تُذكِّرني الثورات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اليوم بعام 1998 حينما أنهى الإندونيسيون ثلاثة عقود من حكم سوهارتو. كنت واحدة منهم. بينما كان يفترض ولائي للنظام بحكم مركزي كرئيسة للبحوث الاقتصادية والاجتماعية في جامعة جاكرتا آنذاك الا أنني كنت قد بدأت، كبعض زملائي الأصغر سنا، أتساءل عن جدوى النجاح الاقتصادي متى افتقر إلى العدالة، والمساءلة، والشمولية. أخذت أُعبِّر عن آرائي عبر وسائل الإعلام ومن خلال المشاركة في الاحتجاجات.
في يوم 12 مايو/أيار 1998 قادتني مساعي لترويج آراء الثوار الى مُجمَّع البرلمان غير بعيد عن المكان الذي أطلقت فيه قوات الأمن النار فقتلت أربعة طلاب . عشت في ذلك اليوم و المكان لحظة تماثل في حزنها و مصيريتها لحظات عاشها المصريون في ميدان التحرير.
وكما جرى في ثورات تونس و مصر، احتفلنا برحيل سوهارتو دون أن نعرف ما يحمله لنا الغد.انضممت لحكومة أندونيسيا الجديدة و تحولنا بين ليلة وضحاها من منادين بالتغيير الى مسؤولين عن تحقيقه. المهام التي تنتظرنا كانت مثيرة و لكن شاقة في آن واحد.
يواجه كل بلد في خضم مرحلة التحول والانتقال تحديات فريدة تستلزم حلولا مختلفة. فرفع المظالم، وبناء اقتصاد يتيح فرصا للجميع هي تحديات بطبيعتها جسيمة فما بالك و هي تتم في سياق متقلب ومليء بالغموض و تحيطه مخاطر الانتهازية السياسية. لكل تغيير ظروفه و لا يوجد حل واحد يناسب كل الدول التي تعيش مرحلة الانتقال. غير أني وزملائي تعلَّمنا بعض الأشياء الأساسية.
أولا: تحول رمزي وحقيقي عن الماضي. ينبغي أن ترسل السلطات الجديدة إشارات قوية تؤكد أن الأساليب القديمة قد انتهت ولا رجعة اليها. من هذا المنطلق فإن القوانين التي تتيح للمواطنين حرية التعبير، وتهيء لانتخابات حرة ومستقلة، وتسمح بحرية التجمع تكتسب أهمية بالغة. ويجب أن يتخذ التغيير شكلا رسميا واضحا، وأن يتم نشر القوانين الجديدة على أوسع نطاق بحيث يسمع الجميع بقوة ووضوح أنه لا أحد فوق القانون. أي رسالة اصلاح أقل وضوحا وقوة ستعوّق عودة الحياة الطبيعية و الانتعاش للبلاد.
من المسلّم به أن الفساد هو عدو التنمية. يقع على عاتق الحكومات الجديدة أن تتحرك سريعا لبناء الأجهزة ووضع الآليات الكفيلة بمكافحة الفساد وملاحقة مرتكبيه. لا شك أن منظمات المجتمع المدني، والمجتمعات المحلية، وممثلي الفقراء والضعفاء، والنساء، هي قوى محركة رئيسة تستطيع الدولة أن تستعين بها لإحداث التغيير.
في إندونيسيا، وقَّعنا على مئة قانون في أقل من 18 شهرا، شملت كل شيء من حرية الإعلام إلى الانتخابات ومكافحة الفساد واللامركزية والمنافسة وقواعد مكافحة الاحتكار، وصدَّقنا على تشريع جديد للمالية العامة وقواعد تضمن استقلالية البنك المركزي.
ثانيا: توقع حدوث نكسات والتصدي لها. في فترة ما بعد الثورة، تكون الآمال كبيرة والتحديات جسيمة. وأعلم من تجربتي الشخصية انه أحيانا لا يكون في وسعنا تبني أفضل الحلول ، بل نضطر في تلك الأحيان الى التسوية والقبول “بأفضل ما هو ممكن” من النتائج.
ولعل المخاطر الأمنية هي من بين أخطر النكسات في المرحلة الانتقالية. المشاعر الوطنية ملتهبة وقد يستغلها بعض السياسيين وجماعات المصالح. قوات الأمن كثيرا ما تكون جزءا من أدوات النظام القديم. و كثيرا أيضا ما تفتقد الديمقراطية الناشئة لجهاز قضائي مستقل. الإصلاحات تستغرق وقتا وغالبا ما تعجز الأجهزة البيروقراطية القائمة عن وضعها موضع التنفيذ.
وقد تمكّنّا من تجاوز هذه المعضلة بحلول مبتكرة؛ فعلى سبيل المثال، قمنا بتعيين قاض مستقل لتولي قضايا الإفلاس والفساد لأن القضاة المحترفين كانوا ملوثين بفساد المرحلة السابقة، كما بدأنا برامج عمالة مؤقتة في إطار سياساتنا التي تراعي مصالح الفقراء، وطلبنا من المجتمعات المحلية أن تدير هذه المبادرات.
