إن العدالة الاجتماعية التي تجسد المضمون الاجتماعي للنموذج التنموي الجديد هي مسئولية مشتركة بين الدولة (الحكومة) والمجتمع بهيئاته ومنظماته الاجتماعية.
فلا أحد اليوم يجادل في دور الدولة في تحقيق التماسك الاجتماعي والاستقرار الاجتماعي والدولة عندما تقوم بهذا الدور ، إنما تحققه من خلال مقاربتين أساسيتين.
المقاربة الحقوقية التي تعني التحديد الواضح للحقوق الاجتماعية والاقتصادية في الدستور والقوانين والأنظمة ذات الصلة بمقاصد وأبعاد العدالة الاجتماعية.
والمقاربة العملية من خلال تحويل النصوص الحقوقية إلى آليات عمل وسياسات وبرامج للتنمية الاجتماعية التي من شأنها أن تجسد العدالة الاجتماعية بين الأفراد والتي أشرنا إليها في مقالنا السابق.
فالدستور اليمني الحالي يؤكد على جملة من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
ومنها ما ورد في المواد (24) ، (25) ، (26) ، (27) ، (28) ، (29) ، (31) التي أكدت على مبدأ تكافؤ الفرص لجميع المواطنين اجتماعياً واقتصادياً ، وسياسياً ، وثقافياً، وقيام المجتمع اليمني على أساس التضامن الاجتماعي القائم على العدل والحرية والمساواة والعمل والخدمة العامة، وحماية البحث العلمي .
كما أكد الدستور في مواده (41) ، (42) ، (43)، (44)، (45)، (46)، (47)، (48) ثم المادة (61) على المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات ، وحق الإسهام في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكذلك على حق المواطنين جميعاً في التعليم والرعاية الصحية تكفلها الدولة وحق الضمان الاجتماعي وحرية التنقل ، ومع كل هذه الحقوق المنصوص عليها والتي لها علاقة بمضمون و مقاصد العدالة الاجتماعية، إلا أن الدستور لم يكن واضحاً بما فيه الكفاية فيما يتعلق بالتأكيد على مسئولية الدولة في ضمان العيش الكريم والحاجات الأساسية للمواطنين التي منها السكن اللائق والمياه النقية والغذاء الصحي باعتبارها حقوقاً تكفل كرامة الإنسان.
وقد انعكس هذا سلباً على ما جرى في العقود الماضية من تعامل غير مسئول وجاد فيما يتعلق بتصاعد مشكلتي الفقر والبطالة ونقص الخدمات واعتبارها مجرد اختلالات طبيعية خارجة عن الإرادة، وليست انتهاكات لحقوق الإنسان وحقه في العدالة الاجتماعية.
واستتبع ذلك غياب الرؤية الصحيحة للعلاقة بين العدالة الاجتماعية وشكل نظام توزيع الثروة والدخل التي هي جد علاقة وثيقة.
فطبيعة واتجاه نظم توزيع الدخل بين القوى الاقتصادية المشاركة في عملية الانتاج لا يمكن فصلها عن متطلبات العدالة الاجتماعية.
فإذا كان توزيع الدخل وفقاً لمبدأ المشاركة في الانتاج ، أي وفقاً للانتاجية الحدية للعامل (أو الموظف) مثلا يمثل نظاماً صحيحاً من الزاوية الاقتصادية.
إلا أنه ليس كافياً من زاوية العدالة الاجتماعية ، فلا يكفي أن تقرر الدولة أن توزيع الدخل يتم وفقاً لقوى السوق (أي وفقاً للانتاجية الحدية فقط) لأن ذلك ليس مقبولاً اجتماعياً ولأنه لا يحقق مستوى مقبولاً من العدالة ، وحتى في النموذج الرأسمالي لم يعد هذا مقبولاً ولذلك أجرى النظام الرأسمالي تعديلات على نظام توزيع السوق باستخدام الضرائب وتوفير الخدمات الاجتماعية لتصحيح قصور آلية السوق في توزيع الدخل.
وبالمقابل، فإنه لم يعد صحيحاً أن يتم توزيع الدخل وفقاً لنظام الحاجة وإهمال مبدأ المشاركة ، لأن ذلك ليس مقبولاً من زاوية العدالة الاجتماعية ولا من زاوية الكفاءة الاقتصادية معاً، فليس صحيحاً أن يتساوى الناس مساواة مطلقة وتامة بالرغم من اختلاف مواهبهم وقدراتهم.
وقد رفض ماركس نفسه مبدأ المساواة المطلقة في توزيع الدخل أثناء المرحلة الانتقالية للاشتراكية وكان يرى أن التوزيع بحسب مشاركة كل عنصر في الناتج يكون أكثر قبولاً.
