آراء وأقلام نُشر

تغييب المتوكل استكمال برمجة تفريغ الساحة من العقول

 
كأنما جبال صنعاء ارتعدت وجعاً وخوفاً لصدى رصاصات الغدر وهي تهوي على صدر الراحل الكبير محمد عبد الملك المتوكل، رصاصات حثّت خطى الفاجعة لتفرّغ الساحة من العقل الذي تكاثفت حوله الآمال دوماً بأن هناك ما يزال مخزون من الرجال العظام الذين يمكن ان يعيدوا التوازن لبلد البارود، ويمثلون ارضية ارتكاز حقيقي للسلام والتوازن والحكمة. رصاصات مرّغت وجه صنعاء، المنهك، بالدهشة والخوف والعجز، فلا كلمات تطال ارتفاع مَن هوت هامته قسراً في يوم نوفمبري كئيب، ولا صفة يمكن ان تشرح طبيعة الصدمة التي المّت بشرائح عريضة تخشى على اليمن من السقوط في مربع الحرائق المستدامة. لقد مثل المتوكل في مراحل مختلفة مرجعية سياسية واجتماعية معتدلة وكان بوابة أمل للكثيرين في لعب دور رئيس في الأوقات الصعبة والحرجة بل والمتفجرة، وكانت كتاباته ومواقفه وأدواره محط اهتمام كبير وحيوي للجميع. ومن هنا يتفشى السؤال على الملامح المتجمدة بفعل الحدث الفظيع، لماذا؟ لماذا كل هذا الافتتان بالمصائب وتجريد الحياة من نبضها الصحي لتحل بدلاً منه المواجع وأعراض الانهيار واليأس؟. لماذا يرحل المتوكل وتزيد الحياة حرجاً ويزيد الموت تألقاً! ، وحين يصبح المتوكل في عداد الموتى تصبح كفة الموت وازنة مهيبة وحاضرة، وتصبح الحياة فرضية غامضة في عقول المتفائلين جداً.
 
هي صنعاء التي تتقلب على جمر التأهب لمواجهة أحداث متواترة وغير منطقية، تقطف الرصاص ثمارها وتنكِّس قممها وتقصف غصونها وجذوعها. الراحل الكبير قال كلمته في كل شيء، وفي كل مرحلة ولم تكن قد أوقفته مصلحة أو انتماء، أو تقيَّد بسرديات أيديولوجية عطلت تفاعله الحي مع الاحداث، أو وضع نفسه داخل انساق فكرية متجمدة، أو بين هلالي محددات، بل كان أفقياً منتشراً شفافاً في كل تعاملاته مع الأطياف المختلفة والمتناقضة وكان أفقاً وطنياً يمتلك قدرة فائقة على تصميم مساحات من التريث والتمهل من الانجرار نحو الفجائع ومثّل شكلاً من التدبير السياسي الذي يروّض الحدة والشدة، وحين يطل وجهه المستطيل الهادئ العميق المطمئن الواضح، الذي لا يحتاج الى تأويل بصري، يخلّف نوعاً من الارتياح والهدوء عند مشاهديه ومتابعيه على اختلاف توجهاتهم.
 
تغييب المتوكل في لحظات جمرية كهذه هو جزء من برمجة مشهد التوحش المتسارع في اليمن ومؤشر خطير على تجريد الشعب من بوصلاته الحيوية لتذوب الجهات ويصبح كل شيء رهين خلطة متفجرة.
 
الرهان في " أرض الخسارة"، اليمن، حالياً بعدما خسر الناس الراحل الكبير ومن سبقه ومن ربما سيلحقه، هو رهان وحيد على إبطاء التفاعل المتسلسل للإنهيار، ولا وصفة جاهزة لذلك في بلد المفاجئات المذهلة. فهل ينضج الرهان في مرحلة ما بعد "المتوكل" !، أم أن رحيله سيدوَّن في الذاكرة بأن ملاكاً أخيراً قد عبر  الساحات قبل استعار جحيمها.    
 

مواضيع ذات صلة :