوات تقريبا بعدها اضطر الفرنسيون تحت ضغط جهاد الشعب المصري للانسحاب وتمضي الأيام وتمر السنون فإذا ببريطانيا تعود بعد ثمانين عاما من الحملة الفرنسية فتحتل مصر عام 1882 ليدخل العالم الإسلامي في مرحله خطيرة فمن مصر بدأت بريطانيا تحيك المؤامرات ضد الدولة العثمانية وتخطط لاحتلال العالم الإسلامي فكان احتلال بريطانيا لمصر بمثابة انفراط لحبة العقد الذي ينظم العالم الإسلامي فما أن جاءت الحرب العالمية الأولى عام 1914حتى كان جميع العالم الإسلامي تقريباً يخضع للاحتلال البريطاني مع نهاية الحرب وبذلك انفرط العقد بالكامل .
وبعد الحرب العالمية الثانية عندما قررت الولايات المتحدة الأمريكية وراثة نفوذ بريطانيا في العالم الإسلامي بدأت بمصر فوقع صراع دولي بينهما وصل ذروته في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 حيث أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تعرف أن زحزحة بريطانيا من مصر يعني زحزحتها من المنطقة بالكامل لذلك كان موقف الولايات المتحدة ضد هذا العدوان وأصرت على انسحاب بريطانيا وفرنسا والكيان اليهودي من الأراضي المصرية فورا وبالفعل كان جلاء بريطانيا عن مصر هو بمثابة انتهاء لها كدوله عظمى دخلتها وهي إمبراطوريه لا تغيب الشمس عن أملاكها وخرجت منها وقد غابت عنها الشمس .
ولم يتوقف الأمر على الحملات العسكرية ضد مصر وإنما عندما أراد الاستعمار التمهيد لغزوه العسكري بدأ بالغزو الفكري من مصر فبدأت حملات التخريب الفكري على يد ألإرساليات التبشيريه وعملاء الغرب وعندما أراد احتلال بلاد المسلمين احتل أولاً مصر وعندما أراد إذلال الأمة عمل على إذلال مصر وعندما أراد هزيمة الأمة عمل على هزيمة مصر وعندما أراد تجويع الأمة عمل على تجويع مصر, وعندما أراد أخذ اعتراف المسلمين بالكيان اليهودي عمل على أخذ اعتراف مصر ولكن شعب الكنانة العظيم يرفض هذا الاعتراف .
فأعداء الأمة يعرفون بالاستقراء التاريخي أن مصر ما دامت منهكة وضعيفة ومهزومة ومكّبله فإن أمة الإسلام تبقى كذلك وإسرائيل تعيش في أمان واطمئنان وأما إذا كانت مصر حرة طليقه قويه فإن نفوذهم ومصالحهم ستكون في خطر لأنهم يعرفون أن السهم الأخير الذي يقلب المعادلة ويغير مسار التاريخ لمصلحة أمتنا دائما ينطلق من كنانة مصر فهذا السهم هو الذي أنقذ الأمة في الحروب الصليبية وهو الذي أنقذها في حروب التتار والمغول ولا زال هذا السهم في كنانة مصر فمتى ستتمكن مصر الكنانة من إطلاقه من كنانتها على هذا الواقع الرديء لتجعل عجلة التاريخ المتوقفة بأمتنا منذ أمد بعيد على محطة الذل والهوان والانكسار تدور 180 درجه ولينقلب التاريخ رأساً على عقب
(ولتعود امتنا سيرتها الأولى).
هذه مصر الكنانة التي في دمنا وضميرنا ووجداننا وعقلنا وتاريخنا الذي يجب أن نعلمه لأبنائنا ومن لا يعرف لماذا مصر كنانة الله في أرضه عليه أن يقرأ التاريخ جيدا.
ملحوظة : لمن لا يعرف معنى الكنانة فهي الجعبة التي كان يضع بها الجنود سهامهم ويحملونها على ظهورهم .