آراء وأقلام نُشر

الدبلوماسية الاقتصادية

 
يقال أن رجلاً في أمريكا قام بشراء أسهم في سوق البورصة قبل الحرب العالمية الثانية بأسبوع, واندلعت الحرب وارتفعت أسعار هذه الأسهم بشكل كبير وكسب أموالا طائلة من هذا العمل وأثار دهشة الجميع على قدرته على التنبوء ومعرفة ما سيحدث, إلا أن حقيقة ما حصل أن هذا الرجل كان يقوم بالصيد على مياه المحيط الأطلنطي فاصطاد سمكة ووجد في جوفها قصاصة صحيفة صدرت في بريطانيا تتحدث عن قيام الحرب في أوروبا وهي المعلومة التي كانت ستستغرق وقت أطول لتصل إلى أمريكا , فعرف بالخبر قبل غيره وأصبح من السهل عليه أن يعرف الأسهم التي سترتفع فور معرفة خبر قيام الحرب فقام على الفور بشرائها, هذه  القصة تذكر كثيرا للتدليل والإشارة الرمزية على أهمية سرعة وصول المعلومة والفارق الكبير الذي تحدثه هذه السرعة.
 
حدثت هذه القصة في النصف الأول  من القرن الماضي, إلا  أننا وفي عصرنا هذا عندما يصل إلى الدبلوماسي خبر هام أو معلومة مميزة في البلد المستقبلة فانه وقبل أن يتناول قلمه أو يفتح جهاز الكمبيوتر الخاص به لكتابة تقرير تكون المعلومة قد وصلت إلى صناع القرار في الدولة المرسلة, وعندما يود الدبلوماسي التفاوض ممثلا لبلاده في قضية تخص التعاون في المجال الزراعي مثلا فان الطائرة ستعمل على أن يصل وفد متخصص في القضايا الزراعية في خلال ساعات قصيرة ليفاوض بدلا عنه , بل وحتى أن السفير الذي يمثل رئيس بلاده أو ملكها قد لا يتم اللجوء إليه كثيرا في القيام بهذا الدور حيث أن دبلوماسية القمة أصبحت فعالة بشكل كبير لسهولة وسرعة الانتقال أو التواصل بين الرؤساء والملوك, وبشكل عام فان الوظائف الرئيسية للدبلوماسية التقليدية والمذكورة في اتفاقية فيينا قد اهتزت كثيرا بفعل ثورة الاتصالات والتنقل وثورة المعلومات الهائلة التي شهدها الكوكب.
 
ما هي الدبلوماسية الاقتصادية ؟
 
الدبلوماسية الاقتصادية عي عملية التعاون مع الخارج لرفع المنافع الوطنية في كل مجالات النشاط الاقتصادي مثل التجارة والاستثمار والنشاطات الاقتصادية الأخرى وذلك عبر العلاقات الثنائية والعلاقات المتعددة الأطراف وهي نوع من أنواع الدبلوماسية تهتم بقضايا السياسة الاقتصادية من حيث الرصد والتحليل وتقديم التوصيات وتهتم بالدفاع عن المصالح التجارية والاقتصادية للدولة المرسلة واستكشاف الوضع الاقتصادي في الدول الأخرى وخصوصا في الاقتصاديات الناشئة, ويعتبر اللاعبون الأساسيون فيها:
- حكومات الدول
- المنظمات الغير حكومية
- المنشات الاقتصادية والتجارية
- رجال المال والأعمال
 
و تختص الدبلوماسية الاقتصادية بجميع مجالات النشاط الاقتصادي من استيراد وتصدير وترويج وجذب للاستثمارات من خلال العلاقات الثنائية أو المتعددة الأطراف مع فهم وإدراك أن الدبلوماسية هي جهة من عدة جهات حكومية وغير حكومية في سلسلة العملية الاقتصادية والتجارية وليست بأي حال من الأحوال المنفذ الرئيسي لها.
 
