آراء وأقلام نُشر

صانعو السلام (2) الحركة المحمدية في إندونيسيا

سنتحدث فيما سيأتي من الحلقات عن أهم المنظمات والحركات الدينية الداعية للسلام حول العالم من مختلف الأديان وسنبدأ بأهم الحركات الإسلامية معتمدا في اختياري لهذه المنظمات أن يتوفر فيها تحقيق الدعوة للعدالة والمساواة والحرية والتعايش السلمي والتسامح والتعاضد إضافة لإنجازاتها البارزة والمنتشرة في حق الإنسانية، باعتبار أنه بتحقيق كل هذه المعايير يمكن لأي مؤسسة أن تكون مساهم أساسي في صناعة السلام في العالم. وسنبدأ بالتحدث عن أحد أهم هذه الحركات الدينية في منطقة شرق آسيا وهي الحركة المحمدية التي كان لها الدور الأبرز في نشر السلمية بأرقى معانيها في شرق آسيا وابتداء من مقرها في إندونيسيا، فقد تأسست هذه الحركة المحمدية في العام 1912 في دولة إسلامية هي إندونيسيا الذي كان يبلغ سكانها 141 مليون نسبة 90% منهم مسلمون.

فلقد وصل الإسلام إلى إندونيسيا من حضرموت وعمان ابتداء في القرنين الثامن والتاسع الميلادي عبر رحلات تجارية لجزيرة سومطرة "سمدرة"، ولكنه انتشر في القرنين الخامس عشر والسادس عشر من جزيرة جاوا عبر الداعية الأشهر في تاريخ إندونيسيا "ملك إبراهيم" وهو من أصول حضرمية وينتسب لآل بيت الرسول. (وسنتحدث عنه بالتفصيل لاحقا في الجزء الخاص بأبرز دعاة السلام في العالم). فقد مرت إندونيسيا بنهضة إسلامية ابتدأت بالداعية ملك إبراهيم واستمرت بما يطلق عليه في التاريخ الإندونيسي بعصر الأولياء التسعة الذي كان آخرهم الداعية سونان جوننك جاتي, وبعد ذلك حل الاحتلال الهولندي لإندونيسيا في العام 1757م الذي سعى منذ وجوده على إيقاف الدعوة للإسلام بمظهره السلمي والترويج للمصالح المخالفة له, فسلك الإسلام نهج آخر في إندونيسيا بسبب الاحتلال وانقسم لقرابة 150 فرقة, وبدا سلوك الجهاد بمعناه الدفاعي بالظهور لنبذ الاحتلال عبر تأثر كبير بمنهجية الشيخ المصري محمد عبده فتوحدت الفرق الإندونيسية ونبذت المستعمر الهولندي من أراضيها, وكانت هذه النواة بعد ذلك لتكون الحركة المحمدية في إندونيسيا.

تم تأسيس الحركة المحمدية في العام 1912 من قبل الشيخ محمد درويش الذي عرف باسمه “كياهي الحاج أحمد دحلان” وهو من نسل الشيخ ملك إبراهيم الذي دعا لنشر الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة بمنهج قرآني يقوم على الآية "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن". وبرغم أن أهدافها الأصلية كانت تتركز في البدء على انتشار الإسلام إلا أنها تحولت مع الوقت إلى الدعوة لأهم تعاليم الدين الإسلامي المتمثلة بالعدالة والمساواة والحرية والتسامح والتعايش السلمي، لتتمكن من تحقيق الإسلام بحقيقته السلمية. وقد تم التصريح عن هدف الجمعية في العام 1959 بأنه "إيجاد مجتمع إسلامي يحقق الإسلام بحقيقته الكلية". حيث اعتمدت الحركة على أسلوب القافلة المحمدية في الدعوة للإسلام داخل وخارج إندونيسيا، إضافة لإدخال التعاليم السمحة للإسلام في مناهجها الدراسية، ومن ثم إنشاء مدارسها وجامعاتها التي بلغ عددها 12497 اثني عشر ألفا وأربعمائة وتسعة وسبعين مؤسسة تعليمية داخل اندونيسيا فقط. كما قاموا بتأسيس مجلس "الترجيح" الذي كان له الأساس في وضع لبنة التعايش السلمي مع الجميع. فبيّن موقف الحركة من الجماعات الدينية المختلفة، فبرغم التشدد الذي كان ظاهرا في البدء واعتبارهم هذه الجماعات معادية للإسلام، وكان هذا انعكاس طبيعي لما مرت به إندونيسيا من احتلال وظهور المجاهدين الذين دافعوا عنها من الاحتلال فقد كان لهذا أثر أكيد في تكوين الشخصية الإسلامية الحذرة من الآخر، فنلاحظ تحول هدف الحركة مع الوقت من الدعوة للمعروف والنهي عن المنكر إلى الدعوة لحقيقة الإسلام بمضمونه السلمي. حيث كان الوقت كفيلا بسيطرة التيار الروحي على التيار العقلاني في الحركة وإعلان قبولها بالآخر من أي طائفة أو ملة كان، وقد صرح عن هذا صراحة الشيخ محمد سراج الزعيم الحالي للحركة في أكثر من لقاء.

تمكنت حركة المحمديين الإسلامية وخلال قرن من الزمان من تقديم خدماتها لعدد 48 مليون مسلم وغير مسلم، وإنشاء بنكين تمويليين للفقراء إضافة لفتح الآلاف من دور الأيتام ومكاتب الرعاية المجتمعية والتعليمية ورعاية كبار السن والتدريب المهني وغير ذلك الكثير، مؤكدة مراعاتها بذلك للإنسان قبل كل شيء. وربما كانت أصول الحركة الممتدة لآل البيت وجذورها السنية وتأثرها الكبير بالمدرسة الصوفية الحضرمية واختلاطها بكل من العرب والفرس والهنود والصينين، كل هذا أكسبها مناعة عالية على تجاوز الخلاف المذهبي ومن ثم الديني، فظهر لها دور فاعل في صياغة وثيقة التعايش السلمي بين السنة والشيعة، وتلعب اليوم دور توعوي كبير لإيقاف العنف ضد الانتهاكات للأقليات الدينية الذي انتشر في السنوات العشر الأخيرة في إندونيسيا. فارضة نفسها بذلك كأحد أهم صانعي السلام في الشرق الأقصى وربما في العالم.

دمتم ودام لنا وطن

5/11/2015

مواضيع ذات صلة :