لكن اليوم، تتجه الصناعة نحو آفاق جديدة، مدفوعة بالابتكار المستمر والاستدامة والاندماج العالمي، حيث تُحدث الموانئ الذكية والوقود الأخضر والتقنيات الرقمية تحولاً جذرياً في طريقة الانتقال عبر البحار. لذا، يجدر بنا أن نتعمق أكثر في مستقبل وسيلة النقل هذه المسؤولة عن أكثر من 80% من البضائع المتداولة عالمياً.
الابتكار
لقد انقضى عهد التحميل والتفريغ اليدوي، فالموانئ الذكية في يومنا هذا لا يقتصر اعتمادها على الرافعات الآلية والآلات المتطورة فحسب، بل تعتمد أيضاً على الذكاء الاصطناعي المتكامل وإنترنت الأشياء وسلسلة الكتل (البلوك تشين) والتوائم الرقمية والروبوتات لتحقيق كفاءة معززة.
وقد وضعت موانئ دول مجلس التعاون الخليجي الرئيسية مثل ميناء جبل علي وميناء خليفة في الإمارات وميناء الملك عبد الله في السعودية وميناء حمد في قطر معايير عالمية عالية من خلال ريادتها للتوجهات الحديثة ودمجها لشبكات اتصال الجيل الخامس (5G) مع الابتكارات المذكورة.
تستثمر سلطنة عُمان في تعزيز البنية التحتية والنمو الاقتصادي، حيث تتخذ المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم وميناء الدقم بوابة لها.
وعلى الرغم من بعده 550 كم عن مسقط، يعمل الميناء بكامل طاقته ويخطط للتطور إلى ميناء ذكي يحاكي نظراءه في دول مجلس التعاون الخليجي، بعد توقيع مشروع التوسعة مع إنفستكورب باستثمار قدره 550 مليون دولار. ويهدف الميناء إلى أن يصبح لاعباً محورياً في إنتاج وتوريد الهيدروجين الأخضر.
تتجه دول مجلس التعاون الخليجي والموانئ الذكية الرائدة حول العالم نحو خطوة تالية طموحة: التكامل مع مشروع السفن السطحية ذاتية التشغيل. تصنف المنظمة البحرية الدولية هذه السفن ضمن أربع درجات من الاستقلالية: الدرجة الأولى تشمل السفن ذات الوظائف الآلية التي لا تزال تعتمد على سيطرة وقرارات البحارة، وهي فئة جميع السفن التجارية اليوم. أما الدرجة الثانية، فتشمل السفن التي يتم التحكم فيها عن بُعد مع وجود بحارة على متنها لاتخاذ القرارات. وتشمل الدرجة الثالثة السفن التي يتم التحكم فيها عن بُعد دون أي طاقم. وأخيراً، تمثل الدرجة الرابعة السفن ذاتية التشغيل بالكامل، التي يمكن لأنظمتها التشغيلية اتخاذ القرارات وتحديد الإجراءات بشكل مستقل.
أصبحت عمليات محاكاة السفن ذاتية التشغيل والتدريبات على السلامة والتشغيل ممكنة إلى حد كبير بفضل ظهور تقنية «التوأم الرقمي». تنشئ هذه التقنية نسخة رقمية دقيقة لكل سفينة عبر أجهزة الاستشعار وإنترنت الأشياء وغيرها من الأجهزة على متنها، ما يمنح المشغلين تحكماً أفضل دون الحاجة إلى وجودهم على متن السفينة. وبالنسبة للأطقم والمدربين، تفتح هذه التقنية الباب أمام ممارسات أكثر أماناً وتفصيلاً لتعلم أنظمة السفن واستكشاف الأخطاء وإصلاحها، ناهيك عن توفيرها طريقة أكثر أماناً للتعامل مع حالات الطوارئ.
أفاد بحث من قسم الميكاترونيات بالمعهد العالي للهندسة والتكنولوجيا بالإسكندرية بأن 62% من الحوادث التي وقعت على متن السفن التجارية بين عامي 2011 و2015 كانت تُعزى إلى الأخطاء البشرية. وتُسلّط الدراسة الضوء على كيف يمكن للابتكارات مثل الموانئ الذكية والسفن ذاتية التشغيل وتقنية التوأم الرقمي أن تساعد على خفض هذه الأرقام عبر تقليل الأخطاء البشرية. وتوضح حوادث مثل جنوح حاملة الحاويات العملاقة «إيفر غيفن» في قناة السويس عام 2021 الذي أوقف حركة الملاحة لستة أيام طويلة، حجم المخاطر التي تهدف هذه التقنيات إلى منعها. وتتمثل المكاسب الكبرى في تعزيز السلامة، وتحسين الاستعداد، وخفض التكاليف مقارنة بالتدريب والصيانة بالطرق التقليدية.
الاستدامة
مع تجاوز سعة الأسطول العالمي مليوني طن موزعة على ناقلات البضائع السائبة وناقلات النفط وسفن الحاويات وسفن البضائع العامة، يتجه القطاع البحري تدريجياً من الوقود الأحفوري إلى حلول أكثر صداقة للبيئة مثل الأمونيا، والميثانول الإلكتروني، والهيدروجين، وذلك منذ أن قدمت المنظمة البحرية الدولية استراتيجيتها للوصول إلى صافي انبعاثات صفري من غازات الدفيئة في عام 2018، بهدف تحقيق ذلك بالكامل بحلول عام 2050. وبحلول ذلك العام، من المتوقع أن تصل القيمة السوقية للهيدروجين إلى ما بين 1 و2 تريليون دولار أميركي، ارتفاعاً من 117 مليار دولار حالياً، مع إمكانية توفير 16% من احتياجات الطاقة العالمية. ومن المتوقع أن تنتج دول مجلس التعاون الخليجي وحدها ما بين 25-50 مليون طن سنويًا بحلول ذلك الوقت، مع تجاوز الصادرات للاستهلاك المحلي بفارق كبير.
وهذا التحول مرحب به للغاية في قطاع مسؤول عن 1.7% من انبعاثات مكافئ ثاني أكسيد الكربون البشرية المنشأ عالمياً، وفقًا لتقرير يحلل بيانات بين عامي 2016 و2023 أعده المجلس الدولي للنقل النظيف.
ولا شك أن الإمارات والسعودية تقودان توجه الاستدامة في المنطقة. فقد أطلقت دائرة الطاقة في أبوظبي مبادرة قوية لتطوير وقود قائم على الأمونيا المتجددة لتزويد الأساطيل البحرية وتخزينه وتوزيعه خلال العقد القادم. وتبني المملكة العربية السعودية بنية تحتية شاملة للتصدير على كلا الساحلين، مهيأة للمحطات التي تعمل بوقود الأمونيا، بما في ذلك منشأة شركة نيوم للهيدروجين الأخضر على البحر الأحمر، ومنشآت الجبيل ورأس الخير على الخليج العربي. فضلاً عن ذلك، تمتلك شركة «البحري»، الشركة الوطنية السعودية للنقل البحري ثماني ناقلات أمونيا عملاقة جداً قيد الإنشاء في أحواض بناء السفن في كوريا الجنوبية، يبلغ حجمها ضعف حجم السفن الحالية التي تعمل بالأمونيا. ومن المقرر أن تبدأ أولى هذه السفن المتخصصة عملياتها العام المقبل، والأسطول الكامل في العام الذي يليه، ما سيجعل شركة «البحري» مالكة لأكبر أسطول متخصص في نقل الأمونيا في العالم.
التكامل العالمي
على عكس القارات الأقدم التي استغرقت قرونًا لتطوير أنظمة سكك حديدية واسعة ومتعددة الوسائط، فإن معظم دول مجلس التعاون الخليجي حديثة العهد نسبيًا: فقد نالت الكويت استقلالها عن بريطانيا عام 1961، تلتها قطر والبحرين بعد عقد من الزمان، وتأسست الإمارات عام 1971، بينما تأسست الدولتان المستقلتان دائماً، المملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان، في عامي 1932 و1744 على التوالي.
يمنح الموقع الجغرافي المتميز لدول مجلس التعاون الخليجي ميزة استراتيجية طبيعية للربط بين القارات، وقد اغتنم قادة المنطقة هذه الفرصة، وإن كان ذلك في وقت متأخر نسبياً. عام 2016، أطلقت الإمارات شبكة «قطار الاتحاد»، التي تمتد لأكثر من 1,200 كم لربط الإمارات الشمالية بالجنوبية، مع خطط توسع مستقبلية لربط ميناء صحار في عُمان وأربعة موانئ رئيسية في الإمارات. ومن المتوقع أن ينقل المشروع الذي تبلغ تكلفته 3 مليارات دولار 60 مليون طن من البضائع بحلول عام 2030.
يرسم مجلس التعاون الخليجي مساراً جريئاً لمستقبل الشحن البحري، حيث يمزج بين الموانئ الذكية، والسفن ذاتية التشغيل، والوقود الأخضر مع مشاريع بنية تحتية كبرى مثل «قطار الاتحاد». ومن خلال الجمع بين الابتكار والاستدامة والربط العالمي، لا تعمل المنطقة على تعزيز الكفاءة والسلامة فحسب، بل ترسّخ مكانتها أيضاً مركزاً بحرياً مستداماً.
ميليسا بيرتوسي هي مديرة الشحن في شركة IDS، تتمتّع بخبرة واسعة في صناعة الشحن البحري ورؤية عالمية مميزة. بدأت مسيرتها المهنية في شركة Hamburg Süd بالبرازيل، قبل أن تنتقل إلى دبي حيث تواصل اليوم تعزيز مكانة IDS في مجال التجارة واللوجستيات الدولية
ميلسا بيرتوسي، مديرة الشحن في شركة IDS، تتمتّع بخبرة دولية واسعة في قطاع النقل البحري مع محطات مهنية في Hamburg Süd وCSAV/Hapag-Lloyd. تحمل شهادة في التجارة الدولية ودراسات عليا من البرازيل، وتتابع حالياً ماجستير تنفيذي في الشؤون الدولية والجيوسياسية من UNITAR. خبرتها تجمع بين الشحن، التجارة العالمية، وإدارة سلاسل الإمداد
تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية
ميليسا بيرتوسي- مديرة الشحن في شركة إنترناشيونال ديبلوماتيك سبلايز