دين نُشر

حوار ثقافات لا حوار حضارات

قال الدكتور حمود العودي, أستاذ علم الاجتماع في جامعة صنعاء, بأنه يتوجب علينا تصحيح المفهوم الشائع والفضفاض لحوار الحضارات واستبداله في ضوء ذلك بمفهوم أدق هو حوار الثقافات الأكثر دقة وتحديداً وموضوعية، لأن الأحياء هم الذين يتحاورون وليس الأموات أو الذين لم يولدوا بعد. وطرح العودي في المحاضرة التي القاها عصر اليوم في المركز اليمني للدراسات التاريخية واستراتيجيات المستقبل "منارات" بعنوان " حوار الثقافات لا حوار الحضارات" رؤية إستراتيجية مستقبلية للخطاب الثقافي العربي الإسلامي مع نفسه ومع الآخر من خلال عدة مسلمات, منها: 1. المسلمات الثقافية العامة عربياً وإسلامياً وعالمياً: أ. أهمية الإقرار بحقيقة التطور الموضوعي مما هو خاص في علاقة ثقافة "الأناء بالأخر" إلى ما هو عام ومشترك من ثقافة "الأناء والأخر". هذه الحقيقة ترتكز اليوم على حيثية أن كل ثقافات أمم وشعوب الماضي التاريخي القديم والوسيط كان يشكل كل منها "أناء" قائم بذاته بالدرجة الأولى ماديا وروحيا، بدءاً من بابل ومصر القديمة مرورا بالهند والصين وفارس وانتهاء باليونان والرومان والعرب، وكانت علاقة كل من هذه "الأنآت" الحضارية والثقافية وغيرها مما لم يذكر ببعضها هي المتغير الثانوي للمتغير الأول قبولا أو رفضا، نصرا أو هزيمة، "فالأنا" كانت هي القاعدة والأخر هو الاستثناء، أو ما يمكن التعبير عنه بقانون المتغير المستقل والمتغير التابع، وفي سياق من الرتابة والبطيء الشديد. أما بعد اكتشاف الآلة البخارية وتقنيات الثورة الصناعية والعلمية الهائلة التي قلصت عامل الزمان والمكان وتوشك أن تلغيه، فقد كان من بين نتائج هذا التطور أن انقلبت علاقة القاعدة القديمة "للأناء" الثقافية بالأخر رأسا على عقب، بحيث تغيرت القاعدة إلى استثناء والاستثناء إلى قاعدة، وحل المتغير التابع محل المتغير المستقل والعكس..بتعبير أوضح أصبح ما هو عام ومشترك من ثقافة "الأناء والأخر" هو القاعدة بفعل فاعلية الاتصال وحيوية التفاعل بين الثقافات واتساع المساحات المشتركة فيما بينها، على حساب ضيق المساحة الخاصة والمستقلة لكل منها في الماضي والذي صار هو الاستثناء في الحاضر. فنحن اليوم عن يقين بصدد تشكل ثقافة إنسانية وعالمية لكل البشر مادية وروحية، وإذا لم تكن هذه الثقافة قد صارت قوام الحاضر كله فإنها كذلك بالنسبة للمستقبل القريب، ومن لا يستطيع أن يتفهم ويقر بهذه الحقيقة فإنه ليس بأعجز من أن يقوى على مقاومتها فحسب، بل ويحكم على نفسه بالإلغاء من خارطة الثقافة المستقبلية المشتركة، أو الموت الثقافي المحقق على الأصح، لأنه إذا لم يعد هناك من يقوى على سد حدود البر والبحر والجو ناهيك عن الفضاء الخارجي والأمواج الأثيرية ويحصى على الناس كلماتهم وأنفاسهم طبقاً لإرادته وضد إرادتهم، فإن الأبعد من ذلك أنه لم يعد هناك من يقوى على فعل شيء من هذا أو ذاك حتى تجاه نفسه وباختياره، إلا ما يجري في حدود العبث أو الجنون واللامعقول على الأقل على طريقة طالبان وبن لادن وموازين العدالة الأمريكية تجاه العالم!! والإقرار بهذه الحقيقة بالنسبة للثقافة