رشيد يذكر أن العراق ما يزال يعتمد بنسبة قد تصل إلى 90% على إيرادات النفط لتمويل الموازنة السنوية، ودفع الرواتب، وتغطية الإنفاق التشغيلي والاستثماري، ومع أي هبوط في أسعار النفط تتحوّل المشكلة من رقم في جداول وزارة المالية إلى ضغط مباشر على معيشة الناس، وهنا يلتقي تحذيره مع ما يقوله الخبير الاقتصادي محمود داغر عن "عدم معقولية أن نستهلك اليوم ما هو أصلاً للأجيال القادمة".
90% نفط.. هشاشة في قلب الموازنة
الأرقام الأساسية التي تحكم المشهد المالي يمكن تلخيصها كالتالي:
ما يقرب من 90% من إيرادات الموازنة تأتي من بيع النفط.
كتلة الرواتب والمخصّصات تستحوذ على جزء كبير من الإنفاق السنوي، مع توسّع التعيينات خلال السنوات الماضية.
كل انخفاض كبير في سعر البرميل تحت تقديرات الموازنة يفتح فجوة تمويلية تهدّد:
استمرارية دفع الرواتب في مواعيدها.
تنفيذ المشاريع الاستثمارية.
الحفاظ على مستوى مقبول من الخدمات الأساسية.
صالح رشيد يحذّر من أن أسعار النفط "قد تشهد انخفاضاً أكبر خلال المرحلة المقبلة"، مع الحديث عن تسويات محتملة في الحرب الروسية – الأوكرانية ودخول كميات نفط إضافية إلى الأسواق العالمية، وهو ما يعني زيادة المخاطر على بلد لم ينجز بعد ملف "تنويع الاقتصاد" وبقي "يعتمد بشكل شبه كلي على النفط".
الموازنة الثلاثية وضغط الدستور على البنك المركزي
إلى جانب أرقام الإيرادات والإنفاق، يطرح خبراء الاقتصاد زاوية دستورية خطيرة:
الدستور والقانون المالي يضعان مبدأ أساسياً هو حظر تمويل البنك المركزي للعجز الحكومي بشكل مباشر.
الهدف من هذا الحظر:
حماية استقلال السياسة النقدية.
منع التضخّم المفرط وتآكل قيمة العملة.
الموازنة الثلاثية 2023 – 2025 جاءت بإنفاق كبير وطويل الأجل، ما جعل البنك المركزي في موقف حرج بين:
الدفاع عن استقرار الدينار.
وتلبية متطلّبات تمويل إنفاق حكومي متضخّم.
بعض الخبراء يصف هذا الوضع بأنه انهيار جزئي في قواعد الانضباط المالي، لأن الدولة بدأت تقترب عملياً من المنطقة التي كان يفترض أن تبقى محظورة دستورياً، أي الاعتماد غير المباشر على البنك المركزي لتسكين عجز موازنة بُنيت على فرضيات مرتفعة لأسعار النفط.
دولاران في سوق واحدة.. الرسمية والسوداء
في خلفية المشهد، تبقى سوق العملة واحدة من أكثر نقاط الضعف وضوحاً:
استمرار عمليات بيع العملة في السوق السوداء رغم تشديد الإجراءات على المصارف والتحويلات.
وجود فارق مستمر بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق الموازي يخلق:
مساحة ربح ثابتة لشبكات المضاربة والوسطاء.
تشوّهاً عميقاً في تسعير السلع والخدمات داخل السوق المحلية.
عندما تلجأ الحكومة، كما يحذّر صالح رشيد، إلى خيارات مثل الاقتراض الداخلي والخارجي أو رفع سعر صرف الدولار لتغطية العجز، تتحوّل هذه التشوّهات إلى موجات غلاء جديدة، ويكون المتضرّر الأكبر هو "ملايين العراقيين، ولا سيما من ذوي الدخل المحدود والطبقة المتوسطة"، كما يقول حرفياً.
بهذا المعنى، لا تكون أزمة الدولار مجرّد مشكلة منصّة أو تعليمات، بل أزمة ثقة في النظام المالي، تغذّيها الفجوة بين السعر الرسمي والسوق السوداء، وطريقة إدارة ملف العملة على المدى المتوسّط.
من حقّ الأجيال إلى فاتورة اليوم
كلام محمود داغر عن أننا "نستهلك اليوم ما هو أصلاً للأجيال القادمة" لا يبقى مجرّد تعبير إنشائي عندما نربطه بما يجري فعلياً:
موازنات عالية الإنفاق تعتمد على النفط بأكثر من 90%.
كتلة موظّفين بالملايين داخل مؤسسات الدولة، كثير منهم نتاج تعيينات انتخابية.
التزامات مستمرة لسنوات مقبلة من دون غطاء اقتصادي منتج واضح.
هذه العناصر مجتمعة تعني أن جزءاً كبيراً من ثروة البلد الحالية والمستقبلية يوجَّه لتمويل حاضر سياسي كثيف الإنفاق، بدلاً من تكوين صندوق سيادي، أو بناء قاعدة إنتاجية، أو ادخار حقيقي للأجيال القادمة. وهنا تلتقي التحذيرات:
صالح رشيد يؤكّد أن "العراق يعاني بالفعل من أزمة مالية في الوقت الحالي، لكن القادم قد يكون أكثر خطورة".
خبراء آخرون يرون أن استمرار هذا النمط قد يقود إلى "انهيار مالي واقتصادي حقيقي، يقابله سخط شعبي واسع"، إذا تراجع النفط بقوة أو تقلّصت قدرة الدولة على الاقتراض وتمويل العجز.
من يحاسب عن أزمة 2026 وما بعدها؟
في الخلاصة، يشدّد صالح رشيد على أن "الإدارات الحكومية المتعاقبة تتحمّل مسؤولية تبعات ما قد يحدث، لأن الوضع المالي المقبل سيكون بالغ الحرج"، وهو تقييم يفتح الباب لسؤال سياسي – اقتصادي في آن واحد:
من يراجع فلسفة الإنفاق في الدولة؟
من يعيد ضبط العلاقة بين الحكومة والبنك المركزي بما ينسجم مع الدستور؟
ومن يضمن أن لا تبقى مليارات الدولارات تمرّ عبر قنوات سوق موازية، بينما يدفع المواطن البسيط ثمن كل تصحيح نقدي؟
بهذا الشكل، تتحوّل أزمة 2026 من مجرّد ملف عجز وموازنة إلى نقطة اختبار: هل يملك العراق الشجاعة لإعادة بناء سياساته المالية والنقدية على أسس تحمي الأجيال القادمة، أم يستمرّ في استهلاك ما تبقّى من هوامش الأمان حتى آخر دينار وآخر برميل؟
بغداد اليوم


