الشهر الماضي كدت أعتقد أنني محبوس ( مع وزير ومحافظ ) في صحراء عسيلان بمحافظة شبوة التي تم زيارتها لتفقد منشآتها النفطية بأمر من رئيس الجمهورية عبد ربه منصور هادي ؛ ولمدة 68 ساعة..
انفجر غضب الرئيس على الحكومة والوضع العام , وربما لأنه أدرك أن الاقتصاد هو البوابة الحقيقية للاستقرار, وليس الحوار والجدل وصراع التقاسم والتمديد . كانت المهمة أربع ساعات فقط بتكليف الرئيس لمعالي الأخ وزير النفط والمعادن ومحافظ محافظة شبوة ولمرافقيهم من القيادات الحكومية لزيارة قطاع s1 وحل مشكلة محددة وربما لحلحلة مشاكل عدة؛ أوقفت أكبر شركة عالمية تستثمر في اليمن منذ ثلاث سنوات عن العمل والإنتاج ؛لكن الرئيس كأنه أصدر توجيهه الثاني قائلا : والله ما حد يدي (نطة) من الموقع إلا بعد حل المشكلة وتدوير عجلة الإنتاج وإصلاح الأنبوب لضخ النفط من جديد وأحسبه ألحق ذلك بيمين!
ولولا اتصال غير متوقع من صنعاء ينقل لي خبر إسعاف ابنتي إلى المستشفى بسبب حريق صغير شب في المطبخ وأرعبها أثناء إعداد العشاء كما أرعبني حزم غير متوقع للدولة ؛ ونقلها إلى المستشفى مغشيا عليها لكنت قضيت وقتا لا شك أنه سيجعلني أكثر زهوا وأنا أعيش حالة وضع الدولة عندما تريد أن تكون قوية, وتركل سياسة المهادنة وتنتقل إلى دولة الفعل والإرادة والحسم .
لم يشفع لي مرض ابنتي بمغادرة القطاع لأن الوزير وجه الجميع بأنه لا يمكن لأحد مغادرة المكان إلا بعد حل المشكلة وكنا نتوقع التأخير يوما أو يومين ؛ لكن الزمن تمدد من بضع ساعات إلى أكثر من أسبوع وكل من رافق الوزير والمحافظ جاءوا المكان بلا حقيبة أو عدة سفر .. وأصبحنا نحن والصحراء وقلق الرئيس الذي انتابه وتوقف به الزمن عند قطاع النفط الذي «لازم يشتغل « وأيقنا أنه لا بد مما ليس منه بد .
لقد خيل إلي أن الرئيس أصبح يتواجد معنا في إحدى الكونتيرات ؛ حيث أصبح القلق في محيا الجميع ؛ والكل يتحدث عن توجيهات الرئيس المتجددة كل عشر ساعات , فيما أخبار التوتر واحتشاد المواطنين في بوابات القطاع , وهمهمات تتردد عن هذه المنطقة التي يتمترس فيها الكثير من عناصر القاعدة ؛ وبحق فقد كان أسبوعا مرا, بدت فيه أفضل الأمنيات وهي تتلخص ولو ببدلة داخلية تنفع في صحراء تنقطع فيها كل أسباب الحياة والعيش .
وكما عهدت الوزير إداريا محنكا ورجل دولة مخلصا ويحمل الكثير من الإرادة التي تضع بصماتها دوما في كل المراحل وفي كل المواقع التي خبرها وعمل بها؛ تمكن مع المحافظ أحمد باحاج من حل المشاكل ومعالجتها بحلول حازمة أرضت الجميع .
نعم .. ها هو رئيس الجمهورية يتجه بشكل أكبر إلى الاقتصاد وإلى قضايا التنمية ؛ وهو ما جعلني أشعر باطمئنان أن اليمن ستتجاوز كل التحديات إن أحسنت أسلوب إدارة الحكم واهتمت بالاقتصاد.