العربية الإسلامية ليس هزيمة تجاه الآخر قط كما يتوهم البعض، بل هي انطلاقه عالمية جديدة لإسهام فعال في صنع ثقافة الحاضر والمستقبل الإنساني المشترك، إذا ما أحسنا اختيار ما نقول وما نفعل فيما هو عام انطلاقا من إيجابيات ما هو خاص في تاريخنا وثقافتنا وحضارتنا بشكل عام وذلك ما سيتضح أكثر في البنود التالية من هذه الورقة. ب. أهمية إدراك أن ما هو عام في الحضارة والثقافة هو نتاج التفاعل بين ما هو خاص من حضارة وثقافة "الأناء والآخر" وليس إلغاء لأي منهما لصالح الآخر. والمسلمة الثانية هي أن ندرك أن ما يتشكل اليوم من ثقافة عالمية شديدة التسارع لا يأتي هذا التشكل من فراغ بل هو حصيلة منطقية ونتيجة جدلية لتفاعل ما هو خاص من ثقافة "الأنأ والآخر" والذي لا يقوى على تقريره طرف دون أخر أو يفرضه سياسياً وايديولوجيا حتى ولو أراد ذلك وقرره من طرف واحد على طريقة ما يجري من نزوات العم سام نحو أمركة العالم، أو ما جرى في الماضي غير البعيد من غلو أكثر نحو بلشفته أو فرنسته، لأن ما يقرر هذه الحقيقة الثقافية القديمة الجديدة ليس السياسة والأيديولوجيا الذاتية، أو حتى القوة الاقتصادية والعسكرية، بل قانون جدلية التطور والتفاعل الاجتماعي والثقافي الذي جعل من بكاء وعويل ملايين الأفريقيين السود وهم يحملون على سفن الرق عبر المحيط الأطلسي، وأغنيات حزنهم وعذاباتهم وهم يقومون بالأعمال الشاقة في المناجم والمصانع والمزارع الأمريكية دون أن يعترف لهم حتى ببشريتهم في ظل "المجتمع الحر العظيم" كما يسمونه في الولايات المتحدة الأمريكية..القانون الذي جعل من كل ذلك نشيد عالم اليوم كله وفنه وموسيقاه بدءاً "بموسيقى الجاز وحتى الروك أندروك". حيث كان ذلك البكاء والعويل وأغنيات أباء وأمهات وأطفال الغابة الأفريقية البالغة الهدوء والإطمئنان في أحضان البيئة والطبيعة الجميلة التي مزق هدوئها وإطمئنانها وجمالها قراصنة الشرق والغرب هو "الأناء" الثقافي الأخر في المعادلة مع ثقافة "أنأ" العم سام، وربما كان عن يقين هو الأضعف سياسياً وعسكرياً لكنه كان الأقوى حضارياً وثقافياً، حيث تحول ما هو خاص في "أنا" ثقافة أولئك المقهورين والمستبعدين إلى ما هو عام في لغة وفين وموسيقى وثقافة قاهريهم ومستعبديهم حتى اليوم، ولغة وفن ثقافة العالم كله ورضاً لا كرهاً، رغم إنكار ذلك عليهم سياسياً وإيديولوجيا وإدعائهم كذباً أحقيتهم فيه باسم "الفن الغربي والموسيقى الغربية" كما يسمونها ...الخ. ج. إن شمولية وفاعلية ما هو عام في ثقافة الحاضر والمستقبل لا يلغي دور وأهمية ما هو خاص. من أكثر الاتجاهات الفكرية والثقافية الشائعة خطأ هو القول بأن عالمية الثقافة أو الثقافة العالمية التي تتشكل اليوم بتسارع كبير سيكون على حساب إلغاء وجود وهوية ما هو خاص من ثقافات الأمم والشعوب المختلفة، وأن الأقوى سياسياً واقتصادياً وعسكرياً هو الأقدر على فرض نمط ثقافي عالمي معين، أو عولمة الثقافة وفقاً لهويته دون الآخر على الطريقة البلشفية القديمة، أو الأمريكية الغربية الجديدة التي روجت وما تزال تروج لمثل هذا الغثاء، لا لمجرد أن فاقد الشيء لا يعطيه بالنسبة للأمريكان تحديداً، بل