آراء وأقلام نُشر

محطات سياسية في حياة فقيد اليمن السفير غالب علي جميل

بدأ حياته العلمية طالبا في مدرسة الأحمدية بمدينة تعز في خمسينيات القرن الماضي ثم انتقل إلى السعودية ودرس هناك فترة في مكة المكرمة ثم رشح إلى جمهورية مصر العربية ضمن بعثة الأربعين طالبا يمنيا الذين رشحوا للدراسة الجامعية هناك قبل ثورة 26 سبتمبر، وهي بعثة مشهورة في التاريخ السياسي المعاصر لليمن نظرا لما تعرضت له من صعوبات وتحديات لا يتسع المقام هنا لشرحها.
إصرار الأستاذ غالب علي جميل على التفوق والتميز ومواصلة تأهيل نفسه علميا، دفعه للمثابرة وبذل المزيد من الجهد حيث حصل على منحة دراسية جامعية إلى الولايات المتحدة الأمريكية ضمن منافسة مع كثير من الطلاب اليمنيين والعرب آنذاك.
 صدر القبول للشاب المتحمس والطموح غالب علي جميل حيث كان حظه وافرا وغادر مصر إلى أمريكا طالبا للعلم وكان له ما أراد وأكمل دراسته الجامعية متخصصا في مجال الاقتصاد والعلوم السياسية.
المحطة الأولى: -
 عاد في ستينات القرن الماضي والتحق بوزارة الخارجية، حيث كان من أوائل المتقدمين للوزارة حاملا شهادة جامعية تخصصية، بدأ مهامه العملية في الدائرة السياسية وكانت أهم قطاع في الوزارة آنذاك إن لم يكن الأول. كان المسئول عن كل علاقات الدولة الفتية بعد ثورة 26 سبتمبر عام 1962 ومديرا للدائرة السياسية.
ثابر الدبلوماسي النشيط والمكافح، رصد وحلل وتابع وقدم آراء وأفكار لقيادة الوزارة وحظي بإعجاب واحترام وتقدير الجميع. خلال فتره رئاسته للدائرة السياسية من عام 1965 الى عام 1967، عقب ثورة 26 سبتمبر بثلاثة أعوام أي في الأيام الأولى للجمهورية الوليدة.
 في العام 1967 عين نائبا للمندوب الدائم لليمن لدى الأمم المتحدة نيويورك و كانت بعض الدول لم تعترف بالجمهورية بعد وقد كان الحمل ثقيلا و كبيرا إلا ان المرحوم غالب علي جميل على قدر كبير من الكفاءة والمسؤولية  والتميز الدبلوماسي والعطاء الذي ليس له حدود حيث كان يحمل هما  وطنيا و هو الاعتراف بالجمهورية وتوطيد أركان الدولة اليمنية على الصعيد السياسي الخارجي ,عمل بكل جهد لتحقيق ذلك حيث كان لا يزال هنالك من يعمل في أروقة الأمم المتحدة للعودة باليمن إلى الوراء و لكن هؤلاء اصطدموا بنشاط دبلوماسي واسع و كان الأستاذ غالب أحد أهم من يقومون بهذا الجهد والعمل الوطني النبيل إلى جانب آخرين. وكانت هذه هي المحطة الأولى له على صعيد العمل والتحرك السياسي والدبلوماسي الخارجي وبالتأكيد كان ناجحا وحقق إنجازات كبيرة لليمن حتى يوليو من عام 1970.
 
