قد يتساءل الكثيرون كيف يمكننا أن نطلق على المؤسسة الدينية اليوم "المؤسسة الأولى لصناعة السلام في العالم!" في الوقت الذي يدعو به السلام إلى اللاعنف وهذه الأديان تدعو صراحة للعنف عبر القتال من أجل نشر الدين ففي القرآن "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق", وفي الإنجيل "لم آتي لألقي سلاما بل سيفا", فالكثير يفضل تعريف السلام كما اجتهدت العديد من المؤسسات الغربية على أنه العدل, باعتبار أن تحقيق العدل نسبي يعتمد على تعريفنا لمعطيات تحقيقه, متجاهلين أن طريق السلام مستمر. فيحاولون تحقيق معنى الدولة بتحقيق العدالة في الوقت التي يُجمع فيه مؤرخوهم دون استثناء بأن الدولة لا تقام إلا بالعنف بل هي وليدة العنف. إلا أن محاولة ربطنا الأديان بمفارقة السلام والعنف يعتبر شيء أساسي للغاية لأن وجودنا قد اعتمد منذ البدء على هذه المفارقة فكان تساءل الملائكة عن خلق آدم "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" ومن ثم أول سفك دماء بشرية في قصة هابيل وقابيل من أجل تحقيق مصلحة ما, بل كان أن برر البعض نتيجة الصراع بالعدالة مفسرا ظهور الغراب أنه دليل واضح على أن هذا كان الدرس الأول الذي على جميع البشر تعلمه ليتمكنوا من العيش على هذه الأرض وهو العنف!, إنهما طريقان يحددهما ولدي آدم, الأول يقول: لأقتلنك, والآخر يرد عليه لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلنك". فهل يدعونا الدين للعنف أم للسلام؟!
يقول ابن خلدون في مقدمته "المجتمع لا يمكن تكوينه إلا بالغذاء والدفاع" مشيرا الفيلسوف تيتشه بأن وزارة الدفاع تتحول مع الوقت للهجوم لأن هناك شحنة كبيرة من العنف بحاجة للتفريغ. فهل نحن مجرد حيوانات متطورة أصبح يمكنها بناء مجتمعات كما أكد بيتر فارب في تجربته عن الطفل أفيرون الذي عاش متوحشا في الغابة (تجربة الدكتور إيتار)؟ وهل المجتمع مجرد مصيدة أكبر تحدد قوانينه الدولة؟ وهل مشكلة استمرار العنف برغم نشوء الدولة كما يقول المفكر علي الوردي هي "أننا تمكنا بالفعل من تكوين دولة لتمتلك الأفراد ولكننا لم نتمكن من تكوين دولة عظمى لتمتلك هذه الدول فأصبح العنف بين الدول أكثر منه بين الأفراد"؟ ألم يخلق هذا فينا "سرطان السيطرة" فانعكس أولا بإعلاننا الحرب على الدولة المجاورة لنا ومن ثم عاد لينتشر في داخل بلدانا ذاتها عبر الطغيان. ألم يكن وجود الرسالات الإلهية منذ البدء هو دعوة للقضاء على الطغيان ونشر السلام بين الجميع!! وهل الآيات الصريحة في القرآن تدعو في الحقيقة إلى العنف وقتال غير المسلمين أم هي مجرد وعيد لهم بالعقاب وشر جهنم!؟ وهل الدين كان بالفعل يدعو لتحديد نوعان فقط من البشر كافر ومسلم وبهذا تولّد فينا العنف المبني على إنكار حق الآخر بالحياة؟ وهل تطور هذا من مجرد كافر ومسلم إلى باطل وحق فتوسعت الانقسامات الداخلية على مستوى الإسلام ذاته، فأصيب الدين بنفس "سرطان السيطرة" وتحول من محاربة الكافر إلى قتال أخوه المسلم محققا بدوره الطغيان؟
