ينقصنا الكثير من الوطنية التي تحملها بعض الشعوب أو كلها لأوطانها، فالبيض والسود والكبار والصغار والمتعلمون والجهلة والرجال والنساء في هذا الوطن لا يحملون ذلك الحب الكبير لليمن الذي يحمله أصحاب تلك البلدان لأوطانهم.
من تلك الأوطان من يجتاحها الفقر، وتسودها البطالة ولا يقل حجم أزماتها السياسية والاقتصادية عن حجم أزمات اليمن، لكن أحداً من سكانها لا يجرؤ على كسر قوانينها وانتهاك تشريعاتها وتجاوز دستورها كما يحدث هنا في هذا الوطن الجميل الذي لم يستطع أبناؤه تطويع عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم لتكون سنداً للقانون وعوناً له، فنحن تقريباً نسير في اتجاهين متعاكسين على مستوى العرف والقانون، وتحديداً فيما يختص بالقوانين العامة الرامية إلى حفظ النظام واللياقة والتوازن الاجتماعي، وإذا كان الكبار يفتقدون للالتزام الذي يجعلهم في وئام وتناغم مع القانون فماذا يمكن أن يفعل الصغار إذاً؟!
ومع هذا فلا مفر من الاعتراف بضرورة وجود القدوة الحسنة التي تؤثر وتقود وتصنع الجيل المسئول، لكن من الضروري أيضاً سرعة البدء بتطعيم النشء بالمعاني الوطنية العظيمة، فالحرص على النظافة مثلاً والالتزام بالقوانين التي تدعو إليها أمر في غاية الأهمية، أن يكون الوطن قبل كل شيء وبعده فهذا أيضاً درس من الدروس الواجب تعلّمها للجيل الصاعد هذا، الحرص على الاستذكار والتفوق من أجل خدمة الوطن مستقبلاً يجب أن يكون قاعدة أساسية من قواعد تأهيل النشء للوطنية بمعناها العملي لا الحرفي.
يعاني هذا الجيل من أمراض حضارية عديدة، الاتكالية، اللا مبالاة، التخاذل، عدم وجود روح المبادرة، العبث بالثوابت، ازدواجية الثقافات.. وكل هذه الأمراض لم تحدث من فراغ وإنما كان لها أسباب كثيرة من أهمها سياسات الأنظمة الحاكمة، الثورة التكنولوجية، وغيرها من الأسباب الأقل أهمية على مستوى التحليل والدراسة المجتمعية، ومن الجور أن يتم استنساخ جيل آخر بنفس مواصفات هذا الجيل بعد أن أصبح واضحاً حجم الخسارة التي يتكبّدها المجتمع في وجود جيل بلا مقومات علمية أو أدبية أو أخلاقية راقية، لهذا نقول بضرورة تعليم الوطنية ولو بشكل أبجدة منهجية تبدأ بغرس القيم الوطنية العميقة بشكل علمي، كأصحاب أطفال المدرسة في يوم مفتوح مثلاً لتنظيف الحي الذي تقع فيه المدرسة وتشجيره في يومٍ آخر وتعهد أشجاره بالسقيا في يومٍ ثالث وهكذا.. ولا أعتقد أن هذا سيكلف مكاتب التربية أو المدارس في جميع المحافظات الشيء الكثير، فالوقت الذي سيتم استثماره لغرس تلك القيمة الوطنية أو غيرها سيكون له فوائد ربحية مستقبلاً إذا تناولنا الأمر على أساس الكم والكيف، أما إذا تناولناه بعكس ذلك فالمفترض أننا نملك جيوشاً جرّارة من المعلمين والمعلمات غير عاجزين عن إحداث التغيير وترك بصمة إيجابية، إلا إذا كانت التوقعات منفية والإجابة حول إحداث التغيير بشكل مدروس مسبوقة بـ “لا” الناهية فالأمر سيأخذ وقتاً طويلاً لا نهاية له، ولربما قامت الساعة وهذا الوطن كما هو، وطن المتعبين والكادحين والمغتربين عن أرضهم بحثاً عن لقمة العيش والمجداف والعكاز والمرفأ.
من العيب جداً أن نكتفي بهذا القدر الضئيل من قشور الحضارة وثقافة الاستيراد الممتد إلى أقصى قيمة وأدنى معتقد، إن هذا الاضمحلال الذي أصاب مشاعر الوطنية فينا لم يأتِ من فراغ، وإنما كانت له أسباب وخلفيات اجتماعية وسياسية وعنصرية وعرقية.. اجتمعت كلها على صعيد سلوكي واحد، ولهذا نجد من يتغاضى ويتجاهل كل فكرة نيرة ومشرقة من شأنها أن تعدل أنماطاً سلوكية متوارثة لم تعد مقبولة في وقتنا الحاضر، لكنها أيضاً ليست مرفوضة تماماً ممن يحاول إخفاء قرص الشمس خلف يدٍ واحدة!
لدينا جيل تائه بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ، فهو يفتقد القدوة وليس لديه مهارة للتغلب على أزماته الاجتماعية أو المعرفية أو السياسية، كما أنه غير قادر على إدارة إمكاناته وتوجهها.. يحدث هذا بسبب عدم إدراكه لوجود الخلل الكامن في قضية الانتماء للوطن.. فمتى سيتم إدراك ذلك؟!