ولأن قليل ما يملكون من حضارة وثقافة بدائية تؤهلهم للفشل أكثر من النجاح في حوار الحضارات والثقافات المنتظر، لأسباب بسيطة جداً أهمها أنهم لم يتخلصوا بعد من عقلية طرزان وثقافة رعاة البقر، بل يصرون عبثاً على النظرة والتعامل مع شعوب وأمم وحضارات تجاوز بعدها المكاني والزماني العشرة آلف سنة باعتبارهم قطعان من الأبقار وهم رعاة (الكاوبوي) بعد تطوير خيولهم إلى سفن في البحر والفضاء وحبال ومعدات صيدهم إلى طائرات وصواريخ من أحدث طراز يطاردون بها (الإرهابيون) ويعاقب بها (المارقون) في أي مكان من العالم دولاً كانوا أم جماعات أم أفراد حتى تسود ثقافة (الكاوبوي وعقلية طرزان). وإذا كنا قد أثبتنا في البندين السابقين تشكل ثقافة عالمية حقيقة للحاضر والمستقبل وأن هذه الثقافة العامة هي النتاج الإيجابي لجدلية وتفاعل ما هو خاص من الثقافات الإنسانية ككل مع بعضها ومع غيرها..فإن ما نريد إثباته في هذا البند هو أن جدلية التفاعل بين ما هو خاص من التعدد والتنوع الثقافي بين ثقافة وأخرى بل وداخل الثقافة الواحدة وينجم عنه ما هو عام كمعطى أول..هذا التفاعل لا ينجم عنه قط إلغاء وجود ودور الآخر أو ما هو خاص في الحاضر أو المستقبل تحت مبرر أولوية وتنامي وقوة وشمولية ما هو عام بأي حال من الأحوال، فكما أن ما هو خاص قد كان في الماضي وعلى مدى ما يقرب من عشرة ألف سنة هو القاعدة، وما هو عام هو الاستثناء فإن الأمر لا يعدو في الحاضر والمستقبل وبفعل متغيرات موضوعية مختلفة أكثر من إعادة ترتيب الأولويات بحيث تحولت القاعدة إلى استثناء والاستثناء إلى قاعدة، وصار ما هو عام ومشترك في الثقافة الإنسانية هو القاعدة الأكثر فعالية وتأثيراً في حاضر ومستقبل البشر جميعاً، ولكن دون أن يلغي ذلك ما هو خاص من التنوع والتعدد والإبداع الثقافي لمجاميع البشر من الأمم والشعوب والجماعات كل على حده بل وحتى الأفراد..بل وعلى العكس من ذلك فإن استمرار وجود وتطور وتجدد ما هو عام مرهون ومشروط باستمرار وتعدد وتنوع ما هو خاص وإبداعاته فقط. إنها باختصار حقيقة أن شمولية وتعاظم ما هو عام في الثقافة أو غيرها لا يلغي أبداً ما هو خاص، بل إن استمرار وتنوع وتعدد هذا هو شرط وضرورة لوجود ذاك وتطوره وتجدده، بدءاً باستمرار تعدد وتنوع ثقافات الشعوب والأمم مروراً بالجماعات وانتهاء بالأفراد الاستثنائيين، ولم تعد المشكلة هي هل نستطيع أن نفعل أو لا نفعل قط بل صارت هي ماذا نفعل وكيف نفعل ولماذا؟ فهل تستطيع ثقافتنا العربية الإسلامية ككل ولديها الكثير والكثير مما تستطيع فعله فيما هو عام بالاستناد إلى ما هو خاص إن تعي ما ينبغي إن تقول وتفعل وكيف ولماذا ؟ هذا ما ينبغي التفكير به كإستراتيجية دفاعاً عن " انأ" الحاضر الثقافي العربي الإسلامي ومشاركة في صنع الحاضر والمستقبل الثقافي الإنساني المشترك , وهذا أيضاً ما نحاول الإشارة إليه فيما تبقا من بنود هذا المقال 2. المسلمات الخاصة بحاضر الثقافة العربية الإسلامية (رؤية نقدية للحوار مع الذات والأخر) أ. أزمة الثقافة العربية الإسلامية الحديثة في قطريتها السياسية. لكي نتصور المستقبل كإستراتيجية لحوار الخطاب