ثالثا: ضمان أن الاقتصاد ماضٍ في مسار سليم. من المهم استعادة النشاط الاقتصادي وإيجاد بيئة مقبولة لأصحاب الأعمال ، ولا سيما مؤسسات الأعمال الصغيرة ومتوسطة الحجم. يجب ألا ننسى أن الثورات التي قامت في الآونة الأخيرة بدأت بقيام بائع فاكهة متجول بإضرام النار في نفسه إثر تعرّضه لمضايقات وإهانات من جانب السلطات. من الضروري إذاً إيجاد فرص العمل للمدى القصير، حتى وإن لم يترتب على ذلك ارتفاع فوري في معدلات النمو. ولا يكون النجاح الاقتصادي قابلا للاستمرار إذا خلا من المسئولية أو لم يشمل كافة فئات المجتمع. هذا مع العلم أن البلدان تواجه خيارات صعبة في سعيها لحماية الفقراء والضعفاء. فقد تضطر إلى استبدال الدعم الحكومي العام للسلع أو الخدمات ببرامج موجهة تستهدف الفقراء وتتسم بالكفاءة في مكافحة الفقر وخلق فرص العمل.
في إندونيسيا اضطررنا إلى التفرقة بين الفئات الأشد فقرا وتلك التي تعتبر على هامش حد الفقر، إذ لم يكن بمقدورنا رفع الرواتب أو تقديم الدعم لكل فرد، وكان لا بد أن تستهدف مساعدتنا فئات محددة؛ ولذلك حينما ساعدنا أشد الناس احتياجا، استبعدنا البعض الذين لم يكونوا موسرين ولكنهم لم يكونوا فقراء لدرجة تبرراستفادتهم من هذا العون . وهذه خيارات صعبة.
وأخيراتحتاج البلدان السائرة على طريق التحول إلى المساندة.
فهي لا تحتاج إلى المال فحسب، لكنها تحتاج أيضا إلى الخبرات الفنية لمساندتها في إجراء إصلاحات شديدة التعقيد. وأذكر أني حين أصبحت وزيرة للمالية، كان عندي 64 ألف موظف، ولكن حينما اضطررنا إلى تحديث نظامنا الضريبي، لم نجد هذه الخبرة متوفرة في بلدنا، ولجأنا الى طلب المساعدة الخارجية التي باتت ضرورية حينها. لكننا ملكنا زمام عملية الاصلاح وسخرناها لاحتياجاتنا.
في يوم 12 مايو/أيار 1998 قادتني مساعي لترويج آراء الثوار الى مُجمَّع البرلمان غير بعيد عن المكان الذي أطلقت فيه قوات الأمن النار فقتلت أربعة طلاب . عشت في ذلك اليوم و المكان لحظة تماثل في حزنها و مصيريتها لحظات عاشها المصريون في ميدان التحرير.
وكما جرى في ثورات تونس و مصر، احتفلنا برحيل سوهارتو دون أن نعرف ما يحمله لنا الغد.انضممت لحكومة أندونيسيا الجديدة و تحولنا بين ليلة وضحاها من منادين بالتغيير الى مسؤولين عن تحقيقه. المهام التي تنتظرنا كانت مثيرة و لكن شاقة في آن واحد.
يواجه كل بلد في خضم مرحلة التحول والانتقال تحديات فريدة تستلزم حلولا مختلفة. فرفع المظالم، وبناء اقتصاد يتيح فرصا للجميع هي تحديات بطبيعتها جسيمة فما بالك و هي تتم في سياق متقلب ومليء بالغموض و تحيطه مخاطر الانتهازية السياسية. لكل تغيير ظروفه و لا يوجد حل واحد يناسب كل الدول التي تعيش مرحلة الانتقال. غير أني وزملائي تعلَّمنا بعض الأشياء الأساسية.
أولا: تحول رمزي وحقيقي عن الماضي. ينبغي أن ترسل السلطات الجديدة إشارات قوية تؤكد أن الأساليب القديمة قد انتهت ولا رجعة اليها. من هذا المنطلق فإن القوانين التي تتيح للمواطنين حرية التعبير، وتهيء لانتخابات حرة ومستقلة، وتسمح بحرية التجمع تكتسب أهمية بالغة. ويجب أن يتخذ التغيير شكلا رسميا واضحا، وأن يتم نشر القوانين الجديدة على أوسع نطاق بحيث يسمع الجميع بقوة ووضوح أنه لا أحد فوق القانون. أي رسالة اصلاح أقل وضوحا وقوة ستعوّق عودة الحياة الطبيعية و الانتعاش للبلاد.
من المسلّم به أن الفساد هو عدو التنمية. يقع على عاتق الحكومات الجديدة أن تتحرك سريعا لبناء الأجهزة ووضع الآليات الكفيلة بمكافحة الفساد وملاحقة مرتكبيه. لا شك أن منظمات المجتمع المدني، والمجتمعات المحلية، وممثلي الفقراء والضعفاء، والنساء، هي قوى محركة رئيسة تستطيع الدولة أن تستعين بها لإحداث التغيير.
