آراء وأقلام نُشر

فادي عدره يكتب: آن أوان تحديث أنظمة التقاعد في دول الخليج

فيما باتت أسعار النفط المنخفضة والضغوطات على الموازنات الحكومية تلقي بظلالها الثقيلة على دول مجلس التعاون الخليجي، بدأت بعض حكومات المنطقة تبحث عمّا قد تحمله هذه التحديات من فرص للتغيير. ولعل أحدى هذه الفرص تكمن بإعادة النظر بأنظمة التقاعد الحالية. فرغم أن حكومات المنطقة لا تواجه أزمة راهنة تمنعها من صرف المعاشات للمتقاعدين الحاليين، لكن أنظمتها التقاعدية تجلس على قنبلة موقوتة، بحيث أنها لن تكون قادرة على سداد التزاماتها لمواطنيها المتقاعدين خلال عقد أو اثنين من الزمن.

إن معظم صناديق التقاعد في دول مجلس التعاون الخليجي تُراكم الالتزامات غير المموَّلة. فتعتمد إستدامة أنظمة التقاعد الحالية، المعروفة بأنظمة «المنافع المحددة ((defined benefits على التركيبة الديموغرافية إلى حد كبير: فالعاملون الحاليون يموّلون المتقاعدين الحاليين. ولذلك، تُعتبر نسبة الاعالة العمرية (أي نسبة المعالين إلى العاملين) مؤشراُ أساسياً لمدى استدامة هذه الأنظمة التقاعدية. والمقلق هنا أن الاحصائيات تظهر أن نسبة العاملين إلى المتقاعدين في عموم المنطقة قد انخفضت بشكل حاد خلال العقد الماضي. ففي دولة الإمارات مثلاً، تدهورت هذه النسبة من 24 عامل لكل متقاعد في عام 2000، إلى 5 عاملين فقط لكل متقاعد في عام 2012. وينذر هذا التدهور بعدم استدامة هذه الأنظمة في حال الإبقاء على المنافع السخية الحالية، وخاصة في ظل ارتفاع المعدلات العمرية باستمرار.

من هنا تبرز ضرورة الشروع بتطوير أنظمة التقاعد الحالية، اليوم قبل الغد. ورغم أن الدافع الاساسي للإصلاح هو مالي، إلا أن الحل يجب أن يتعدى مسألة القيود على الموازنات. فأي إجراء يُتّخذ لضمان الاستدامة المالية لأنظمة التقاعد من شأنه أن يؤثر على العاملين، والمتقاعدين، والمستفيدين من بعدهم. فبعد أن نجحت بعض الدول المتقدمة في تحقيق الاستدامة المالية لصناديق التقاعد، نراها اليوم منهمكة بإيجاد منظومة تقاعدية متوازنة تؤمّن العيش الكريم لكبار السن من سكانها. أما دول الخليج، فهي اليوم قادرة على تجنب ذلك عبر تحقيق الهدفين في آن واحد: معالجة مشكلة الاستدامة المالية، وتصميم نظام حديث يؤمن منافع كافية وعادلة للمتقاعدين.
بالفعل، فإن مشكلة الانظمة التقاعدية في المنطقة لم تخرج عن السيطرة كلّياً بعد، مما يسمح بإطلاق التغييرات التدريجية اليوم وتجنّب الإصلاحات الجذرية (وعلى الاغلب المستحيلة) في المستقبل. بالاضافة الى ذلك، فإن القوى العاملة في هذه الدول اليوم معظمها من الشباب (دون سن الـ 35 عام)الأمر الذي يجعل تقبًل التغيير أسهل، حيث أن عدد المتأثرين بأي تعديل على النظام التقاعدي سيكون محدوداً على المدى القريب.

هنالك 3 نواح يجب العمل على تطويرها، وهي:
  1 - تركيبة أنظمة التقاعد الوطنية.  
 2 - معايير الاشتراك في الأنظمة التقاعدية والتقاعد منها.   
3 - النموذج الإداري لصناديق التقاعد.