وبمثل هذه الإرادة والمتابعة والحزم يكون التغيير فعلا وليس هتافات , والثورات عندما تتفجر بشراراتها تتطلع لتحقيق التحولات ولتضيء المجتمعات والشعوب ولتغيير الحياة مما كانت عليه إلى واقع جديد مزدهر ومتطور ؛ لكن خلال الفترة الماضية لم نجد المهتم والمتسم بالجاذبية والجديد المدهش ؛ بل تابعنا في الحياة العامة قليلا من التغيير وكثيرا من الفساد , ورئيسا يعمل وحكومة تنام وتسترخي في المناكفات والصراعات السياسية بين أحزاب بائسة تتمثل في معارضة لم تكن تتوقع أن تقذف بها ساحات التغيير ودماء الشباب إلى الحكم ولم تكن تتوقع أو لم تكن على قدر عال من الجاهزية الإستراتيجية لإدارة شؤون الدولة .
وبرأيي فإن الحياة السياسية لم تشهد جديدا أهم من تغيير رئيس الجمهورية الذي أحبه الناس خصوصا وقد صاحب أيامه الأولى إصدار حزمة من القرارات السياسية التي أحدثت ارتياحا واسعا, خصوصا القرارات المتعلقة بالتغييرات في القوات المسلحة والأمن , ولا ينبغي أن يقتصر العمل على ما يقوم به رئيس الجمهورية , الذي ينجز بحق جهودا دبلوماسية ومباحثات واتفاقيات مع العالم ؛ فيما تنام الحكومة وتفتقد حتى للنوايا والقول الحسن وتجعلنا نهيم في كل واد.
لكن في الاقتصاد لم يحدث الرجل شيئا يستحق الذكر وله عذره وأعذاره بهذا الشأن , وخلال 22 شهرا غرقت اليمن في ملفات الحوار السياسي ولم تلتقط أنفاسها , بل ولم تلتفت للاقتصاد إلا عندما أصدر عبد ربه منصور هادي توجيهاته لوزير النفط ومحافظ شبوة بإنهاء المشاكل التي أدت إلى توقف إنتاج 6000 برميل يوميا وأحالت دون توسيع الاستكشاف في القطاع وخسرت الدولة والمجتمع نحو مليار دولار سنويا.
كان توجيه رئيس الجمهورية قويا لأول مرة يتخذه رئيس مع مسئولين حكوميين , وزير ومحافظ , لإنجاز مهامهم وما عليهم إنجازه وحجزهما داخل رمال صحراء دامسة بمنطقة عسيلان بشبوة لمدة 68 ساعة حسمت أهم التحديات التي تواجهها الشركة ؛ ولم يكن للقطاع أن يستأنف العمل ولم يكن للشركة معاودة عملها وتحريك المنشآت إن استمر الرئيس غارقا في لغة التمديد والحوار الذي إن قدم أو حقق نقاطا متفائلة فإنه ما يلبث أن يعود إلى أبجديات المساومة والعودة إلى نقطة الصفر.
وبعد أن عادت أوكسي إلى عسيلان, وخفت الضربات الشرسة على أنابيب النفط والغاز وخطوط الكهرباء ؛ ونتائج زيارة رئيس الجمهورية إلى الصين لتحقيق نقلة أمل جديدة ؛ يتأكد لنا بأن عبد ربه منصور هادي بدأ يهتم بملف الاقتصاد ويواصل توجهات سلفه علي عبد الله صالح الذي كان رغم نزقه السياسي وأفكاره المشتتة يحقق بصمات ومشاريع إستراتيجية , في مقدمتها مشروع الغاز المسال.
وربما لأن هادي أدرك أن تكريس الوقت والجهد للملفات السياسية فقط والتي لا يمكن تحريكها والسيطرة على آثارها وتأثيراتها في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلا بعمل وجهود موازية للسياسة وحراكها ومعتركاتها الراهنة والمستقبلية .
