آراء وأقلام نُشر

الذكاء الاصطناعي والاقتصاد

*بول كروجمان

للذكاء الاصطناعي أثر مهم على الاقتصاد، ومن المتوقع أن يتزايد تأثيره بقدر ليس هيِّنا في السنوات القادمة، إجمالا ستعتمد الآثار الاقتصادية للذكاء الاصطناعي على عوامل متنوعة بما في ذلك معدل التقدم التقني والسياسات الحكومية وقدرة العاملين على التكيف مع التقنيات الجديدة».

الذكاء الاصطناعي والاقتصاد

حسنا، من الذي قال هذا الكلام؟ لا أحد، إلا إذا كنا على استعداد لأن نقول عن النماذج اللغوية الكبيرة للذكاء الاصطناعي من شاكلة تطبيق الدردشة «شات جي بي تي» أنها بشر، ما فعلْتُه أنني طلبت من شات جي بي تي أن يصف لي تأثيرات الذكاء الاصطناعي على الاقتصاد فأطال الحديث، والمقدمة التي افتتحت بها هذا المقال مقتطف مما ذكره لي.

أعتقد أن العديدين منا نحن الذين تلاعبنا بالنماذج اللغوية الكبيرة والتي جرى الحديث عنها على نطاق واسع تحت مظلة الذكاء الاصطناعي صُدِمنا بمدى تمكنها من أن تبدو مثل البشر.

ويمكن الرهان بأن هذه النماذج أو أجيالها القادمة ستتولى في نهاية المطاف أداء عدد كبير من الأعمال التي يؤديها البشر في الوقت الحالي.

هذه القفزة مثلها مثل القفزات السابقة في مجال التقنية ستجعل الاقتصاد أكثر إنتاجا، لكن أيضا من المحتمل أن تؤذي العاملين بتقليلها قيمة مهاراتهم، وعلى الرغم من أن مصطلح «اللَّدايت» كثيرا ما يُستخدم لوصف الشخص الذي يتعصب ضد التقنية الجديدة إلا أن المناهضين الأصليين للتقنية كانوا حِرَفيين مهرة تعرضوا إلى ضرر اقتصادي حقيقي من استحداث مغازل القطن ومناسج الأقمشة التي تدار بالآلات.

لكن ما حجم مثل هذه الآثار هذه المرة؟ وما مدى السرعة التي تتحقق بها؟ الإجابة على السؤال الأول هي: لا أحد يعرف حقا. فالتوقعات بشأن الأثر الاقتصادي للتقنية اشتهرت بعدم موثوقيتها، وبالنسبة للسؤال الثاني يشير التاريخ إلى أن ظهور الآثار الاقتصادية الكبيرة للذكاء الاصطناعي سيستغرق وقتا أطول من التوقعات التي تدور في أذهان العديد من الناس حاليا.

لننظر في آثار الإنجازات السابقة في الحوسبة، في الشهر الماضي رحل ديفيد مور مؤسس شركة انتل التي استحدثت المعالجات الدقيقة في عام 1971، لقد اشتهر عن الرجل تنبؤه بأن عدد الترانزستورات في شريحة الحاسوب سيتضاعف كل سنتين، وكان ذلك تنبؤا ثبتت دقته بقدر مدهش طوال نصف قرن، الآن نتائج قانون مور تحيط بنا من كل جانب. أوضح ما يكون ذلك في الحواسيب القوية المعروفة باسم الهواتف الذكية والتي يحملها معه كل أحد هذه الأيام.

لكن على مدى فترة طويلة لم يكن المردود الاقتصادي لهذا التصاعد المذهل في قوة الحوسبة في المتناول، وهذا مثير للدهشة، أول ما يمكن ملاحظته أن عانت أمريكا تباطؤا في الإنتاجية لفترة طويلة خلال عقدين على الأقل بعد ظهور أثر قانون مور، بدأ الازدهار فقط في أعوام التسعينيات، بل حتى حينها كان مخيبا للآمال إلى حد ما، كما سأشرح بعد قليل.

السؤال هو لماذا احتاجت قوة الحوسبة الضخمة لكل هذه المدة لطرح ثمارها الاقتصادية؟ في عام 1990 نشر المؤرخ الاقتصادي بول ديفيد إحدى الأوراق الاقتصادية المفضلة لدي على الإطلاق وكانت بعنوان «المولِّد الكهربائي والحاسوب»، رسمت الورقة أوجه الشبه بين آثار تقنية المعلومات وآثار ثورة تقنية سابقة هي كهربة الصناعة.