أما بالنسبة لتركيبة أنظمة التقاعد الوطنية، فيجب تقليص جزئية المعاشات المضمونة من قبل الحكومة، وإنشاء برامج للإشتراكات الإختيارية، وإيجاد آليات تشجّع الادخار الفردي. فمن الضروري ربط جزء من معاش المتقاعد بمساهماته الفردية خلال سنوات عمله وبعوائد الاستثمار على هذه المساهمات، وذلك عبر حسابات فردية تشبه حسابات التوفير الشخصية. فخلافاً للنموذج الحالي للمعاشات التقاعدية، الذي تحكم استدامته العديد من المتغيرات الديموغرافية والمالية ومتغيرات سوق العمل، يسمح نظام مبني على حسابات فردية التركيز على متغير واحد أساسي، وهو عوائد الاستثمارات. وليس على صناديق التقاعد نقل كامل المخاطر إلى الفرد (مع أن هذا هو النموذج العالمي السائد) بل يمكنها إنشاء أنظمة مبتكرة تسمح لها بالتدخل عند الحاجة للإبقاء على المعاشات التقاعدية فوق حد أدنى معين من دون تكديس الالتزامات غير المشروطة.  فيمكن للحكومات مثلاً تحديد وضمان حد أدنى للعائد على الاستثمار سنوياً، شريطة اتباع المشتركين قواعد محددة مسبقاً من قبل صندوق التقاعد في خياراتهم الاستثمارية.
أما بالنسبة لمعايير الاشتراك في الأنظمة التقاعدية والتقاعد منها، فإن بلوغ الاستدامة المالية لا يمكن تحقيقه إلا عبر مزيج من 3 عوامل: إشتراكات أكبر، ومدة خدمة أطول ومعاشات تقاعدية أقل.

ولكن كما أشرت سابقاً، من الممكن تحقيق هذه الاهداف عبر تغييرات مدروسة، وتدريجية، وعادلة. فعلى سبيل المثال، بدلاً من فرض إشتراكات أعلى على رواتب العاملين، يمكن تقديم الخيار للعاملين بزيادة اشتراكاتهم الشهرية، ومن تحفيزهم عبر مطابقة هذه الاشتراكات بمساهمات من الحكومة.
كذلك الأمر بالنسبة لسنوات الخدمة، حيث يمكن العمل على تمديدها من خلال فتح الباب الاختياري أمام التقاعد المتأخر وتحفيز ذلك عبر تقديم مزايا أعلى للسنوات التي تتجاوز مدة الخدمة الاعتيادية. كما يمكن رفع سن التقاعد (المنخفض في دول المنطقة) بشكل تدريجي جداً، أي خلال فترة 20 إلى 30 سنة – بحيث يتم زيادة سن التقاعد بمعدل شهرين في كل سنة مثلاً، مما يؤثر بشكل طفيف على العاملين اللذين قاربوا سن التقاعد. بالإضافة الى ذلك، فمن الممكن إدخال التطويرات التي تحقق العدالة والشفافية، التي ستكون مرحباً بها، وقد تشمل مثلاً ربط المعاشات بالتضخم المالي، وآليات «إعادة توزيع» بعض المنافع من المتقاعدين ذوي الدخل المرتفع الى المتقاعدين ذوي الدخل المحدود، وتوحيد القواعد والشروط على القطاعين العام والخاص، وعلى مختلف مستويات الحكومة (في حالة الدول ذات الانظمة الإتحادية).

أما في ما يتعلق بالنموذج الإداري لصناديق التقاعد، فعلى صناديق التقاعد تحسين وتوسيع نطاق خدمات المتقاعدين إلى ما هو أبعد من مجرد إجراءات تحويل مالية.  كما يجب إصلاح العمليات والأنظمة الداخلية لتمكين الصناديق من المتابعة والتدقيق على كيفية تحصيل الاموال، وطرق استثمارها وهوية واحقية المستفيدين منها. وبهذا الخصوص، يجب على مؤسسات التقاعد في المنطقة تطوير إمكانيات أكبر في مجالات الرقابة وضبط قواعد العمل، وذلك من أجل ضمان عمليات تحصيل وصرف آمنة وسريعة ودقيقة؛ وتُدعم هذه الإمكانيات من البنية التحتية التكنولوجية ومن الارتباط بالمؤسسات الحكومية ذات الصلة - كوزارات العمل والداخلية والصحة وغيرها.
إن إصلاح أنظمة التقاعد مهمة شاقة وشائكة لا تخلو من التحديات، ولطالما قامت العديد من الدول حول العالم بتأجيلها حتى تحولَّت من مجرد خطر إلى مشكلة حقيقية، وأحياناً إلى كارثة. تقف دول مجلس التعاون الخليجي اليوم أمام فرصة ذهبية نادرة لتحديث أنظمة التقاعد بشكل تدريجي وعادل ومقبول، بحيث تحسًن إستدامتها المالية وتشرك مواطنيها باتخاذ القرارات الحكيمة من أجل مستقبلهم ومستقبل الأجيال القادمة من بعدهم.


*شريك في «ستراتيجي &» (بوز آند كومباني سابقاً) جزء من شبكة «بي دبليو سي».

 

أريبيان بزنس

 

مواضيع ذات صلة :