آراء وأقلام نُشر

تعزيز وترسيخ الثقافة الاقتصادية التنموية السليمة

 

تشكّل منظومة القيم والثقافة الاقتصادية الموجهة للسلوك الاقتصادي والاجتماعي لأي مجتمع أو دولة، عاملاً مهماً في تحديد مسار اقتصادها وقدرته على تحقيق التطور والتقدم، وعلى مواجهة الأزمات التي يمكن أن يتعرض لها، سواء كانت ناجمة عن عوامل داخلية أو كانت بسبب تأثيرات اقتصادية خارجية. وكان لصعود اليابان الاقتصادي أثر على انتشار مفهوم الثقافة الاقتصادية التي تتشكل من مجموعة المعتقدات والمواقف والقيم المؤثرة على الأنشطة الاقتصادية للأفراد والمنظومات والمؤسسات . مثل قيم العمل الشاق والانضباط الذاتي والمبادرة والادخار والتعلم والإنتاجية كأساس للتنافسية .

وتشير المؤشرات الاقتصادية والتنموية إلى أن الاقتصاد اليمني يعاني من اختلال هيكلي أساسي يتمثل في اعتماد الاقتصاد اليمني بصورة أساسية على إنتاج النفط الخام وتصديره (إلى جانب تصدير الغاز الطبيعي حاليا)، وكذلك من اختلالات اقتصادية عديدة مثل ضعـف وتدني بنية القطاعات الانتاجية الحقيقة التي تشكل المرتكز الحقيقي لضمان استدامة النمو الاقتصادي وارتفاع معدلاته بما يساهم في تحسين مستوى دخول الأفراد وخلق فرص عمل جديدة ، وذلك لصالح القطاعات الريعية والخدمية غير الانتاجية بصورة عامة. بالإضافة إلى ضعف وتباطؤ معدلات النمو الاقتصادي، وتباين أداء الموازنة العامة، والاختلالات في تجارة اليمن الخارجية وفي مكونات وعناصر ميزان المدفوعات. ورغم أهمية العوامل والاسباب الرئيسية الموضوعية؛ الداخلية والخارجية (اقتصادية، سياسية وإدارية)، في حدوث وتعميق هذه الاختلالات هناك أيضاً عامل وسبب آخر لا يقل أهمية يتمثل في تدني وضعف الثقافة الاقتصادية التنموية السليمة والصحيحة، التي انعكست بآثارها السلبية على أداء الاقتصاد اليمني وعمقت من اختلالاته العديدة.

فالثقافة الاقتصادية السائدة في المجتمع اليمني تتسم بأنها ثقافة تقليدية، استهلاكية وريعية، وبالتالي فهي ثقافة غير فاعلة لتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية في بلادنا. فإلى جانب سيادة ثقافة الريع وثقافة الربح من دون عمل، يميل اليمنيون عامة إلى الاستهلاك وبصورة اكبر واكثر من ميلهم للإنتاج والادخار، حيث تسود مظاهر ثقافة الاستهلاك البذخي والتفاخري غير المنتج، ليس بين أوساط رجال الأعمال والقطاع الخاص ومن لهم سلطة في الدولة وكبار موظفيها فحسب، وإنما ايضاً في النفقات العامة من الموازنة العامة للدولة. 

وقد اتسعت ثقافة الريع إلى مختلف المجالات، فظهرت ثقافة "ريع المنصب" و"ريع الوظيفة العامة"، وكذلك "ريع الوجاهة الاجتماعية"، ليختلط الجاه السياسي بالأعمال والمقاولات التجارية. وتؤثر سيادة ثقافة الريع -وما ينتج عنها من دخول ريعية ناتجة عن الاملاك والثروة غير المكتسبة من الإنتاج والعمل الحقيقي وإنما من الجاه المتصل بذلك- تأثيرا سلبيا كبيرا في توجيه الفوائض الاقتصادية الناجمة عن تلك الدخول نحو الاستهلاك والانفاق الترفي، وفي أحسن الأحوال نحو الاستثمار العقيم. كما يتجلى ذلك في بناء الاصول العقارية التفاخرية والاستثمار غير المنتج. وكل ذلك لا يكون له اثر يذكر في بناء القدرات الانتاجية والتنافسية للاقتصاد الوطني، ومن ثم في النمو الاقتصادي السليم، وفي عدم تحقيق أهداف خطط التنمية. كذلك تؤدي سيادة ثقافة الريع إلى الهدر الاقتصادي الخاص والعام، والقضاء على كل حوافز العمل المنتج الجاد.