وكما ذكر ديفيد أصبحت المحركات الكهربائية متاحة على نطاق واسع في تسعينيات القرن التاسع عشر، لكن وجود التقنية في حد ذاته ليس كافيا، إذ عليك أيضا أن تعرف ما تفعله بها.

للاستفادة الكاملة من الكهربة وَجَب على أصحاب الصناعة إعادة التفكير في تصميم المصانع، كانت مبانيها في فترة ما قبل الكهرباء متعددة الطوابق وبها مساحات عمل ضيقة ومكدسة لضرورة ذلك في ضمان كفاءة استخدام محرك البخار من جوف القبو (الدور السفلي للمبنى) في تشغيل الآلات عبر نظام من الأعمدة والتروس والبكرات.

استغرق الأمر وقتا قبل إدراك أن تشغيل كل آلة بواسطة محركها الخاص بها يجعل من الممكن تشييد مصانع في مبنى من طابق واحد وممتد وبه ممرات واسعة تسمح بسهولة حركة المواد، هذا إذا لم نذكر خطوط الإنتاج. نتيجة لذلك لم تتحقق مكاسب الإنتاجية الكبيرة من «الكهربة» إلا بعد الحرب العالمية الأولى.

يقينا وكما تنبأ ديفيد بدأ المردود الاقتصادي لتقنية المعلومات يتحقق أخيرا في أعوام التسعينيات مع إخلاء خِزَانات حفظ الملفات وموظفي السكرتارية المجال للمكاتب المقسمة إلى مساحات (حجيرات) صغيرة.

بل صار تأخر المردود الاقتصادي لتقنية المعلومات مماثلا لتأخر مردود الكهربة.

لكن هذا التاريخ ما زال يطرح ألغازا قليلة، إحداها لماذا كانت الفترة الأولى لازدهار الإنتاجية من تقنية المعلومات قصيرة؟ لقد استمرت هذه الفترة أساسا حوالي 10 سنوات، وحتى في أثناء ذلك الازدهار القصير في تقنية المعلومات لم تكن الإنتاجية أعلى من مستواها خلال الازدهار الاقتصادي الطويل بعد الحرب العالمية الثانية والذي كان لافتا في حقيقة أنه لم يكن مدفوعا بأية تقنية جديدة وجذرية.

في عام 1969 نشر مستشار الإدارة الشهير بيتر دراكر «عصر الانقطاع»، وهو كتاب تنبأ وكان مصيبا في ذلك بتحولات كبرى في بنية الاقتصاد مع أن عنوانه يعني ضمنا (وأرى ذلك صحيحا أيضا) أن فترة النمو الاقتصادي الاستثنائي السابقة كانت في الواقع حقبة استمرار لم تتغير خلالها كثيرا الخطوط الأساسية للاقتصاد رغم أن أمريكا صارت أثناءها أكثر ثراء إلى حد بعيد.

بعبارة أخرى يبدو أن الازدهار العظيم في الفترة بين أربعينيات وسبعينيات القرن الماضي ارتكز إلى حد بعيد على استخدام التقنيات التي كانت موجودة على مدى عقود مثل محرك الاحتراق الداخلي، وهذا ما يجعلنا أكثر تشككا بشأن محاولة استخدام التطورات الأخيرة في مجال التقنية للتنبؤ بالنمو الاقتصادي.

هذا لا يعني القول بأن الذكاء الاصطناعي لن تكون له آثار اقتصادية ضخمة، لكن التاريخ يوحي بأنها لن تحدث بسرعة وستأخذ وقتا.

ربما سيكون النموذج اللغوي «شات جي بي تي» والتقنيات التي ستأتي بعده «حكاية» اقتصادية لأعوام الثلاثينيات وليس للأعوام القليلة القادمة في هذا العقد، ليس معنى ذلك أننا يجب علينا تجاهل النتائج التي ينطوي عليها ازدهار محتمل يقوده الذكاء الاصطناعي.

ليس بالضرورة أن تؤثر النماذج اللغوية الكبيرة (للذكاء الاصطناعي) في شكلها الحالي على التوقعات الاقتصادية للعام القادم أو أن يكون لها أثر كبير على توقعات العقد القادم، لكن توقعات النمو الاقتصادي في الأجل الطويل تبدو حقا أفضل الآن قياسا بالفترة التي سبقت شروع الحواسيب في تقليد البشر بهذا القدر من الجودة.

*بول كروجمان حائز على جائزة نوبل للاقتصاد في عام 2008 وكاتب رأي في صحيفة نيويورك تايمز.

عمان اليوم


 

مواضيع ذات صلة :