ثقافة وفنون نُشر

كيف سرقت أبوظبي أضواء الثقافة من القاهرة وبغداد ودمشق؟

Imageأبوظبي تفتح ذراعيها لجميع الفنانين العرب وتحاول ان تحتضن كل موهبة عربية ومن دون تعال. 

لا تكاد تنتهي مناسبة فنية أو ثقافية في أبوظبي حتى تبدأ الأخرى. وبينما تبدو عواصم الثقافة العربية التقليدية وكأنها تعيش في حالة من الجدب، فان عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة تبدو وكأنها تعيش في واحة ثقافية خضراء. وتعبيرا عن ما يبدو انه دهشة بهذا المنعطف، كتبت وكالة الأنباء الألمانية تقول، "لعقود طويلة كانت دمشق، بيروت وبغداد والقاهرة تمثل المركز الثقافية الكبرى في العالم العربي، اما دول الخليج العربي، بما لديها من آبار نفط، فقد اعتبرت مجرد صحراء تتوسطها جزر زجاجية ومراكز تجارية.
ولكن ذلك تغير الآن في عجلة من أمرنا".
وتضيف "المباني المرتفعة والجزر الاصطناعية، ليست هي كل ما يقدمه عرب الخليج اليوم، فهم يرغبون في الانضمام إلى عالم النخبة في الموسيقى والفن النخبة بأسرع ما يمكن، أيضا".
ولا يتردد المحرر الثقافي لصحيفة فاينانشال تايمز البريطانية في وصف القفزات الثقافية التي تحققها ابوظبي بأنها "لا تعرف حدودا" مثمنا المشروع الجديد الذي يجري الاعداد له لتحويل قلب عاصمة الامارات الى متحف لفنون الشرق الاوسط وشمال افريقيا.
 انه المشروع المكمل لمجموعة متاحف جزيرة السعديات التي ستجمع افضل ما في العالم من فنون وتحف جنبا الى جنب مع التراث المحلي والاقليمي. كثرة الاحداث والمناسبات الثقافية في أبوظبي جعلت من المشاغل بالشأن الثقافي جزءا من طبيعة الحياة في الإمارات.
 بينما تبدو تلك المشاغل في القاهرة ودمشق وبغداد مناسبات عابرة.
 وهذه حتى ولو تزايدت عددا، فانه تظل مناسبات متفرقة، لسبب رئيسي واحد هو انها لا تندرج في إطار استراتيجية ثقافية واضحة المعالم كما هو الحال في أبوظبي. وتشكل هيئة ابوظبي للثقافة والتراث مركز الثقل الرئيسي في اعمال البرمجة والتخطيط الثقافية. وهذه المؤسسة لا تفعل ما تفعله وزارات الثقافة في عواصم الثقافة العربية.
فهي لا تنظم مناسبات عابرة، بل تعد وترعى مشاريع ذات طبيعة متواصلة، ويظل تأثيرها ثابتا. فما قد يبدو انه "مربد" شعري يحدث مرة كل عام في البصرة، او مهرجان سينمائي في الاسكندرية، او آخر مسرحي في دمشق، إنما يتحول الى "مؤسسة" قائمة بذاتها في أبوظبي.
وهو ما يعني ان أعمالها لا تنقطع، وذلك حتى وان قامت بتنظيم مناسبات وأحداث ذات طبيعة دورية.
 وعلى سبيل المثال، فللشعر مهرجان دائم في أبوظبي. ويشكل برنامج "شاعر المليون" واحد من أوجه هذا المهرجان.
 اما في السينما فهناك على سبيل المثال "ذي سيركل" وهي مؤسسة متفرغة لنقل المعرفة السينمائية للاماراتيين من خلال التعامل مع اهم المخرجين وكتاب السيناريو العالميين. وهناك مشروع "كلمة" وهو اكبر مؤسسة للترجمة في العالم العربي.
 كما ان هناك مؤسسة "قلم" التي تعنى باستقطاب الكفاءات الإبداعية المحلية. وإذا كانت مصر تعد في السابق اكبر معارض المنطقة في الكتب، فان مؤسسة "كتاب" لا تكتفي بتقديم اكبر وأهم معارض للكتب، ولكنها تعمل أيضا دعم دور النشر في العالم العربي بالاستعانة بالخبرات الاوروبية الكبرى.
وفي الوقت التي تعقد فيه ابوظبي للثقافة والتراث دورات متعاقبة لتعليم ابناء البلد السيناريو والاخراج على يد افضل المخرجين وكتاب السيناريو العالميين، نجد ان مصر تتعامل مع الصناعة السينمائية والدراما التلفزيونية بطريقة متعالية محليا وعربيا، حتى لكأنها تقول: لا أحد سواي.
 خذوا العلم مني.
وبينما تشهد صناعة الدراما ازدهارا ملموسا في الخليج، تحت رعاية غير مباشرة توفرها تلفزيونات الامارات من خلال شرائها للانتاج الفني، فان مكانة الدراما المصرية تتراجع بوضوح، بسبب غياب الأفق العربي، وضيق التناول المصري الذي وصل الى حد الدعوة الى حرمان الممثلين العرب من العمل في مصر.
في المقابل، تفتح أبوظبي ذراعيها لجميع الفنانين العرب، وتقدم أعمالا ينخرط فيها فنانون من جميع الدول العربية، بل وتحاول ان تحتضن كل موهبة عربية بالاهتمام والرعاية، و..خصوصا من دون تعال.