الثقافي العربي الإسلامي لابد وان ننظر إلى واقع الثقافة العربية الإسلامية وما يتصل من ذلك بالمرحلة الراهنة والحداثة المعاصرة فيها تحديداً , لان الماضي بكل دلالاته وابعاده العظيمة وحاضر الماضي بكل اتجاهاته سلبا وإيجابا هي مكونات تاريخية ثقافية لا تختلف عن ثقافات شعوب وأمم التاريخ الوسيط والحديث والمعاصر, أما أزمة هذه الثقافة فتكمن فقط في شقها الحديث والمعاصر , أو جانب الحداثة والتجديد على الأصح والذي يعول عليه عبء الانتقال بما هو خاص وايجابي في "انأ" هذه الثقافة إلى ما هو عام وعالمي في سياق متغيرات الزمن المتسارعة, حيث تتمثل أزمة هذا البعد الحيوي في ثقافتنا العربية الإسلامية في أمرين , الأول رسمي ويتمثل في القطرية السياسية والثاني غير رسمي ويتمثل في المنهجية الفردية . فالسياسة والسياسيون العرب والمسلمون لا يحتاجون إلى كبير عنا كي نثبت عن يقين أن سياسة حكمهم هي الأزمة الأكبر لا في الثقافة العربية الإسلامية الحديثة فحسب بل وكل قضايا وهموم الأمة العربية الإسلامية المعاصرة , ففي حين ينبغي على السياسة والسياسيين أن يشكلوا الرافعة الأولى والرئيسية بغير بديل لتوفير المناخات وفتح الأفاق أمام عظمة وأهمية ما هو خاص في تاريخنا وثقافتنا للإسهام فيما هو عام من ثقافة المستقبل المشترك , نراهم على العكس من ذلك منكبون بجدية منقطعة النظر على تمزيق أوصال ما هو خاص وتدميره قولا وعملاً , فمن يستطيع إن ينكر أو يتنكر لحقيقة إن السياسة والساسة العرب قد قتلوا من أبناء الشعب الفلسطيني رجالاً ونساء وأطفالاً أكثر مما قتل الإسرائيليون على امتداد الصراع العربي الإسرائيلي بدءاً من أيلول الأسود وتل الزعتر وحتى صبراء وشاتيلا , وان عيون جنودهم ومخابرتهم أكثر جاهزية ويقظة وكفاءة للحيلولة دون اختراق المجاهد العربي ناهيك عن الفلسطيني لحدود الأرض العربية مع إسرائيل التي يحكمونها , أكثر من جاهزيه ويقظة وكفاءة مخابرات جيش الدفاع الإسرائيلي وخطوطه الأمامية والخضراء التي يخترقها الاستشهاديون كل يوم , وأن هذه السياسة والساسة أيضاً قد اقتادتنا في حرب الخليج الثانية كما فعلوا في الأولى إلى عملية انتحار عسكرية ونفسية جماعية لقتل بعضنا البعض والتنازل عن كرامتنا وأرضنا ونفطنا لجحافل العم السم بغير ثمن , حينما عجزوا عن الحيلولة دون احتلال طرزان العراق للكويت , لأنة لم يعد بين الذيول رأسا ليفعل ما فعلة عبد الناصر مع عبد الكريم قاسم في الخمسينات حول نفس الموقف حينما قرر الأخير غزو الكويت بنفس العقلية , فقال له عبد الناصر إذا ذهبت الكويت في الصباح فستجدني في استقبالك منذ المساء . وأنقذ بذلك عبد الناصر رحمة الله الكويت والعراق وقاسم العراق والأمة العربية والإسلامية كلها من الورطة التي أقتيد إليها العراق مرة أخرى لاحتلال الكويت في مطلع التسعينات بدون منقذ . ب. عقم الخطاب الثقافي العربي الإسلامي الحديث في فرديته ولا حزبيته المشتركة. إذا كان من السهل علينا تتبع ورصد عثرات السياسة والسياسيين العرب والمسلمين وتأثيرها المدمر على ما هو خاص في ثقافتنا العربية الإسلامية , وإحباط دورها فيما هو عام ومشترك من ثقافة