في إندونيسيا، وقَّعنا على مئة قانون في أقل من 18 شهرا، شملت كل شيء من حرية الإعلام إلى الانتخابات ومكافحة الفساد واللامركزية والمنافسة وقواعد مكافحة الاحتكار، وصدَّقنا على تشريع جديد للمالية العامة وقواعد تضمن استقلالية البنك المركزي.
ثانيا: توقع حدوث نكسات والتصدي لها. في فترة ما بعد الثورة، تكون الآمال كبيرة والتحديات جسيمة. وأعلم من تجربتي الشخصية انه أحيانا لا يكون في وسعنا تبني أفضل الحلول ، بل نضطر في تلك الأحيان الى التسوية والقبول “بأفضل ما هو ممكن” من النتائج.
ولعل المخاطر الأمنية هي من بين أخطر النكسات في المرحلة الانتقالية. المشاعر الوطنية ملتهبة وقد يستغلها بعض السياسيين وجماعات المصالح. قوات الأمن كثيرا ما تكون جزءا من أدوات النظام القديم. و كثيرا أيضا ما تفتقد الديمقراطية الناشئة لجهاز قضائي مستقل. الإصلاحات تستغرق وقتا وغالبا ما تعجز الأجهزة البيروقراطية القائمة عن وضعها موضع التنفيذ.
وقد تمكّنّا من تجاوز هذه المعضلة بحلول مبتكرة؛ فعلى سبيل المثال، قمنا بتعيين قاض مستقل لتولي قضايا الإفلاس والفساد لأن القضاة المحترفين كانوا ملوثين بفساد المرحلة السابقة، كما بدأنا برامج عمالة مؤقتة في إطار سياساتنا التي تراعي مصالح الفقراء، وطلبنا من المجتمعات المحلية أن تدير هذه المبادرات.
ثالثا: ضمان أن الاقتصاد ماضٍ في مسار سليم. من المهم استعادة النشاط الاقتصادي وإيجاد بيئة مقبولة لأصحاب الأعمال ، ولا سيما مؤسسات الأعمال الصغيرة ومتوسطة الحجم. يجب ألا ننسى أن الثورات التي قامت في الآونة الأخيرة بدأت بقيام بائع فاكهة متجول بإضرام النار في نفسه إثر تعرّضه لمضايقات وإهانات من جانب السلطات. من الضروري إذاً إيجاد فرص العمل للمدى القصير، حتى وإن لم يترتب على ذلك ارتفاع فوري في معدلات النمو. ولا يكون النجاح الاقتصادي قابلا للاستمرار إذا خلا من المسئولية أو لم يشمل كافة فئات المجتمع. هذا مع العلم أن البلدان تواجه خيارات صعبة في سعيها لحماية الفقراء والضعفاء. فقد تضطر إلى استبدال الدعم الحكومي العام للسلع أو الخدمات ببرامج موجهة تستهدف الفقراء وتتسم بالكفاءة في مكافحة الفقر وخلق فرص العمل.
في إندونيسيا اضطررنا إلى التفرقة بين الفئات الأشد فقرا وتلك التي تعتبر على هامش حد الفقر، إذ لم يكن بمقدورنا رفع الرواتب أو تقديم الدعم لكل فرد، وكان لا بد أن تستهدف مساعدتنا فئات محددة؛ ولذلك حينما ساعدنا أشد الناس احتياجا، استبعدنا البعض الذين لم يكونوا موسرين ولكنهم لم يكونوا فقراء لدرجة تبرراستفادتهم من هذا العون . وهذه خيارات صعبة.
وأخيراتحتاج البلدان السائرة على طريق التحول إلى المساندة.
فهي لا تحتاج إلى المال فحسب، لكنها تحتاج أيضا إلى الخبرات الفنية لمساندتها في إجراء إصلاحات شديدة التعقيد. وأذكر أني حين أصبحت وزيرة للمالية، كان عندي 64 ألف موظف، ولكن حينما اضطررنا إلى تحديث نظامنا الضريبي، لم نجد هذه الخبرة متوفرة في بلدنا، ولجأنا الى طلب المساعدة الخارجية التي باتت ضرورية حينها. لكننا ملكنا زمام عملية الاصلاح وسخرناها لاحتياجاتنا.
وهذا شرط لا غنى عنه في مسار التنمية. بناء عليه، فإن إحدى الدروس الأساسية المستقاة من تجربتنا في إندونيسيا هي إن التنمية، حتى تتحقق، لا بد أن تملك البلد ناصيتها تماماً. ولو لم نكن نحن الإندونيسيين مسيطرين على المرحلة الانتقالية بكافة أبعادها، لباءت مسيرتنا بالفشل.
نقلا عن مجلة الاستثمار العدد(37 ) مايو 2011