آراء وأقلام نُشر

مرجعية الملكة بلقيس للتاريخ الحميري

 

 

اقترن المفهوم السياسي لعاصمة الدولة في التاريخ المعيني بالجوف وفي التاريخ السبئي بمارب ولم يرد ذكر صنعاء كعاصمة إلا في العصر الحميري وهي المرحلة الثالثة الأكثر تطوراً تاريخياً التي أسميت فيها صنعاء باسمها كعاصمة للصناعة القديمة،

وفيما يبدو هي مدينة كل العصور نظراً إلى أنها أقدم من كل المدن المعينية والسبئية، فصنعاء مدينة سام بن نوح مصدر الجنس السامي ويظهر من اسمها أنها كانت عاصمة اقتصادية يعود عدم ذكرها بشكل مكثف في مراحل الحضارات اليمنية القديمة إلى ضعف تغطية المؤرخين لمنطقة العمق السكاني وتركيزهم على المناطق السياسية وذلك لأن المنطقة السكانية المركزية لم تتحول إلى منطقة سياسية إلا في العصر الحميري وانتقل إليها قسم كبير من الثقل السكاني في شكل هجرة داخلية مغايرة لهجرة القسم السكاني من قبائل المشرق إلى الخارج.

كذلك تحولت صنعاء إلى عاصمة للديانة التوحيدية بعدما كانت الجوف ومارب عاصمتين للديانة الشمسية.

سبأ وحمير 

> أشار القرآن إلى مملكة سبأ وفقاً لما يتضح من ذكره لقوم سبأ (العصر السبئي) ومن تعليقاته النقدية حول كارثة سيل العرم (تهدم سد مارب) ونتائجها معطياً لها تفسيراً عقابياً من واقع الحقيقة الدينية وتفسيرها الديني للتاريخ.

ويتضح ذلك أكثر من طريقة ذكر القرآن لقوم تبع (العصر الحميري) ضارباً المثل بعظمتهم في قوله أئنتم أعظم أم قوم تبع مقدماً تفسيراً لمصيرهم عقابياً في سياق تأكيده المستمر على فناء القوة المادية وأنها لو كانت تستثني أحداً من الزوال المادي لاستثنت قوم تبع لعظمتهم فكيف بمن هم أضعف منهم.

إن القرآن باعتباره من مصادر علم التاريخ قد وثق تاريخ التحول الذي قادته الملكة بلقيس نحو الإيمان التوحيدي وتأسس عليه العصر الحميري بما يتفق والتحليل التاريخي الموضوعي للفترة بين نهاية العصر السبئي إلى فترة الملك يوسف ذو نواس نهاية العصر الحميري.

المنظور التوراتي

> كان زمن توراة موسى سابقا على زمن الملكة بلقيس ولذلك لم يأت ذكرها بالتوراة لكن تفسير بعض التوراتيين لمنظور التوراة إلى اليمن القديم يشير إلى أن اللغة اليمنية القديمة تدخل في أساس النص التوراتي: فيقولون بأن الشعب اليمني (هكذا بالاسم) وكنت ظننته تصريفاً لغوياً منهم للمسمى المعاصر يؤدي نفس غرض المسمى القديم أو أنهم يعتبرون من منظور تاريخي الشعب اليمني وليس بالضرورة التوراة تعتبر اليمنيين ذرية نوح وأساس الجنس السامي المتفرعة عنه الأمم واللغات السامية.

منظور الحقيقة المثالية

> يأتي ذكر القرآن للملكة بلقيس بشكل خاص بين سائر ملوك سبأ لعلاقتها الشخصية بعملية تحول السبئيين من ديانة الشمس إلى الديانة التوحيدية.

فقد ذكر القرآن قصة التطور الديني التاريخي بترميزه الحقيقة الدينية في صورة إبراهيم.. مشيراً إلى نقد إبراهيم لقومه على عبادتهم الأصنام، وهي حالة تطور عنده نقدية لمستويات عبادة الأشكال الدونية.. فكان يبحث عن الله في الأشكال الطبيعية الأكبر حجماً ذات التأثير المباشر في المنفعة العامة، فهو كان يرفض عبادة الأصنام من منظور حالة التطور التي يعيشها عقله، فمرت عملية بحثه عن شكل مستقر لإيمانه الديني بظواهر طبيعية منها القمر والشمس، وتجربة بلقيس الإيمانية بالشمس كانت على نفس النحو فهي كانت وقومها يعبدون الشمس فانتقلت إلى الديانة التوحيدية من سقف نهاية التطور الديني التاريخي وهي ديانة الشمس لما قبل الديانة التوحيدية مباشرة.

إن تعظيم القرآن لملك سليمان وإعطاءه مفهوماً لقوة السلطة استثنائي هو تعظيم لمملكة إسرائيل يقابله تعظيم لشخصية ملكة سبأ تكريماً لها وإشادة بحكمتها وحنكتها التي هندسته لما تسمى تاريخياً باليهودية العربية.

إن اليهودية التي قامت بمنهجتها الملكة بلقيس من واقع تجربتها السياسية والفكرية هي اليهودية الوطنية ففي توثيق نشاط الحقيقة الدينية لنظام تفكير الملكة بلقيس يظهر تحسسها الافتراضي من دوافع الملك سليمان فتعاملت معه بوسائل سياسية فهي بعبارتها الخالدة.. إن الملوك إذا دخلو قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة كانت تقصد مباشرة الاحتلال الأجنبي.

إن صيغة اليهودية اليمنية كانت أوضح نقطة في خطة الملكة بلقيس الهادفة إلى عدم تعريض اليمن للاحتلال الأجنبي باسم الدين نجد أساسها مطبقاً في الواقع التاريخي الحميري من توطين الوسيلة الدينية ويمننتها فلا يتحول المواطن اليمني بفعل اندفاعه الديني غير المحسوب داخل بلده إلى مواطن من الدرجة الثانية، وهكذا كانت اليهودية اليمنية ديناً وطنياً يشكل عمقاً روحياً للأمة الوطنية بدلاً من أن يستعبدها المهووسون دينياً ويعبثوا بمقدراتها في ما لا طائل منه من أشكال الإيمان الديني الوثني.

بلقيس المرفوعة على الأكف 

> لقد رفع القرآن الملكة بلقيس إلى مصاف الأنبياء بإشارته إلى أنها أسلمت مع سليمان للَّه رب العالمين ولم تتبعه، وهو خطاب اختص به الأنبياء كقوله عن إبراهيم : «وما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً»، ويسري هذا بشكل متعمد على كل نبي ورد اسمه وتاريخه في القرآن.

إن القرآن ألمح بإشارات مفصلة إلى ذكائها السياسي والشخصي وإلى قيادتها وزعامتها الحكيمة لقومها ولم يحط غيرها بما أحاطها به من تكريس صنوف الكمال، فيها، كما أنه أورد آيات على شكل عبارات منقولة على لسانها تدل على ما تمتعت به من فكر قيادي ومن ألمعية وتكاد قصتها في القرآن تتفرد باهتمام وعناية في لغتها لا مثيل لها على مستوى كل من أورد القرآن قصصهم، أما اليمنيون فقد خلدوها بقيام مملكة وطنية «حمير» باعتبار بلقيس تشكل نقطة أساس قيام هذه المملكة التوحيدية.

 

مواضيع ذات صلة :