لقد خسرت اليمن الكثير, وليس بوسعها ومقدورها ووضعها الاقتصادي الهش والممتلئ بصور الخراب أن يتعافى ما لم يكن هناك جهود واستنفار من الجميع ؛ ومثل ما كنت حاسما لإعادة تشغيل القطاع 1s والتوجه إلى المنطقة الحرة والكهرباء ؛ فإن أنبوب النفط الذي ألحقت الأعمال التخريبية به أضرارا فادحة وكبدت الخزينة العامة للدولة خسائر ضخمة بلغت خلال 11 شهرا من العام الجاري نحو 4 مليارات و 600 ألف دولار.
وبتجميع خسائر الدولة سنويا على أنبوب النفط والكهرباء , وكم تخسره في الفساد ؟ وكم تبلغ خسارتها في المشاريع غير المستغلة والفرص المهدرة في المناطق الحرة والأسماك والكهرباء والنفط ؛ لن يكون من الصواب والمنطق أن نقول إن اليمن بلد فقير ؛ ولن يكون من العدل عدم تقديم المتسببين في إفقار اليمن والشعب إلى المحاكمة.
ولعل الوقوف أمام هذه الصور والفرص المهدرة , والأرقام المهولة .. وأمام قصص الفساد الذي تعاظم في السنتين الماضيتين ؛ وفي ظل رئيس يتمتع بنوايا طيبة وصادقة وتوجهات مخلصة يبذلها من أجل اليمن ؛ فإن على الرئيس عبد ربه منصور هادي أن يعترف بأن الفساد نشط في عهده بشكل أكبر من ذي قبل وأن العبث في ظل ندرة العوائد المالية للحكومة تضاعف بشكل مهول يفوق ما كان في عهد سلفه ربما ثلاثة أضعاف ما كان عليه في السابق .
على الرئيس أن يقيل الحكومة, خصوصا وقد فرغ من مسألة التمديد وحسم له الأمر, وفي ذلك مصلحة اليمن بكل تأكيد, وأن يعترف بأن خللا كبيرا موجودا في الدولة يحتاج إلى إدارة جديدة, ومواجهة القضايا التي أساءت إلى سمعة الاستثمار في اليمن بحسم ومسؤولية أكبر , والتي كان يتم التعامل معها بمنطق ضعف الدولة ومجارات الواقع, وأن يقود حملة تصحيح للوضع الراهن في كل المرافق ؛ وتشكيل فريق من الخبراء الذين يتمتعون بالنزاهة والولاء لليمن ؛ لإعداد مصفوفة بالفرص والمشاريع المهدرة ؛ مثل سوء استغلال الديزل في القطاع 14 الذي تديره شركة بترومسيلة لاستكشاف وإنتاج البترول والتي تقوم يهدر ثلاثمائة مليون دولار سنويا منذ ما يزيد عن العشرين عاما , فيما يتم حرق الغاز في القطاع 11 وفي بعض القطاعات بصورة عبثية ؛ ولو أن قطاع النفط أوجد إستراتيجية استثمارية تشمل هذا المجال بشكل عام وموحد لكانت اليمن بخير ؛ و لكان قطاع المسيلة يستغل الغاز المحروق كطاقة نظيفة بدلا عن الديزل الذي كان سيستغل في مجالات أخرى كسلعة للمجتمع ومورد للخزينة العامة للدولة , و لكانت توفر للدولة الكثير من الفرص والموارد.
نقول للرئيس: برافو.. لقد أحسنت وأجدت في تحقيق إنجازات لم يوفق بتحقيقها أسلافك للمنطقة الحرة والكهرباء , وتحريك ملف النفط وأسعار الغاز,وجذب الشركات الروسية والأوروبية والأمريكية للاستثمار في اليمن ؛ وليتك تواصل وتكثف جهودك حتى تحقق اتفاقيات الصين عاجلا على أرض الواقع.
وكما قال الشاعر : ومن يترك الحزم في وقته يندم .
*مجلة الاستثمار العدد " 48 "