الحاضر والمستقبل بين كل شعوب وأمم الأرض على نحو ما سبق كجزء من أزمة الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة , فإن الأصعب وربما الأغرب إن يشكل مثقفوا الحداثة العربية الإسلامية الشق الأخر من الأزمة , حيث يعيش مثقفوا الحداثة العربية الإسلامية أزمة انفصام حقيقة بين " انأ" ثقافتهم الشخصية الراقية والمتطورة و "أناء " الواقع الثقافي والاجتماعي العام للأمة , وتتمثل هذه الأزمة في تجذر المفهوم الرومانسي الخاطئ في أذهان المفكرين والمثقفين العرب والمسلمين بأنهم هم المعنيين وحدهم بحسن إبداع وصياغة أفكارهم على أفضل وجه وتقديمها أو إملائها للآخرين من عل في شكل كتب أو مقالات أو محاضرات وندوات فضائية حيثما يمكن السماح لهم بذلك ولو من خارج الحدود, وكفى، كي يصبح الواقع مثقفا ويتكفل بحل مشاكل نفسه لنفسه, وهو ما يفعله التجار والوسطى كذلك على صعيد الثقافة المادية حينما ينتجون أو يستوردون البضائع والسلع الضرورية وغير الضرورية ويروجون لاستهلاكها بالقول بأن من يركب أحدث سيارة أو يقتني أحدث جهاز كمبيوتر أو تلفون نقال يصبح عضوا في عالم صناعة السيارات وثورة المعلومات تلقائياً وبدون شروط أو مقدمات . وبذلك تتكرس ثقافة الإنأ للأخر أو ثقافة الإنأ من أجل الأخر بشكل أدق وبصرف النظر عن مصادرها الخاصة من الداخل أو العامة المستوردة من الخارج وتتكرس بذلك أزمة المثقفين العرب والمسلم والثقافة العربية الإسلامية أحادية الاتجاه وعديمة المسئولية, حيث نسي الكثير من المفكرين والمثقفين العرب المحدثين دورهم التاريخي كدعاة ومناضلين, على غرار ما فعله إسلافهم جمال الدين الأفغاني والكواكبي والإمام محمد عبده وعمر المختار وعبد القادر الجزائري ومحمد علي جناح ومحمد محمود الزبيري وعبد الفتاح إسماعيل وأخيراً الإمام الخميني في سبيل أمتهم ولم يكونوا مجرد محدثين جيدين عنها , وصرنا والحال هذه أشبه بمن يتحدث عن عالم خيالي ممكن الحدوث نظرياً, إلا انه لا ينتمي إليه أو يستطيع العمل من اجل تحقيقه عملياً وموضوعياً , أو بمن يشرحون العالم جيدا , ولا يُحملون أنفسهم أية مسئولية في تغييره, رغم إن الأهم من شرح هذا العالم – كما يقولون - هو تغييره. وهذا بخلاف ما جرى ويجري على ارض الواقع بالنسبة للاتجاهات الفكرية والثقافة العربية الإسلامية المهتمة بماضي الثقافة العربية التقليدية والأقل اهتماماً بالحاضر أو انتماءً للمستقبل , من التيارات السلفية والأصولية المتعصبة أو التيارات الاجتماعية والسياسية الرجعية المتخلفة , والتي تشكل رغم ذلك حضوراً سياسياً وحزبياً ثقافياً فاعلاً متجاوزاً الفردية أو مجرد " ثقافة الإناء للأخر إلى ثقافة الإناء مع الأخر " , ليس في حدود ما هو خاص من أناء ثقافتنا العربية والإسلامية فحسب بل والتقاطع مع ما هو عام من ثقافة الحاضر والمستقبل المشتركة , بصرف النظر عن مضمون هذا الحضور وهذا التقاطع من وجهة نظر الساسة ومثقفوا الحداثة على المستوى العربي والإسلامي والدولي بحق وبدون حق . فهذا الاتجاه رغم كل ذلك هو القائم ألان بما عجزت عنه السياسة والسياسيين ومثقفوا الحداثة معاً , فمن يستطيع إن ينكر بأن