وترتبط ثقافة الريع والربح من دون عمل بثقافة الاستحواذ على السلطة والثروة في المجتمع اليمني، بحيث اتسعت ظاهرة التاجر الموظف، فارتبط الجاه والمال والبيزنس بالسلطة .وتزامن ذلك بتراجع قيمة العدالة الاجتماعية،وبالتالي تزايد الفوارق بين الفئات والطبقات الاجتماعية. ذلك انه إذا كان توزيع الدخل في أي بلد يتحدد من خلال نظم الأجور والتشغيل والضرائب والتحويلات والدعم السلعي ودعم الخدمات العامة، فإن هذا التوزيع تدهور كثيراً بسبب تبني الحكومات اليمنية المتعاقبة سياسات اقتصادية واجتماعية أضرت بالفقراء وذوو الدخل المحدود. وكان لغياب لقيمة العدل الاجتماعي تأثير سلبي كبير في الطلب الفعال المحفز للاستثمارات والنمو في الاقتصاد اليمني، نظرا لانخفاض حصة الشرائح الدنيا من الدخل. فالفقراء وذوي الدخل المحدود ليس لديهم ترف الادخار، وبالتالي فهم يحولون دخولهم إلى طلب فعال على السلع والخدمات، بما يحفز المستثمرين على إنشاء مشروعات جديدة لمواجهة هذا الطلب الفعال، وهذه المشروعات تقوم بتشغيل عاملين جدد لهم طلب فعال أيضا على السلع والخدمات بصورة تحفز المستثمرين على بناء مشروعات جديدة. 

كذلك أدت سيادة ثقافة القطيع في السوق اليمنية إلى تركيز الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية على مشروعات وأنشطة تجارية وخدمية استهلاكية غير إنتاجية بعينها (مثل البقالات والسوبر ماركات، المولات، المطاعم...وغيرها) طمعاً في حصد جزء من الأرباح التي تمكنت هذه المشروعات والأنشطة من الحصول عليها، خاصة في ظل ضعف بيئة الأعمال عامة والمناخ الاستثماري عامة. ويشكل الصراع والمنازعات في المحاكم التجارية حول العديد من الوكالات أو/ و العلامات التجارية مثالا على ذلك. 

وقد ساهم كل ما سبق، وغيرها من المظاهرة الأخرى، في تدني النظرة الاجتماعية لقيمة العمل والإنتاج وعدم تشجيع الكفاءات والإبداع، وبروز ظواهر الفساد المالي والإداري، والفهلوة ومحاولة الكسب السريع والكبير دون بذل الجهد والعرق بالعمل والجد، والإتقان والخبرة والمعرفة، إضافة إلى غياب احترام القوانين والأنظمة السارية.

وبناء على ما سبق فإن الأمر يتطلب القيام بجهود كبيرة لإحداث التغيير الحقيقي الواسع في الثقافة والمنظومة القيمية الاقتصادية في المجتمع اليمني وبما يساهم في جعل وتوجيه السلوك الاقتصادي أكثر رشادة وعقلانية وموضوعية في المستقبل. ويتطلب ذلك العمل على نشر وغرس وتعزيز مبادئ وقيم الثقافة الاقتصادية السليمة الفاعلة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في اليمن ، وفي مقدمة ذلك ما يلي:

- الإعلاء من شأن قيمة العمل والرزق الحلال والحد من سيادة ثقافة الريع في المجتمع اليمني . فالعمل في العرف الاسلامي يراد به الجهد والمشقة التي تقابل بالمال، وعلى ذلك بنى الفقهاء قاعدتهم المشهورة "عمل المسلم عبادة". كذلك يشير معنى العمل الى الكسب ببذل جهد من دون سؤال، فالشريعة الاسلامية حرمت الكسب من دون عمل، لأن العمل يؤدي الى الانتاج ويؤدي الى زيادته وزيادة معدلاته ، وبالعمل تتحقق الكفاية الانتاجية ثم يزيد الفائض الادخاري. 

