جاء اعلان الامم المتحدة عن الاهداف الانمائية للالفية في سبتمبر2000 ، مراجعة مفصلية واعترافا ضمنيا بفشل ماعرف ببرامج التثبيت والتصحيح الهيكلي التي فرضت من قبل الصندوق والبنك الدوليين على البلدان النامية الفقيرة كشرط اساسي للحصول على بعض من حاجتها من التمويل الخارجي في هيئة عون انمائي مقدم بشروط ميسرة من الدول المانحة ،وقد بنيت تلك البرامج للاصلاح الاقتصادي على اساس ان تحقيق الكفاءة الاقتصادية في تخصيص الموارد في الدول المستقبلة للعون الانمائي سيقود الى تحقيق معدلات مرتفعة للنمو الاقتصادي وفقا لنموذج السوق الحرة النيوليبرالي وبحيث ان معدلات النمو المرتفعة ستؤدي "تلقائيا" الى خفض الفقر في هذه البلدان وبهذه الطريقة ستشق هذه البلدان طريقها للخروج من دائرة الفقر والتخلف !.
وقد تطلب الامر ضياع عقدين من عمر التنمية هما عقدا الثمانينات والتسعينات عانت فيها البلدان النامية الفقيرة مزيدا من الفقر والتخلف والاضطرابات وتعمقت الانقسامات في مجتمعاتها راسيا وافقيا ووجهت تلك البرامج ضربات قاسمة لمفاهيم العدالة الاجتماعية والمساواة والانصاف وللحقوق بصورة عامة وتغول الفساد بصورة غير مسبوقة حتى اصبح ثقافة ترعاها وتكرسها النخب الحاكمة وتشكلت روابط وقامت تحالفات ظاهرة ومسستترة بين النخب السياسية والعسكرية والبزنس احكمت سيطرتها على شعوب هذه البلدان مستعينة باسماء مستعارة مزيفة وممارسات في غاية الشكلية لمفاهيم "الحرية" و" الديقراطية " و"حقوق الانسان" في عملية استرضاء مفضوحة "للمجتمع الدولي" وتحديدا مجتمع المانحين، فاصبحت اموال المساعدات الانمائية بدلا عن وجهتها المستهدفة تذهب لتعزيز سطوة انظمة فاسدة ومستبدة بينما المانحون يغضون الطرف عن كل هذا في مقابل خضوع تلك الانظمة و اخضاعها مجتمعاتها لبرامج التثبيت والتصحيح الهيكلي كعنوان لولائها لنموذج اقتصاد السوق الحرالنيوليبرالي ، وعلى كل حال فقد كان الامر برمته يصب باتجاه اخرغيرالذي كان يبدو عليه في الظاهر ، ومما يمكن ملاحظته بسهولة ووضوح هو أن ذيول "العقود الضائعة للتنمية" لاتزال مستمرة بهذا القدراوذاك وهي تلقي بظلالها على الكثير من اوجه "العمل التنموي" في البلدان النامية وخصوصا مايتعلق بتعطيل دور العقل وانتاج الفكر التنموي الوطني الملائم للخصائص الوطنية والمحلية لكل من هذه البلدان واستمرار انغماس الكثير من "سياسيي" و"اقتصاديى" هذه البلدان وتقوقعهم ضمن اطر مفاهيمية ايدلوجية مستهلكة ومهترئة في ما يتعلق برؤيتهم للتعامل مع التحدبات التنموية التي تواجهها بلدانهم اضافة الى شيوع روح التواكل والاعتماد على مايأتي من حلول جاهزة من الخارج الى جانب التشوهات المتشعبة والفشل المتراكم على كل صعيد، واليمن بالطبع ليست استثناء عن ماتقدم ان لم تكن" النموذج" الاكثرسوءاً مما ذكر.
