آراء وأقلام نُشر

المسؤولية الاجتماعية للشركات .. المصطلح التائه (1)

يمر مصطلح المسؤولية الاجتماعية للشركات Corporate Social Responsibility CSR بحالة من التيه بين مصطلحي مشاركة الشركات في بناء وتطوير المجتمع من واقع وجودها كطرف ينتفع بالمجتمع ومكوناته، وبين مصطلح الأعمال الخيرية charity work أو Philanthropic work على أساس أن ما يقدم من قبل الشركات هو بدافع النفع غير المطلوب نظاما. ومع الأسف، أن بعض مؤسساتنا ما زالت تخلط بين المفهومين، والبعض الآخر أكثر ذكاءً فيوظف المصطلحين في كل مناسبة وفقا لاحتياجاته. الحقيقة أن المصطلحين يتشابهان في الشكل الخارجي، لكنهما يختلفان في المضمون، وفي المخرجات. فالمسؤولية الاجتماعية للشركات تدعو إلى مساهمة الشركة في بناء المجتمع بديمومة، من خلال برامج البناء المستدامة التي تعود بالفائدة على الأجيال المتعاقبة من المجتمع. أما الأعمال الخيرية فهي وسيلة للتواصل بين العبد وخالقه - سبحانه وتعالى - تخرج في شكل صدقة وزكاة وغير ذلك. لن أبحث كثيرا في دوافع الأعمال الخيرية وأشكالها، لكن سأركز في بيان الفروقات بينها وبين مفهوم وتطبيقات المسؤولية الاجتماعية من واقع البيئة الاقتصادية في دول الرأسمالية.

ومع ذلك، فمصطلح المساهمة الاجتماعية في بناء المجتمع يمكن أن يعاد إلى جذور الثقافة الإسلامية، وحتى نؤصل لموضوع المسؤولية الاجتماعية من خلال ديننا الحنيف، فالمصطلح يرتبط ارتباطا وثيقا بمفهوم الإحسان، تقول في اللغة أحسنت إلى فلان إذا أوصلت إليه النفع. والإحسان: ضدُّ الإساءة. والإحسان يكون في أمور العبادات والمعاملات جميعها. كما أن الإحسان يأتي في ثلاثة معان:

1- إحسان العمل وإتقانه، سواء كان هذا العمل من العبادات أو المعاملات أو أي عمل آخر، قال الله تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) سورة البقرة: 112.

2- الإحسان إلى الخلق، قال الله تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) سورة النحل: 90.

3- الإحسان إلى الكون من حولنا؛ كالبيئة، والحيوانات، والنباتات، والأرض، والماء وغير ذلك، قال الله تعالى: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَة اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) سورة الأعراف: 56.

حتى مفهوم العمل الخيري، من صدقة وزكاة يمكن أن تأتي من دافع الإحسان، لكن الإنسان مُطالب بأدائها تقربا إلى الله حسب الاستطاعة، وهو غير ملزم بالاستدامة في ذلك. لكن مفهوم المسؤولية الاجتماعية يعني الالتزام باستمرار تقديم المساهمة لبناء وتطوير المجتمع، وهي تأتي في الأساس دون إلزام. كما أنها تركز علي مفهوم المنفعة المتعدية في الوقت وفي النفع. ومن أكثر الأمثلة على ذلك عند ما جاء رجل يسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - المال أعطاه فأسا وحبلا ليحتطب ويبيع منتجه، وهذا هو مفهوم المسؤولية الاجتماعية الذي نأمل أن نصل إليه.

منذ قيام الشركات في العالم وتطور نظريات الاقتصاد الرأسمالي، بدأت النظرات إلى مساهمة ملاك الأموال في تنمية المجتمع، فهم لم يحققوا ثرواتهم إلا من خلال المجتمعات التي يعيشون فيها. نظرية الاقتصاد الرأسمالي تؤدي إلى نمو الثروات لطبقة وسحق طبقات أخرى من المجتمع، مع العلم أن تكوين وبناء هذه الثروات جاء من تضافر الجهود بين الطبقات المختلفة في المجتمع، وهنا تبرز عدالة المسؤولية الاجتماعية التي تبحث عن تطبيق مفهوم العدالة المجتمعية بين من يجنون الثروات الطائلة وبين من يسهمون بدمائهم في تكوينها.

شرع Friedman في التساؤل في عام 1970 عن هل يملك المشروع الاقتصادي أي مسؤولية، عدا مسؤولية تعظيم الأرباح للملاك، وقد خالفه كثير من الكتاب في نظرته، حتى جاء Carroll في عام 1991 ليصوغ هرم المسؤوليات المكون من أربعة مستويات المسؤولية الاقتصادية Economic، والقانونية Legal، والأخلاقية Ethical والمسؤولية الخيرية Philanthropic التي تؤطر لموضوع المسؤولية الاجتماعية من خلال نظرة الجهات المستفيدة stakeholder perspective.

المسؤولية الاجتماعية للشركات تحمل أبعادا كثيرة تدخل من ضمنها الانتماء للوطن، والمسائل الدعائية والتسويقية، حتى المسائل القانونية، وهذا ما سأسعى - بإذن الله - إلى إيضاحه من خلال سلسلة مقالات تتحدث عن هذا المصطلح، تقديما للبحث عن مجموعة من التجارب الناجحة في السوق المحلية، لنخرج في الختام بإجابة عن سؤال حيرنا كثيرا: هل ما يطبق في السعودية يستحق أن نطلق عليه مسؤولية اجتماعية للشركات أم لا؟ يتبع.
 
الاقتصادية الالكترونية

مواضيع ذات صلة :