للدبلوماسية الاقتصادية عناصر رئيسيه منها :
 
- الترويج عبر سلكها الدبلوماسي وجذب الاستثمارات الأجنبية.
- توفير قاعدة بيانات تجارية تستفيد منها جميع الأطراف.
- توفير الدراسات والتقارير الاقتصادية عن الدولة المستقبلة ورصد فرص الاستثمارات المتبادلة الممكنة في البلدين.
- توفير الخدمات التي تسهل عمل الوفود التجارية قبل وأثناء وبعد عمليات التفاوض.
- العمل على تسهيل التواصل بين المستثمرين في البلدين.
- المساهمة في إعداد وصياغة وتوقيع اتفاقيات التجارة.
وفي تحقيق الدبلوماسية الاقتصادية لهذه العناصر تتحرك من خلال:-
- استخدام التأثيرات السياسية والعلاقات الدولية للترويج او التأثير على التجارة والاستثمار لتطوير فعالية السوق.
- إعداد السياسات الهيكلية واتفاقيات التجارة واستخدام العلاقات لرفع مستوى المنافع الاقتصادية المتبادلة.
- المنظمات الدولية: ودعم المناخ السياسي السليم الذي يخدم التحرك الاقتصادي.
 
لماذا الدبلوماسية الاقتصادية؟
 
كانعكاس للاهتمام المتزايد بقضايا حيوية للشعوب والدول أصبح التركيز على المهام التقليدية للدبلوماسية اقل, وزاد التركيز بشكل كبير على أن تخدم الدبلوماسية قضايا التنمية والاقتصاد والسياحة في البلد, حيث تقوم الدول حول العالم باستغلال جهازها الدبلوماسي لخدمة قضايا نوعية متميزة تعود بالفائدة عليها, فأوجدت دبلوماسية التنمية ودبلوماسية الطاقة والدبلوماسية الشعبية وأيضا الدبلوماسية الاقتصادية ففي عصرنا هذا أصبحت الدبلوماسية الحديثة تركز على الترويج الاقتصادي بشكل كبير من منظور ضرورة انعكاس النشاط الدبلوماسي على التنمية والانتعاش الاقتصادي كهدف أساسي لأغلب دول العالم, وبالتالي أصبح المعيار الحقيقي والاهم في العلاقات الدولية هو ميزان التبادل التجاري وأصبحت الاتفاقيات التجارية بين الدول هي المؤشر على قوة العلاقات, والاهم من هذا أن النشاطات الاقتصادية والتجارية أصبحت عامل موجه ومحرك للاهتمام الدبلوماسي باتجاه دولة ما وأصبحت أيضا من العناصر الضامنة لاستمرارية ومتانة العلاقات , فالارتباطات الاقتصادية والتجارية الهامة تعني ضرورة الاستمرار في علاقات قوية بين البلدين حفاظا على المصالح الاقتصادية بالدرجة الأولى.
فالقضايا التجارية والاقتصادية أصبحت جزء أصيل وأساسي في العمل الدبلوماسي من حيث جمع المعلومات والترويج وتقديم الخدمات والتحليلات وغيره, وأصبحت أهم واجبات البعثات الدبلوماسية الاهتمام بالتبادل التجاري والعلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين, والعمل على توسيعه وتقويته من خلال تقديم المعلومات والترويج والدراسات المختلفة التي تساعد المستثمرين في الجانبيين على التعاون والدخول في علاقات تجارية ناجحة ترفد العلاقة بين البلدين.
وتأتي الدبلوماسية الاقتصادية كأولوية قصوى لدى الكثير من الأجهزة الدبلوماسية حول العالم, وذلك كون السياسة الخارجية هي انعكاس للسياسة الداخلية واحدة أهم الأدوات لتحقيق أهدافها والهم الاقتصادي دائما يأتي في مقدمة اهتمامات الدول وبالتالي وكنتيجة لذلك كله قامت اغلب دول العالم بتفعيل الأنشطة الاقتصادية في أجهزتها الدبلوماسية, وقامت بعضها بتعديل هيكلها ومهامها بل وللمواد التعليمية التي تقدم لدبلوماسيها في محاولة لإيجاد أرضية قوية لتحركها في المجال الاقتصادي.
 