بن لادن كفرد أو جماعة قد اسمع العرب والعالم خطاباً سياسياً وثقافياً وبكلمات بسيطة عن واقع وهموم الوطن والأمة بما لم يقوم على مثله ساسة العرب والمسلمين ومثقفيهم الوطنيين والتقدميين , بصرف النظر عما يقال معه أو ضده بحق كتيار مرتد لاسواء ما في الماضي ومنقطع عن الحاضر والمستقبل , شأنهم شأن صناعهم بالأمس القريب وقتلتهم اليوم من الأمريكان مع الأسف الشديد . ج. أهمية الانتقال بخطابنا الحواري من أولوية الايدلوجيا الذاتية إلى أولوية العلم والثقافة الإنسانية . باعتبار الايدولوجيا هي الحقيقة المفترضة من منظور ذاتي لفرد أو جماعة وربما شعب أو امة بكاملها, بصرف النظر عن رؤية ومصالح الأخر , وعما إذا كانت هذه الرؤية والمصلحة موضوعية ومشروعة أم لا, وان السياسة هي التعبير المباشر وغير المباشر عن ذلك , وان العلم هو حقائق الواقع المحايدة, والثقافة هي التجسيد والتعبير عن كل ذلك . فان المتتبع لواقع هذه المنظومة في حياتنا العربية الإسلامية المعاصرة سيكتشف وجود هرم مقلوب على رأسه تماماً, أو قطار يسير بوضع معكوس حيث تقود الايدلوجيا الذاتية عربة السياسة , وتقود السياسة عربة الثقافة, أما عربة العلم فغير موجودة أو معطلة إلى أجل غير مسمى في أحسن الأحوال . فأيدلوجيا السياسة القطرية العربية الإسلامية, أو سياسة الايدولوجيا الذاتية هي المعطى الأول والمتغير الثابت في حياتنا العربية الإسلامية الراهنة, أما الثقافة والعلم فهي متغيرات تابعة للسياسة والايدولوجيا الذاتية, أو غير موجودة وغير ضرورية أصلاً في منظور أيدلوجيا السياسة العربية الإسلامية المعاصرة الذاتية والمتمسكة بشعار " أنا وليأتي الطوفان " . هذا الوضع المتخلف وبالغ الخطورة على حاضر ومستقبل الأمة وثقافتها ودورها في عالمية الحاضر والمستقبل ينبغي أن يعاد ترتيب أولوياته ووضعها في المسار الصحيح , فالعلم اليوم وحقائقه ومتغيراته الموضوعية الكبيرة والمتسارعة النمو يجب إن تكون هي المتغير الأول الذي تحتكم إليه السياسة وتعبر عنه الايدولوجيا المتطورة المحكومة بالعلم والمصالح المشتركة للأنأ والآخر, وتجسد الثقافة كل ذلك مادياً وروحياً من منطلق جدلية التفاعل والتكامل بين مجمل هذه المتغيرات , وليس من منطلق التسلسل الهرمي المعكوس أو التقاطع الأفقي العقيم الذي نعيشه فهل تستطيع إستراتيجية الثقافة العربية الإسلامية والخطاب الثقافي العربي الإسلامي أن ينتقل من أولوية الأيدلوجيا الذاتية والسياسة القطرية إلى أولوية العلم والثقافة القومية والعالمية ؟ . بتعبير أوضح هل يستطيع الخطاب الثقافي العربي الإسلامي بإبعاده المختلفة أن يجعل من العلم وحقائقه الهائلة بصفة عامة مرتكزاً أساسياً في فهم ما هو كائن والعمل من اجل ما ينبغي إن يكون ؟ بدلاً من الجهل والسخرية به أو الخوف منه وتهميشه وان يجعل من حقائق التاريخ والمكان والمصالح الاقتصادية والقومية المشتركة حكما موضوعيا من اجل تحقيق وحدة عربية إسلامية بمنطق ومفهوم جديد ومتحضر وفي سياق المتغيرات العالمية الراهنة التي تقتضي ذلك بالضرورة فيما هو اقتصادي وثقافي على الأقل قبل واهم ما هو سياسي ؟؟

 

مواضيع ذات صلة :