الحقيقة أن الأديان بكتبها المقدسة قد تبنت دعوة تبدو في الظاهر للعنف كما هي للسلام، وكان من الطبيعي لأي بشري أن ينجذب لآيات وأحاديث العنف أكثر منه للسلام برغم أنها تكاد لا تذكر في جميع الكتب السماوية، وهذا بسبب طبيعة الإنسان النقدية وسيكولوجيته المرتبطة بالتميز والتحيز. ولهذا فقد انزل الله كل هذه الكتب السماوية وآخرها القرآن الذي حفظ من التحريف على أيدي رسل وأنبياء مبشرين كان هدفهم الحقيقي هو إظهار ما سيعجز عقل البشري العادي مهما كان ذكائه عن إدراكه, فكان أن أتوا بطريقة التغيير الاجتماعي فعانوا الأمرين ليكونوا نماذج واقعية للسلام, ففي القرآن "ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين" وأصروا على حرمة الدم والاعتداء على الآخر "فيقول محمد صلى الله عليه وسلم "لهدم الكعبة حجرا حجرا أهون من قتل مسلم" فبهؤلاء الرسل ولهذه الطريق تم تكوين المجتمع بنموذجه الديني. فغلبت صفة الصبر على دعاة هذه الطريق من الرسل والأنبياء، وحين اضطر المسلمين لحمل سيوفهم كان دفاعا عن النفس فعلمهم الرسول الكريم أن هذا هو الجهاد في سبيل الله: جهاد للنفس ودفاع عن النفس، فالقاتل بنص القرآن في قصة قابيل "من الخاسرين" وأيضا "من النادمين" فالحقيقة أن الإسلام يقوم على بناء المجتمع وصنع الدول بطريقة سلمية عبر الأنبياء فإذا ما تكون المجتمع وقامت ركائز الدولة أصبح هدف الدولة درء الفتن "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" وهذا القتال يأتي بمعنى الجهاد وهو الدفاع عن النفس. الدفاع الذي لا يتحول إلى هجوم بسبب الوازع الديني والروحي المعزز لديهم بالسلام، ومن هنا تتكون الدولة التي تكون اللبنة الأساسية في تأسيسها السلام وليس العنف. فالجهاد كما يعبر عنه الفيلسوف الألماني كانط في كتابه "نحو سلام دائم" "بناء إطفائية عالمية للحريق لنجدة المضطهدين في الأرض" ضمن توضيحه لدور منظمات مثل الأمم المتحدة التي يقوم دورها على الدفاع عن السلام باللاعنف. وهذه الأسس الذي أخذتها المنظمات العالمية المستحدثة كانت بناء تراكمي لما جاء به الرسل منذ بدء الخليقة، فالله سبحانه يدعوهم للاعنف "ولا تعتدوا إنه لا يحب المعتدين" إضافة للتعايش السلمي "لا ينهاكم الله عن الذين لا يقاتلوكم في الدين أن تبروهم وتقسطوا إليهم" ليكتمل بذلك أنموذج المجتمع السلمي.
ومن هنا فتعتبر المؤسسة الدينية هي المؤسسة الرئيسية في صناعة السلام العالمي عبر مجموعة من الدعاة لطريق الحق وهم الرسل والأنبياء الذين كان هدفهم الحقيقي أن يمهدوا إلى هذا الطريق عبر إيضاح ما قد يلتبس علينا من ظاهر النص المنزّل او مفارقة هابيل وقابيل الذي يحسمها الله صراحة بلسان هابيل "إني أخاف الله رب العالمين" فنجد أن دفاعنا عن أنفسنا من دعاة الفتن يجابه بالقوة الذي تمارسها الدولة وليس الأفراد، أما دفاعنا عن أنفسنا من المسلمين أنفسهم فيجب أن يكون بالحوار والطرق السلمية. كما سنلاحظ اليوم أن أشهر صانعو السلام من المنظمات هي مؤسسات دينية، وأن صانعو السلام من المؤسسات اللادينية أو العلمانية أيضا تعتمد اعتمادا كبيرا على دعاة سلام مؤمنون للتمكن من تقديم رسالتهم الواضحة لجميع البشر، بحيث أصبح هدف هؤلاء من دعاة السلام اليوم أن يسيروا على طريق الرسل والأنبياء في محاولة يشوبها العديد من التكذيب وتحتاج للمزيد من الصبر في عالم تمكّن منه العنف بكل ما فيه من كره وقتل ودماء, مصرين على إيصال رسالة الإسلام للجميع "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"
دمتم ودام لنا وطن
04/11/2015