لذلك أصبح اليوم من المعروف أن جميع نظم التوزيع في العالم تقوم على مبدأ المشاركة والحاجة، وذلك ما تطبقه تقريباً دول العالم، لأن هذا الاتجاه أصبح أكثر نجاعة في تحقيق الكفاءة الاقتصادية، والكفاءة الاجتماعية معاً وبالتالي أكثر قرباً من تحقيق العدالة الاجتماعية، وما هو مطلوب اليوم هو تصحيح العلاقة المغلوطة لسياسات الأجور وجعلها أكثر اتساقاً وانسجاماً مع كل من الكفاءة الاقتصادية والكفاءة الاجتماعية.
أي أننا بحاجة إلى قواعد دستورية واضحة فيما يتعلق بتحديد المرتبات والمعاشات والحد الأدنى والأعلى للأجور بما يتفق ومبدأ المشاركة في الانتاج، وكذلك مبدأ الحاجة. ولقد ظلت هناك ممارسات خاطئة في العقود الماضية لم تكن تتسق مع مقاصد العدالة الاجتماعية. وقد اتخذت هذه الممارسات الخاطئة مظاهر وصوراً مختلفة ومنها أن العدالة الاجتماعية لا تستقيم مع وجود تفاوت تنموي بين المحافظات وبين الريف والحضر، لا يستقيم الأمر في ظل 76% من السكان هم في الريف و 80% من الفقراء هم ريفيون ، هذا التفاوت يبدو واضحاً في مستوى توفر الخدمات الأساسية ، حيث بعض المحافظات تفتقر إلى الخدمات العامة والأساسية ، مقارنة بمحافظات أخرى.
هذا التفاوت بين المحافظات ، إنما يُعزى إلى غياب رؤية واضحة لتوزيع ثمار التنمية بين المحافظات طبقاً لمعايير العدالة الاجتماعية.
وليس صحيحاً كذلك أن يترك هذا التفاوت للاعتبارات السياسية أو قدرة جماعات الضغط المحلية للتأثير على المركز لاعتبارات سياسية أو انتخابية أو حزبية.
لذلك يتطلب الأمر مراجعة معايير توزيع الدعم المركزي بين المحافظات وكذلك معايير توزيع الثروة وفقاً للعدالة الاجتماعية بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية.
وإذا كان الاستقرار الاقتصادي يمثل هدفاً رئيسياً للسياسة الاقتصادية إلا أنه لا يُطلب لذاته فقط ولكن لأنه أيضاً يمثل شرطاً ضرورياً لتحقيق العدالة الاجتماعية، ومن ثم الاستقرار الاجتماعي والتماسك الاجتماعي، فعندما تنهار القدرة الشرائية لذوي الدخل المحدود بسبب التصاعد المستمر للأسعار وتباطئ الزيادة في الأجور وتدني الحد الأدنى والأعلى للأجور فإن ذلك يلحق أفدح الضرر بالمستوى المعيشي للطبقة الوسطى والفقيرة وصغار المزارعين والموظفين والعمال، وهذا يتناقض كلية مع العدالة الاجتماعية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين.
وعندما يتعرض المستهلكون لغلاء الأسعار أو التلاعب بالجودة والصلاحية للسلع أو استهلاك السلع المغشوشة المضرة بالصحة لضعف الرقابة على السلع المستوردة من حيث المواصفات والجودة مقابل دور ضعيف للدولة وجمعيات حقوق المستهلك، فإن هذا مضر بالعدالة الاجتماعية .
إن العدالة الاجتماعية تتعرض لعدوان وانتهاك كبير عندما لا تستطيع نسبة كبيرة من الطبقة الوسطى وذوي الدخل المحدود الاستفادة من أراضي الدولة وبرامج الإسكان ، بينما تستفيد القلة وأولئك الذين ارتبطو بشبكة ونظام المحسوبية من الوصول إلى التمويل من الصناديق والبنوك ومصادر التمويل الأخرى ، وأنه كذلك أمر مخل بالعدالة الاجتماعية عندما يعاني أصحاب الحرف اليدوية والتقليدية وهم يرون أن صناعاتهم تنهار لضعف البرامج الحكومية المحفزة ومنافسة السلع المستورة.