أمثلة على الدبلوماسية الاقتصادية الناشطة
 
البرازيل: شهدت البرازيل اهتمام كبير في إدخال الدبلوماسية الاقتصادية كعنصر ريادي للبرازيل واستطاعت من خلالها تحقيق موقع متميز و علاقة قوية خصوصا مع الدول النامية من خلال مشاركة المعلومات وإنشاء التجمعات الاقتصادية, ومن خلال سياسة المساعدات التي تنتهجها بطريقة تخدم مصالحها السياسية والاقتصادية.
الصين: من الدول التي استخدمت الدبلوماسية الاقتصادية بشكل فعال للحصول على انطلاقه اقتصادية وتستخدم الصين دبلوماسيتها الاقتصادية كأداة داعمة وكمثال فان الصين قامت في سبتمبر 2010م بمنع شحن المعادن النادرة لليابان وأيضا جمدت المفاوضات لعقد اتفاقية تجارة حرة مع السويد بسبب فوز معارض صيني بجائزة نوبل للسلام.
الولايات المتحدة الأمريكية: لها تاريخ طويل في الدبلوماسية الاقتصادية تعود لأيام دبلوماسية الدولار كما أنها كانت مركز لأهم حدث في الدبلوماسية الاقتصادية Bretten Woods والذي أنشئ فيه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لإعادة الإعمار, كما أنها شاركت في واحدة من اكبر مشاريع الدبلوماسية الاقتصادية وهو مشروع مارشال.
فرنسا: في السنوات الأخيرة توجهت وزارة الخارجية الفرنسية لتفعيل اكبر لدبلوماسيتها الاقتصادية ووضعتها ضمن لوائح المهام الدائمة ذات الأولوية وعدلت في هيكلها باستحداث وحدة تعنى بالقضايا الاقتصادية وفي العام 2010 تم إقرار عدد من النقاط في مؤتمر السفراء لتفعيل الدبلوماسية الاقتصادية الفرنسية منها انفتاح وزارة الخارجية الفرنسية على المنشآت التجارية وخلق حوار مستمر معهم, وأيضا تقديم مواد تعليمية اقتصادية لأعضاء السلك الدبلوماسي الفرنسي.
 
اليمن والدبلوماسية الاقتصادية
 
بلا شك أن الوضع الاقتصادي في بلادنا هو الهم الأكبر في كل المجالات وينعكس ذلك بشكل كبير ومؤثر على الدبلوماسية اليمنية وتشكل الأهداف الاقتصادية أهم أهداف السياسة الخارجية اليمنية على أرض الواقع, وتنشط سفارات اليمن حول العالم في رصد وتحليل الأوضاع الاقتصادية في الدول التي تخدم فيها وإرسال تقارير نوعية مشفوعة بالرأي لوزارة الخارجية لكي تستفيد منها الجهات الأخرى في بلادنا, كما وتنشط الدبلوماسية اليمنية في تقديم التسهيلات والخدمات الفنية لعمليات الاستثمار المتبادلة بين اليمن والدول المستقبلة, ويحضر الدبلوماسيين اليمنيين المؤتمرات والاجتماعات الهامة التي تؤثر على الاقتصاد, وتتعاون لتسهيل عمل الجهات المختصة بالاستثمار والقضايا الاقتصادية ودعم عمليات التفاوض أو المعارض والمؤتمرات التجارية التي كانت تحدث قبل العام 2011 في كثير من دول العالم, إلا أن الدبلوماسية الاقتصادية اليمنية بحاجة لمزيد من التفعيل وتخصيص واستحداث وحدة اقتصادية في وزارة الخارجية وتكثيف المواد التعليمية والتدريبية الاقتصادية التي تقدم للدبلوماسيين اليمنيين عبر المعهد الدبلوماسي, ومن الجدير بالذكر أن وثيقة المخرجات النهائية للحوار الوطني أوصت بشكل واضح على ضرورة الاهتمام بالقضايا الاقتصادية في العمل الخارجي لليمن وتفعيل الدبلوماسية الاقتصادية اليمنية واستحداث وحدة في الخارجية اليمنية تعنى بالقضايا الاقتصادية, إلا أن من الضروري التوضيح والتأكيد على أن عمل الدبلوماسية اليمنية في المجالات الاقتصادية في بلادنا وفي أي بلد ليست إلا عاملا من عوامل كثيرة تعمل على رفد الاقتصاد الوطني, ولا يمكن لجهود الدبلوماسية اليمنية أن تكون فعالة بالمعنى الحقيقي للكلمة إلا بتضافر جهود هذه الجهات و العمل السليم للمفاصل المختلفة للدولة في سبيل هذا الهدف, سواء الجهات الاقتصادية أو الأمنية أو السياسية أو غيرها, وهو ما نأمل أن يحدث في الفترة القادمة عبر انتهاج السياسات السليمة للتعامل مع القضايا الوطنية السياسية والاقتصادية المعقدة والهامة.
 
Loay0072001@yahoo.com
 

 

مواضيع ذات صلة :