لقد جاءت صياغة الاهداف الانمائية للالفية مرتكزة على محورية خفض الفقر باعتباره التحدي رقم واحد بلا منازع و الهدف الاستراتيجي الاول للدول النامية (مع العلم ان الفقر خلال العقود الاخيرة تجاوز حدود البلدان النامية ليتحول الى ظاهرة عالمية بامتياز وربما ان هذه من "ثمار" الاندماج الاقتصادي العالمي !) ، ومن هنا كان اعتماد نصيب ال 20% من السكان في الانفاق الاستهلاكي كواحد من اهم المؤشرات التي يتم من خلالها الحكم على مقدار التقدم المنجز صوب تحقيق هذا الهدف، الامر الذي يبرز بوضوح التبدل الجوهري الذي حملته الرؤية الجديدة مقارنة بالنموذج الذي اطلقت على اساسه برامج التثبيت والتصحيح الهيكلي، فمن مركزية زيادة معدل النمو الى مركزية توزيع ثمار هذا النمو ومن تنمية لصالح ال 1% او 5% او حتى ال 20% الى تنمية تخدم ال 99% او 95% او على اقل تقدير ال 80% واخيرا من تنمية تركز على فعالية البشر كأدوات في زيادة امكانات الانتاج اي كاداة ووسيلة انتاج الى تنمية يصبح فيها الانتاج مجرد وسيلة لتحقيق هدف اخر اكثر نبلا هو حرية ورفاه الانسان.هذا من جانب ومن جانب اخر فان الرؤية التي جاءت بها الاهداف الانمائية للالفية تنطلق من منظور واسع يستوعب الابعاد المتعددة لظاهرة الفقر وهو منظور جاء كثمرة للمدخل الشامل لدراسة الظاهرة والبحث عن الحلول الناجعة لها، وكترجمة للحقيقة العلمية بان المقدمات تحدد مسار النتائج فان التصدى لظاهرة الفقر المركبة والمتشعبة والمتداخلة ليس ممكنا ولامجديا من دون عملية تنمية بمسارات متعددة اقتصادية اجتماعية ثقافية وبيئية وهو مااستدعى بذل الجهود (بصورة خاصة الجهود المبذولة من قبل البرنامج الانمائي للامم المتحدة )لنحت وتشكيل وابداع مفاهيم جديدة برزت الى الواجهة خلال العقدين الاخيرين كمفاهيم التنمية الشاملة والتنمية المستدامة والتنمية البشرية التي تتكامل في ما بينها بغرض اضفاء مزيد من التحديد والوضوح لابعاد المفهوم الام : التنمية، وذلك في مواجهة مفهوم"النمو" الذي يقود عادة الى اختزال مدمر لمفهوم التنمية اكان على صعيد الفكر او الممارسة على حد سواء. هذا بالطبع لايلغي التحفظات العديدة على هذه الاهداف لكنه ايضا لايعوق من استخدامها بغرض المقارنة مع ما كان سائدا قبلها من منهجية توجه تدفقات العون الانمائي من قبل المانحين على صعيد دولي.
يعرف الحائز على جائزة نوبل امارتيا سن الذي عمل لفترات طويلة خبيرا لدى البرنامج الانمائي للامم المتحدة وهوالذي يعود اليه الكثير من الفضل في نحت المفاهيم المشار اليها ،يعرف التنمية بانها عملية توسع في الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس ، والحرية الحقيقية هنا اوكما يعبر عنها في اماكن اخرى هي الحرية الموضوعية اي المقترنة بالقدرة ، فالحرية ليست عبيرا في الفراغ ولكنها حقيقة ملموسة ومعاشة لتحرير الانسان من " ربقة الجهل والمرض ،والحرية حرية فرصة ممارسة القدرة من اجل المشاركة الايجابية الواعية المسؤولة" بهذه الكلمات يصف امارتيا سن الحرية التي يتحدث عنها والتي اعتبرها المكافئ الفعلي للتنمية في مؤلفه الموسوم : التنمية حرية. ووفقا لهذا التعريف-الرؤية الذي نجده يلامس صلب المشكل الاساسي للبلدان النامية الفقيرة فان الحرمان من الغذاء مثلا او ما يعرف بفقر الغذاء ليس سوى فقر قدرة الحصول على الغذاء وهو يتجلى في معانات الجوع و يكون تحرير الانسان من هذا الحرمان-المعاناة باكتسابه القدرة الفعلية للحصول على كفايته من الغذاء هذه هي الحرية المقترنة بالقدرة وفقا لامارتيا سن، وهكذا الحال في ما يتصل بفقرقدرة الرعاية الصحية و فقر قدرة التعليم وفقر قدرة المشاركة السياسية وفقر قدرة المساواة وفقر قدرة الحماية البيئية وفقر قدرة الحصول على المعلومة ..الى اخر السلسلة. واقول السلسلة في اشارة متعمدة الى ان الهدف الرئيس للتنمية الشاملة المستدامة هو توسيع الحريات الموضوعية للناس ولكن ايضا المترابطة من حيث ان التنمية عملية شاملة تصهر معا الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية لتحقيق غاياتها، وبالتالي فان رؤية التنمية و استراتيجيتها الشاملة يجب ان تستوعب وتقصد في الوقت نفسه كافة الفاعلين في المجتمع من سلط ومؤسسات وتنظيمات وانظمة وغيرها على المستويين المركزي والمحلي، بحيث تحدد الادوار وتخطط لتناغمهاً لجميع الفاعلين بوظائفهم المختلفة ومساحات تاثيرهم المتنوعة ،طالما وكل منهم يلعب دورا معيناً مهما كان ضئيلا ومحدودا ذلك من خلال بناء قنوات عملية للحصول على المعلومات عن الوظائف والعمليات التي يؤديها كل من هؤلاء الفاعلين كخطوة اساسية اولا لتحقيق الاستيعاب والاستهداف المذكور وثانيا لبناء اليات متابعة وتقييم مستمر لاداء كل منهم بغرض اجراء مايلزم من تعديل وتطوير بصورة دورية منتظمة بما يخدم نجاح تنفيذ استراتيجية وخطط وبرامج التنمية المعتمدة .