أو عندما يعاني طلاب المنح الدراسية من تمييز لأسباب غير موضوعية وعلمية لأن ذلك ينتهك مبدأ تكافؤ الفرص ، وليس من مقاصد العدالة الاجتماعية أن يكون هناك نظام للرعاية الصحية غير كفؤ، أو عندما يصبح أكثر من 50% من السكان غير قادرين على الحصول على الرعاية الصحية الحكومية أو عندما يكون هناك نظام صحي يقوم على الانتقائية والمحاباة ويفتقر لرؤية كلية يؤدي إلى تضييق نطاق التأمين الصحي وجعله مجر امتياز خاص لبعض المؤسسات دون الأخرى، إضافة إلى حرمان الموظفين والعاملين بالأجر اليومي أو العاطلين عن العمل من نظام التأمين الصحي وذلك مضر بالعدالة الاجتماعية.
هذه مظاهر تشير إلى أهمية إعادة النظر في مسئولية الدولة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية، وهو دور ينبغي أن يكون ريادياً من خلال الوضوح التشريعي وآليات وبرامج العمل التي تكفل العدالة الاجتماعية.
إن حصاد تجربة العقود الماضية، كان مخيباً للآمال فيما يتعلق بتحقيق العدالة الاجتماعية فليس من العدل في شيء أن ينتهي الأمر إلى انجاز تسوية ظالمة تم فيها مقايضة الحرية السياسية الشكلية بإصلاح اقتصادي منقوص لا يأبه للعدالة الاجتماعية ولم يؤد إلا إلى مراكمة الثروة عند القلة وزيادة الحرمان الاقتصادي لشريحة واسعة من السكان إضافة إلى تعميق الاستحواذ الاقتصادي للمؤسسات العامة وأراضي الدولة والأوقاف ومصادر التمويل في ظل غياب المساءلة والمشاركة وضعف دور المؤسسات الرقابية والقضاء.
العدالة الاجتماعية إذن هي مبدأ أصيل ومرغوب وإن كان تطبيقها قد يبدو للبعض بأنه عسير أو مُر، إلا أنها في النهاية مسئولية مشتركة بين الدولة والمجتمع، فإنجاز التماسك والاستقرار الاجتماعي هو أجدى وأنفع وأحلى مما يتصوره البعض من مرارة المناداة بالعدالة الاجتماعية.
ومسئولية المجتمع حتماً هي مسئولية موازية لمسئولية الدولة ، فالمجتمع القائم على الأخوة وقيم التعاون والتكافل التي يحض عليها الإسلام لها تأثير عميق على وجدان وضمائر الأفراد التي من شأنها أن تحقق التكافل الاجتماعي والتوازن الاجتماعي (( مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى..) ، ومجتمعنا اليمني الحامل لهذه القيم قادر على الحفاظ على التماسك الاجتماعي ، فالناس أخوة وسواسية ، ومراكز الناس اجتماعياً لا تحدد وفقاً لحجم الثروة ولا لنوعية السلالة الاجتماعية ، ولا لحجم ما يمتلكون من قوة ، وإنما بالعمل الصالح والإيمان.
فلا يمكن للثروة أن تكون طريقاً للتسلط ولا السلطة مصدراً لمراكمة الثروة، كما أن الجمع بين السلطة والتجارة هي مفسدة تتناقض مع العدالة الاجتماعية مثلما أنها كذلك تخرب العمران.
والمجتمع اليمني بما يمتلك فيه من مؤسسات خيرية أضحت اليوم تشكل قطاعاً أهلياً كبيراً وقادراً على الاسهام في تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال الزكاة والصدقات والأوقاف ودور القطاع الخاص في برامج التنمية الاجتماعية .
كما أن توافق المجتمع على أولويات التنمية الاجتماعية سيكون لها دور كبير في تعزيز العدالة الاجتماعية ليس فقط برعاية ذوي الاحتياجات أو الفئات الخاصة وإنما في الارتقاء بأفراد المجتمع وتحقيق مستوى معيشي مرتفع يليق بكرامة الإنسان ، ومن أمثلة هذا التوافق –التوافق على أفضل البرامج لإيصال دعم السلع الأساسية (المشتقات النفطية) إلى مستحقيه من الفقراء، وكذلك التوافق على تطوير آليات الدعم النقدي وزيادة كفائتها وفاعليتها من أجل أن تصل إلى الفقراء وليس إلى الأغنياء أو المتنفذين، هذا التوافق سيسهم في تحقيق الرضاء الشعبي من جهة وتحقيق المساندة الشعبية لحكومة الوفاق الوطني في المرحلة الانتقالية من ثورة التغيير السلمية، كما أن المجتمع ومن خلال منظمات المجتمع المدني والقطاع الأهلي بشكل عام يؤدي دوراً مهماً في ترسيخ الوعي المجتمعي بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للأفراد ، وحقاً فإن العدالة الاجتماعية هي مسئولية مشتركة بين الدولة والمجتمع.
* أستاذ الاقتصاد بجامعة صنعاء – عضو الحوار الوطني الشامل – رئيس المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية.