ومع تجاوز نسب الفقر والبطالة حدودها القياسية، تتآكل قدرة ملايين الأسر على الصمود، بينما تتراجع قدرة الدولة على توفير الخدمات الأساسية، ويشتد الضغط على ما تبقى من مؤسسات الاقتصاد الوطني، وفي ظل هذا الانهيار المتسارع، يجد السودانيون أنفسهم في معركة يومية من أجل البقاء، وسط غياب حلول فعالة توقف هذا التدهور وتعيد عجلة الحياة إلى مسارها الطبيعي.
وكشفت بيانات رسمية حديثة عن ارتفاع نسبة الفقر من 21% إلى 71% في ظل تدهور الخدمات العامة وتراجع دخل الأسر. ويعاني قطاع واسع من المواطنين، منذ اندلاع الحرب، فقدان سبل كسب العيش ومصادر الدخل، بالتزامن مع ارتفاع أسعار السلع والخدمات وتراجع القوة الشرائية للجنيه، حيث يحتاج نحو 30 مليون شخص إلى مساعدات إنسانية، أي ما يمثل 64% من السكان، وفق تقديرات الأمم المتحدة، وأدى الركود الاقتصادي إلى ارتفاع البطالة لمستويات غير مسبوقة، مع تسريح عشرات الآلاف من العاملين في قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات، وتوقف آلاف المؤسسات الصغيرة والمتوسطة عن العمل، ووفق تقديرات صندوق النقد الدولي في أغسطس/آب الماضي، سجل السودان أعلى معدل بطالة في العالم بنسبة تقارب 62% من القوة العاملة، كما أظهرت بيانات منظمة الهجرة الدولية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي أن 86% من الأسر تعاني صعوبات في شراء احتياجاتها بسبب انخفاض الدخل وارتفاع التضخم واضطراب الأسواق المحلية.
تفاقم معدلات الفقر والبطالة
وقال وزير الموارد البشرية والرعاية الاجتماعية، معتصم أحمد صالح، إن نسبة الفقر ارتفعت من 21% إلى 71% نتيجة مباشرة للحرب، مشيرا إلى أن 23 مليون مواطن يعيشون حاليا تحت خط الفقر، وأكد أن الحكومة تعمل على وضع خطط عاجلة لخفض هذه النسبة عبر مشروعات إنتاجية وخلق فرص عمل جديدة، وفي الوقت نفسه، أعلن الجهاز المركزي للإحصاء انخفاض معدل التضخم السنوي في أكتوبر الماضي إلى 77.40% مقارنة بـ83.47% في سبتمبر/أيلول 2025، رغم بقاء المعدل أعلى من مستواه قبل عام، مما يعكس استمرار الضغوط الاقتصادية.
ويقول اقتصاديون إن تراجع التضخم لا يعني انخفاض الأسعار، بل تباطؤ وتيرة ارتفاعها، وتزداد مخاوف المواطنين من تفاقم الأوضاع الاقتصادية والإنسانية، خاصة مع تعطل الأنشطة الاقتصادية، وانقطاعات الكهرباء المتكررة، وتراجع الشعور بالأمان، ويقول المزارع محمد حسنين لـ"العربي الجديد" إن العودة للإنتاج تتطلب قدرات كبيرة ودعماً حكومياً، مشيراً إلى أن البنوك طبّقت إجراءات قاسية على المزارعين المتعثرين، وصلت حد الزج بالبعض في السجون، مما دفع كثيرين لترك الزراعة.
وفي أم درمان، أفاد تجار بأن سلطات الولاية بدأت فرض رسوم جديدة على المتاجر لزيادة الإيرادات، وقال التاجر بابكر إسماعيل لـ"العربي الجديد" إن الحكومة اشترطت دفع 250 ألف جنيه لكل تاجر لمزاولة العمل، ما أدى لتوقف بعض الأنشطة التجارية، مضيفاً أن "العودة للنشاط تعني زيادة التشغيل، لكننا نواجه حملة جبايات كبيرة".
ورغم توسّع الحكومة في الجبايات، فإن ذلك لم ينعكس على تحسين الأوضاع الاقتصادية أو الخدمات، بل تفاقمت المشكلات الاجتماعية وانتشرت الأمراض وارتفعت الأسعار وتراجعت القدرة الشرائية، وفي المقابل، أعلن ديوان الضرائب تحقيق إيرادات قياسية بلغت 2.8 تريليون جنيه حتى نهاية أكتوبر 2025، بزيادة 230% عن الربط المحدد، مؤكداً أن الأموال تُوجَّه لدعم المجهود الحربي، ما يعكس تشديد الرقابة وتوسيع التحصيل في وقت تتعمق فيه معاناة السكان.
انعدام الأمن الغذائي
يقول الباحث الاجتماعي محمود بشير إن توقف الأعمال، وارتفاع الأسعار، وتعطل سلاسل الإنتاج الزراعي والصناعي، دفعت الملايين إلى حافة العوز، مع تزايد أعداد النازحين، وأوضح أن الإنتاجية انخفضت بنحو 46%، بينما يواجه 24.6 مليون شخص انعداماً حاداً في الأمن الغذائي، ويعاني أكثر من 600 ألف شخص أوضاعاً "كارثية"، إضافة إلى توقف التعليم لنحو 60% من الأسر وتراجع خدمات الصحة.
وقد طرحت الحكومة مجموعة حلول تشمل دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتوجيه أموال المسؤولية الاجتماعية للمشروعات الإنتاجية، والانتقال من الإغاثة إلى التنمية عبر شراكات بين القطاعين العام والخاص. كما أعلنت برنامج تشغيل يستهدف 150 ألف شاب في مشاريع البنية الأساسية والخدمات العامة والقطاع الزراعي، إضافة إلى مبادرة تمويل 250 ألف مشروع إنتاجي عبر مؤسسات التمويل المختلفة، وخطة لتدريب 80 ألف متدرب في 2026 لتلبية احتياجات سوق العمل.
وطالب اقتصاديون بالتنسيق بين السياسات المالية والنقدية للتخفيف من الفقر، وتبسيط الإجراءات أمام المنتجين والعاملين. وأظهرت دراسات أن أكثر من 90% من الائتمان المصرفي يذهب للأغنياء، وأن غالبية الكتلة النقدية تُتداول خارج الجهاز المصرفي، ما يحد من دور المصارف في مكافحة الفقر.
ويؤكد الاقتصادي بابكر التوم أن الرسوم الحكومية تمثل عقبة أمام التمويل الأصغر، داعياً لزيادة المؤسسات المتخصصة في تمويل محاربة الفقر وتشجيع العمل الحر، أما حسام الحاج، المسؤول في لجنة الإغاثة والطوارئ، فيقول إن أكثر من 23 مليون سوداني يعيشون تحت خط الفقر، موضحاً أن الفقر أصبح حالة مركّبة تجمع بين غياب الدخل وتدهور الخدمات الأساسية، ما يهدد استقرار الأسر والمجتمعات بصورة غير مسبوقة.


