آراء وأقلام نُشر

بؤرة التغيير الجوهري

معظم اليمنيين المعنيين بالشأن العام من كتاب وساسة على وجه الخصوص يتحدثون في “نكف” السياسة وحمق الأيديولوجيات الباهتة فقط؛ إذ لم أجد أحداً يضع اعتباراً لهموم الناس الاقتصادية؛ باعتبارها الحامل الرئيسي للتغيير.

 

كذلك الثوار أيضاً يدورون في هذا الفلك الذي لا يجدي كثيراً ماعدا قلة بالطبع لديهم تصورات معتبرة لخروج البلد من مأزقها الاقتصادي الخانق، مدركين أن زراعة الأرض اليمنية أخصب كنز بالنسبة لليمنيين تم إهماله، إضافة إلى قطاع السياحة المشلول الذي بإمكانه في حال تفعيله على نحو حديث أن يستكفي اليمنيين وأكثر.


والحاصل أن أحاديثنا اليومية تكاد تهلكنا في معمعات لا تصب في بؤرة التغيير الجوهري الذي أساسه الاقتصاد والتنمية.


فيما الخوف أن مركز قرار الدولة أيضاً سيظل يتماهى مع هذا العبث الذي لا يعتبر أن التنمية الاقتصادية هي مربط الفرس الحقيقي للتغيير الفاعل، ما يصب تماماً في إنعاش حياة الناس وطريقة تفكيرهم أيضاً.


مع ذلك لايزال صديقي عمر الشيباني - خبير التسويق -يشعر بشيء من الأمل، رغم اليأس الكثير الذي يعتريه بسبب إرث علي عبدالله صالح، الذي سارت عليه ذهنية الدولة فيما مضى في هذا السياق، بحيث أن أمله في ظل كل الاعتبارات المعيقة، كما قال لي يزداد ثقة كل يوم في أن يبدأ عبد ربه منصور هادي في المهمة الشاقة ذات الأهمية القصوى بالنسبة لليمن ولليمنيين وقيمة المستقبل المنشود في السياق ذاته.


طبعاً نحتاج جميعاً إلى فرض إرادة الدولة نحو خطة استراتيجية إنقاذية عاجلة اقتصادياً تعرض من خلالها مؤسسات الدولة المهمة التي نخرها فساد النظام السابق للاكتتاب العام ما سيؤدي إلى سحب المدخرات من التجار والمستثمرين وتحويلها إلى أموال حيوية تدور وتثمر بدلاً من كونها الآن مجرد أموال جامدة أو بلا فوائد أنجع على الفرد المستثمر أو المجتمع أو الدولة.


ثم من شأن هذا المسعى خلق ثقة وجدوى بين الشعب ومؤسساته، تحت إشراف الدولة أساساً؛ بحيث أن المهمة المركزية للدولة هي الرفاه للمجتمع أولاً وأخيراً وليس العمل على تدليل تعاساته فقط، ودونما العمل على فتح أي منافذ متاحة لتدوير رأس المال الثابت، بما يعود بالاطمئنان والتقدم عليها كما على المجتمع برمته. 


فالمعروف أن أهم تمركزات الادخار أو الاستثمار الفردي تكمن يومياً في التمليكات العقارية أو مبيعات القات؛ إذ لا يوجد محفظة استثمارية غيرهما تحوز على تفضيل الواقع اليمني الاقتصادي في شكله البسيط للغاية حد اللاإبداع، للأسف ما يعيق بالضرورة خلق أي إمكانيات أفضل.


ولعل هذا الاكتتاب في مجالات تمس حياة المواطنين المغلوبين في الصميم كالنفط والكهرباء والمياه والموانئ والمصافي والغاز والأسماك والنسيج والخطوط الجوية والإسمنت والنقل البري والإعلام والمستشفيات، من شأنها جيداً تطوير هذه القطاعات فوق حدود المتصور جراء اشتداد المنافسة، ومن ثم الانتقال بها إلى مصاف القطاعات الأكثر نمواً والأقل فساداً وكساداً بالتأكيد.


ذلك أنه سيتم إدارتها عبر مجالس إدارة تخضع للكفاءات، لا لأهل الثقة من المقربين كما كانت تفعل دائماً سياسات علي عبدالله صالح تجاهها.

 

يتطلب الأمر تقليل سعر الفائدة في البنوك التي يتم تخزين رأس مال التجار فيها بشكل غير إيجابي، وفي المقابل رفع سعر الفائدة في أسهم شركات ومؤسسات الاستكتاب، لتتحول الأرصدة المكدسة في البنوك إلى أرصدة إنتاجية في شركات ومؤسسات الدولة لتعود بالنفع على الجميع تجاراً ودولة وشعباً.