- ويرتبط بالنقطة السابقة إعلاء أهمية وقيمة الأعمال المهنية والحرفية اليدوية، وكذلك أهمية المشاريع الصغيرة والأصغر.

- ضبط الاستهلاك والاستيراد الترفي غير الضروري لرفع معدل الادخار المحلي بصورة ملموسة، نظرا للدور الحيوي الذي يؤديه الادخار المحلي في تمويل التراكم الرأسمالي وتأمين دوران عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فالتجربة التاريخية تشير إلى أن التنمية التي قدر لها الاستمرار والتواصل في العصر الحديث والمعاصر هي تلك التي قامت على المدخرات الوطنية وتراكم رأس المال الوطني. فلم يحدث في تاريخ البشرية ان تحققت تنمية حقيقية في ظل افراط أي مجتمع في الاستهلاك أو الاستيراد ، كذلك لا يمكن تحقيق تنمية بالاعتماد على المعونات الخارجية الاجنبية أو الاستثمار الاجنبي المباشر ، كما لا يمكن لهما الحلول محل الادخار المحلي في إنجاز التنمية.

- الإخلاص في العمل وإنجازه والتفاني فيه وبذل اقصى جهد لتحقيق إنجاز جيد .

- تعزيز القيم الروحية والاجتماعية المتعلقة بالضمير مما يساهم في تعزيز قيم الصدق، الأمانة، النزاهة، الاخلاص في العمل والكسب الحلال من العمل والجهد الذاتي. 

- كذلك تعزيز الوازع الديني والرقابة الذاتية (الداخلية - الشخصية)، فالشريعة الاسلامية جاءت بأعظم الاخلاق واحسنها، بما في ذلك الصدق والأمانة والاخلاص في العمل وتحريم الفساد بكل انواعه واشكاله، بما في ذلك الرشوة واستغلال المال العام والمنصب. ويمكن ارجاع انتشار الفساد وثقافة الريع الى عدة عوامل يأتي في مقدمتها خلو مناهج التدريس، وبالذات في الجامعات اليمنية، من أي شيء يذكر حول هذه القيم. فعلى سبيل المثال فإن مقرر مادة الثقافة الاسلامية التي تعتبر مادة الزامية لكل طلاب الجامعة اليمنية (الحكومية والاهلية) في السنة الدراسية الأولى، لا تتناول مطلقاً هذه القيم ولو على سبيل الإشارة. وبالتالي يتطلب الأمر العمل على ترسيخ القيم الثقافية الدينية السياسية والاجتماعية والدينية في مناهج المدارس والجامعات المختلفة بما يساهم في تعزيز القيم والاخلاق السليمة والصحيحة . 

- تنمية وتشجيع الملكات الشخصية بما في ذلك الثقة بالنفس وروح المبادرة والابداع في العمل.

- تنمية روح العمل الجماعي (في فريق عمل)، باعتباره يمثل -أي العمل الجماعي- أحد المتطلبات الضرورية والشروط اللازمة لتحقيق النمو الاقتصادي وتسريع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكونه يساهم ايضاً في زيادة الشعور بالمسؤولية الجماعية المشتركة لكل عضو من اعضاء فريق العمل، وبالتالي زيادة مستوى درجة التنسيق بين أعضاء فريق العمل الواحد، ومع فرق العمل الأخرى. أما الفردية والأنانية - السائدة حالياً- فهي تؤدي إلى الفشل وربما هلاك المجتمعات والدول. ويعتبر فريق العمل الفاعل والمكون من المتميزين والناجحين الصادقين المخلصين والمبدعين المتحلين بروح المبادرة والتصميم والإبداع والتميز من أقصر الطرق لتحقيق أهداف وغايات الخطط والبرامج والمشاريع، على المستويين الكلي والقطاعي وأيضا على مستوى المشروع الواحد. 

 
 

 

خدمة المستثمر موبايل للرسائل القصيرة sms.. اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة

 (رياضة, مال وأعمال, مناقصات, فرص اقتصادية, أسعار, وظائف)

يمن موبايل 2233

5656 MTN

5757 MTN

سبأفون 3131

 

 
 

 

مواضيع ذات صلة :