 وبسبب ضيق الأفق، صارت صناعات تلفزيونية ناشئة في الاردن والخليج قادرة على ان تنافس الصناعة المصرية، بل ان هناك من يقول ان الدراما التركية المدبلجة قد تنتهي الى ان تخنق الدراما المصرية. واذا كانت مصر قد تعثرت بوهم الريادة، فأن العراق ولبنان كانتا ضحية للسياسة ووهم الدور المبالغ فيه.
فهذان البلدان، اللذان انجبا افضل الفنانين والشعراء والادباء والكتاب، وجدا نفسيهما في اتون ردة ثقافية مرعبة اتاحت للقوى الطائفية والسلفية والتخلف ان تعود بقوة. اما سوريا، فتقف على الحافة، قد تدفع بها الاقدار السياسية الى اي وجهة. فالدولة تحيي دور البلاد كملتقى ثقافي، لكن شراء الدراما السورية من قبل التلفزيون السوري مثلا يحتاج الى حث رئاسي.
 وفي حين يجاهد الفنانون السوريون على الحضور في ارجاء العالم العربي، فأنهم يجدون انفسهم ضحية لبيروقراطية حكومية لا تقدم الا القليل من الدعم لهم. ثمة ادراك عام لدى الهيئات المعنية بأمور الثقافة في ابوظبي، يقول بأن الاستعانة بالخبرات الأجنبية هو جزء من الية اعداد الانسان في ابوظبي.
والاستعانة بأفضل الخبرات أفضل بالنسبة لابوظبي من الاستعانة بالخبرات نصف الناضجة. فالخبرات الجيدة تعطي اكثر، وتأثيرها يدوم أكثر. وهو ما يجعلها أقل كلفة من وجهة نظر المستقبل.
وانطلاقا من الأفضل، فان استراتيجية ابوظبي الثقافية تهدف الى الانخراط في الشأن الثقافي العالمي، عرضا ومشاركة وتمثيلا في آن واحد. وبينما ينتظر ان تفتح فروع لمتحف اللوفر ومتحف غوغنهايم على جزيرة السعديات قبالة ساحل أبوظبي، فان هذه العاصمة الثقافية ستكون من ابرز المشاركين في "بينالي فينيسيا" الذي يعد اكبر معرض لانجازات الثقافة في العالم.
 ان ابوظبي لا تكتفي بالحضور الشكلي هنا. والشاهد يمكن ان يُلمس في مشاهدة اجنحتها في معارض الكتب العالمية مثل معرض فرانكفورت او معرض لندن. وقد يُقال أن المال هو الذي يوفر لأبوظبي تلك الفرصة لتلعب دورا ثقافيا بارزا، إلا أن الحقيقة هي ان المال ليس هو المسألة.
المسألة هي كيف توظفه، وكيف تتصرف به، ومن أجل تحقيق أي هدف. هذا هو الفرق الرئيسي الذي يجعل من الاستراتيجية الثقافية التي تتبعها ابوظبي عاملا حاسما في بناء تصور ثقافي متماسك، بعيد كل البعد عن عقلية الحدث العابر والمناسبة الاحتفالية الطارئة.
والمشروع الثقافي، على تكامله في دوائره الخاصة، فان هذا التكامل يندرج في سياق تكامل أكبر يمكن رؤيته في مشاريع الإعمار، التي منحت مكانة خاصة لاقامة المتاحف ودور العرض السينمائي وقاعات الفن التشكيلي ودور الموسيقى.
وتقول هيئة ابوظبي للثقافة والتراث انها تصدر عن رؤية تسعى الى ان جعل أبوظبي المركز الثقافي الأول في المنطقة، وفي الوقت عينه الترويج للثقافة والهوية الوطنية كمصدر فخر وإلهام لشعب الإمارات.
وتضيف الهيئة انها "تهدف الى حماية وإدارة وتعزيز الإرث الثقافي الوطني، ودعم وتشجيع الروح الإبداعية في ميادين الفن والثقافة، وإشراك المجتمع الأهلي عبر تزويده بالوسائل التي تساعد على تنمية التعبير الثقافي والمعرفة، وإثراء الإنتاج الثقافي، وتشجيع الفنون الجميلة وإظهار التراث الإسلامي والعربي على نطاق البلد والمنطقة".
ولا يتم ذلك من احتفاء بالأصالة والتقاليد المحلية والإقليمية والعربية. وتقول الهيئة في هذا الصدد "أننا نريد أن نتذكر ونفتخر بهويتنا، وبإنجازات ماضينا، وبكل ما هو قيّم في ثقافتنا الوطنية. الأصالة: أن نستلهم عملنا من اعتزازنا بالقيم الحقيقية المتوارثة في ثقافتنا العربية الوطنية من دون أن نشوّه الشخصية الأصيلة في هويتنا وثقافتنا".
 لا شيء معقدا في هذه الإستراتيجية.
والعمل جار بها كل يوم، ومع كل مناسبة. الشيء الوحيد المعقد، هو ما تفعله القاهرة ودمشق وبيروت وبغداد بمكانة كل منها.
فإذا كان الإبداع يتطلب موهبة، فاحد أهم أوجهها هو وضوح الرؤية، بحيث يتكامل كل عمل مع غيره ويدفع، ولو بخطوة، في اتجاه تحقيق الهدف.


المصدر: ميدل إست


 

مواضيع ذات صلة :