 

فضلاً عن هذا ستكون عملية الاكتتاب أصلاً بمثابة نواة لسوق أوراق مالية تجلب الفوائد الحيوية على الدولة والمساهمين بدلاً من الفوائد ذاتية النفع، وأيضاً ستكون عوائدها نواة لمشاريع متعددة وعملاقة مأمولة مستقبلياً ومخططة لها لتستوعب سوق العمل الوطني الذي يتسع باضطراد.


والأهم في هذا كله هو امتصاص قوة البطالة الهائلة لاشك، بالتالي لابد أن وتيرة العملية الاقتصادية والتشغيلية ستزداد روعة وبما يخالف السلبية الرهيبة الحاصلة في تلك القطاعات اليوم، كما لن يمنعها من أن تقدم قيماً خلاقة في مسألة رهاننا مع المستقبل.


وتحتاج كل التصورات السابقة كما نعرف إلى الأمان الاستثماري بشكل حثيث، كما إلى البيانات المالية الشفافة الصحيحية وفق هيئات رقابية محترمة ومعايير دولية قديرة للمحاسبة.


من ناحية أخرى لابد من وضع حد للاستثمار الخارجي في مؤسسات وشركات الاستكتاب، حتى لا يتم احتكار المضاربين وخطورة ذلك في حال انسحابهم الفجائي وتأثيره السيء اللامتوقع مثلاً.


وفي السياق لا ننسى أن فوق 3 ملايين من موظفي الدولة يدفعون تأمينات، في حين أن أموال الضمان الاجتماعي عموماً في مؤسسات التأمين تدار بذهنية تقليدية، ولا يتم تشغيلها استثمارياً ومن أجل الاستفادة منها بعوائد تنموية دائمة.

 

أما الآن فقد صارت حاجة اليمن ملحة وبشدة إلى مؤتمر دولي للفرص الاستثمارية، من شأنه أن يجلب رأسمالاً مهماً لتنشيط الاقتصاد الخامل.


كذلك تحتاج اليمن إلى عقلية تكنوقراط تحل مكان عقلية العصابة التي كانت في عهد علي عبدالله صالح.. لعلكم لن تصدقوا مثلاً أن الغرف التجارية في اليمن بلا مراكز بحثية فعلية، يمكن الاستفادة منها في عملية النمو والتسويق الاقتصادي.


صحيح أن المشاكل الاقتصادية متراكمة في البلد كما نعرف، إلا أن الحلول التسويقية والتشغيلية هي الخلاص الضروري، ثم إن القوانين والتشريعات جيدة، لكنها بلا تطبيق حاسم يحمي أموال المستثمرين كما ينبغي، ما يعني أن فرض إرادة الدولة هو ما سيجعل كل معيقات الاستثمار تنتهي تدريجياً.

 

في سياق متصل تساءل صديقي - خبير التسويق - عمر الشيباني على نحو لم أتوقعه: لماذا لا يفكر بيت هائل مثلاً بزرع عباد الشمس في اليمن؟ لكنه سرعان ما أجاب على نفسه : صدقني.. يحتاج الأمر إلى تسهيل الدولة حصول المستثمرين على أراضٍ لهذا الغرض بدلاً من أن تستورد مصانع الزيوت عباد الشمس وبالعملة الصعبة من دول بعيدة.


مضيفاً: حتى الآن يا صديقي لا يوجد مؤسسة تسويق زراعي رسمية جديرة تماماً كمؤسسة من أجل ضبط الاحتكارات والسعر، كما من أجل التصدير الخارجي لمنتوجات البلاد الزراعية ذات الطلب الخارجي المتزايد. وإذن فإن ما تحتاجه الزراعة اليمنية في المقام الأول: السدود - برأي الشيباني – وبالتالي كي تصبح الزراعة 7 أشهر في السنة على الأقل.


لكن بما أنه لا يمكن التضحية بالفرد على حساب المجتمع – يستدرك الشيباني حديثه ملتمع العينين جداً - يبقى على الدولة عاجلاً أم آجلاً إيقاف المبيدات التي تستخدم في القات المستنزف الأول للمياه ليرتفع سعره ويقل استهلاكه، ثم لتتم تدريجياً مسألة تأهيل مزارعيه من أجل إدخالهم في العملية الزراعية الإنتاجية الجديدة كعملية اقتصادية متكاملة مع عمليات الاقتصاد الأخرى التي نأمل تفعيلها من أجل يمن جديد.. أجمل تنموياً.  

 



 fathi_nasr@hotmail.com


مواضيع ذات صلة :