ان التنمية في بلد فقير قليل النمو كاليمن يجب ان تتجه بصورة مباشرة ومحورية لمكافحة مظاهر الفقر المتفشية بصورة مرعبة ولا اعتقد ان اوضاع الفقر والحرمان التي تعاني منها اليمن في الظروف الراهنة التي اوصلتنا اليها عقود من التنكر لاحتياجات الناس وخيانة امالهم وطموحاتهم في العيش الحر الكريم ومن الفشل المتراكم تسمح لنا بانتاج اى رؤية او نموذج تنموي لايكون محابيا بصورة جوهرية للفقراء الذين نتوقع ان يتجاوز تعدادهم وفقا للمفهوم الواسع للفقر نسبة ال 80% من اليمنيين ان لم يكن اكثر من ذلك خصوصا اذا ما اخذنا بعين الاعتبار ان مايزيد عن60% من اليمنيين هم من سكان الريف بالاضافة الى ان معظم المدن اليمنية هي اصلا اقرب الى اشباه المدن اوالى الارياف اذا مااخضعت للتقييم وفقا للمؤشرات المعيارية المعتمدة بهذا الصدد وان عند الحدود الدنيا ، اما اذا اردنا تحديد نسبة الفقراء في اليمن من حيث فقر قدرة الحصول على الخدمات الاساسية ذات الجودة النوعية او فقر القدرة على المشاركة السياسية او فقر قدرة الحصول على المعلومة فاننا سنجد النسبة السابقة تقفز تلقائيا الى اكثر من 90% من اجمالي عدد السكان ، وهذه حقائق مرة لاينكرها الاالمستفيدون من انكارها !! اواولئك الذين اعتادوا ان يدفنوا رؤوسهم في الرمال ساعة تحين لحظة المواجهة .
اخيرا نقول ان المطلوب من مؤتمر الحوار الوطني الشامل هو انتاج رؤية وطنية للتنمية الشاملة تلائم واقعنا وامكاناتنا الظاهرة والكامنة يكون الانسان اليمني منطلقها وغايتها وتستمد عوامل ومقومات نجاحها بصورة اساسية من خلال العمل على اطلاق الطاقات والموارد الذاتية المعطلة وفي الاولية منها المورد البشري ورفع فاعلية وكفاءة ادارة التنمية واعادة هيكلة نظام الحكم والنظام الاداري للدولة بحيث يتم نقل مركز الثقل التنموي من المستوى المركزي بمعناه الفوقي المهيمن المتسلط المحصور في اطار دائرة ضيقة معزولة غالبا من صناع القرارالى المستوى اللامركزي - المحلي، بحيث يمكن هذا التغيير الاستراتيجي الجوهري من انبثاق القوى المحركة للتنمية وارتباط حوافزها بالقاعدة الشعبية العريضة من السكان فتصبح تلبية احتياجات الناس على امتداد مجتمعاتهم المحلية هي الاولوية الاولى للتنمية ،فالتنمية على المستوى المحلي يجب ان تتاسس عل المشاركة الواسعة للسكان في مختلف مراحلها من تحديد الاحتياجات الى التخطيط الى التنفيذ ، ومن المؤكد الان انه لن يكتب النجاح لاي رؤية تنموية في انتشال اليمن مما هي فيه من اوضاع تجاوزت في سوئها كل توقع ، مالم تتمحور بكليتها باتجاه الاقلال من الفقر والتخلص منه بمختلف مظاهره بلا ادنى استثناء وهو الهدف الذي لايمكن تحقيقه من دون استراتيجية تنموية شاملة محابية للفقراء اى يستفيد منها الفقراء اكثر مما يستفيد منها غيرهم، فهذه هي الطريقة المثلى لمكافحة سرطان الفقر الذي ينخر في جسد المجتمع اليمني والمضي قدما حتى استئصاله لكي تستعيد اليمن عافيتها وعنفوانها وذلك خلال العقدين القادمين على اقل تقدير.