المحطة الثانية: -
قيادة الدبلوماسية اليمنية في ذلك الحين رأت أنه من المناسب أن يكون هذا الدبلوماسي اللامع في موسكو وتم نقله عام 1970 إلى 1971 وتعيينه قائما بأعمال السفارة اليمنية لدى الاتحاد السوفيتي. ولقد أنجز ما كلف به بأعلى درجات الكفاءة واستمر في موسكو يتابع يرصد ويحلل ويفتح أفاق واسعة للعلاقات بين اليمن والاتحاد السوفيتي وكان له ما أراد.
المحطة الثالثة: -
عين  في أكتوبر عام 1971 وكيلا لوزارة الخارجية  في عهد الشهيد محمد أحمد نعمان نائب رئيس الوزراء و وزير الخارجية حين ذاك وهنا لبى الدبلوماسي العريق والممتلئ بالنشاط والحيوية وعاد الأستاذ غالب إلى بناء أسس الدبلوماسية اليمنية من موقع القيادة وصنع السياسة الخارجية والتحرك الدبلوماسي النشط بعد أن أنجز مهامه في اهم عاصمتي صنع القرار في ذلك الوقت نيويورك وموسكو ,فتم اختياره لمهام أكبر وأصعب ولكنه كان ناجحا و متميزا حيث ساهم في إعداد البنية المؤسسية لوزارة الخارجية و لقيادة الدبلوماسية اليمنية ولذلك يطلق عليه الكثير عميد ومؤسس الدبلوماسية اليمنية ووزارة الخارجية اليمنية. 
في هذه المحطة شارك وساهم وأعد العديد من اللجان الوزارية والتحرك السياسي الخارجي ونسج علاقات اليمن مع مختلف الاقطاب والمؤسسات والدول العربية والإسلامية  والأوروبية والأسيوية والإفريقية والمنظمات الدولية والإقليمية وحقق ما أراد ,حيث كسبت الدولة اليمنية علاقات  متميزة مع محيطها الخليجي والأفريقي والعربي والدولي ,وحصلت بلادنا على الاعتراف الدولي الكامل من كافه اطراف المجتمع الدولي و الكثير من الدعم السياسي والاقتصادي والتنموي والعسكري ,وكان  وراء هذه المكاسب قيادة دبلوماسية محنكة تُصنع لها التحركات والتوجهات من قبل قطاع سياسي هام في وزارة الخارجية برئاسة السفير الأستاذ غالب علي جميل وكيلا لهذا القطاع.
المحطة الرابعة: -
 عين سفيرا لليمن في بغداد للفترة بين يوليو 1975 ويوليو 1979 وكعادته كدبلوماسي فطن ونشيط تفاعل وحقق تواصل كان له الأثر الأكبر في تعزيز علاقات بلادنا بالعراق استمرت لعقود ولا تزال بنفس الروح والزخم السياسي اللذان لم يتأثرا بالظروف والأحداث والعواصف التي عايشتها منطقتنا ودولتنا في فترات لاحقة.
المحطة الخامسة: -
في محطته الخامسة كان هنالك تحرك سياسي وتكليف جديد له حيث عين سفيرا اليمن لدى المملكة المغربية بين يوليو 1979 ويوليو 1981. وأيضا عين سفيرا غير مقيم لدى مملكة أسبانيا فانتقل الأستاذ من مشرق الوطن العربي وبوابته الشرقية عاصمة الرشيد بغداد إلى المغرب العربي وبالقرب من أوروبا ولقد حقق كعادته التواصل بين اليمن مع دول المغرب العربي في عهد تميز بالتطور والنماء لعلاقات اليمن من خلال الاستفادة من اواصر التاريخ والحضارة مع المغرب وربط وشائج من التواصل والتعاون بين اليمن والمغرب وأوربا متمثلة بمملكة أسبانيا.  
 
المحطة السادسة: -
في مايو 1981 حتى يوليو 1983 عُيّن نائباً لوزير الخارجية وهنا كان الرجل الثاني في مؤسسة صنع السياسة الخارجية لليمن مع العالم وأحد أهم عناصر الأعداد والتحضير للتحرك السياسي الخارجي اليمني على مختلف الاصعدة وبرز دور الأستاذ غالب علي جميل كأحد معدي ومحضري ومخططي ذلك التحرك الذي قادته دبلوماسية التنمية وكان لمواقف بلادنا المتوازن والعقلاني تجاه أبرز الاحداث التي كانت تشهدها منطقتنا العربية وما جاورها خلال تلك الفترة وأبرزها الحرب العراقية الإيرانية ووقوف اليمن الى جانب العراق.
ثانياً إنشاء مجلس التعاون الخليجي كمنظومة أمنية وسياسية إقليمية تواجه به دول المنطقة وترحيب بلادنا وتأييدها لهذه الخطوة.
ثالثاً اتفاقية كامب ديفيد الذي كان موقف اليمن مع الإجماع العربي حيث انتهجت مؤسسة الدبلوماسية اليمنية مواقف تتسق ومصالح اليمن العليا وتنطلق من البعد القومي والعربي لها.
المحطة السابعة: -
 في مايو 1983 يوليو 1986 عين سفيراً لليمن في باريس إحدى اهم العواصم السياسية الدولية فحقق الاستاذ غالب إنجازات كبيرة نقلت العلاقات اليمنية الفرنسية إلى أطوار أخرى من التعاون والدعم لبلادنا تنموياً وسياسياً وعسكرياً وحصلت اليمن على كثير من المساعدات في مجال الاتصالات والنقل واستكشاف النفط والغاز والتعاون الثقافي والعلمي وحماية الاثار والمخطوطات والكثير من مجالات التعاون الثنائي.
المحطة الثامنة: -
 تعتبر هذه المحطة والفترة التاريخية من اهم واخطر وأصعب المراحل في حياة هذا الدبلوماسي الفريد حيث تم تعيينه سفيراً لليمن لدى الشقيقة المملكة العربية السعودية و مندوباً دائماً لليمن لدى منظمة التعاون الإسلامي خلال الفترة من يوليو 1985 حتى يوليو 1995 و هي مرحلة استثنائية و خطيرة و هامة واجهته فيها تحديات و احداث كبيرة و توترات و عواصف سياسية كان ابرزها النزاع الحدودي بين اليمن و المملكة كاد ان يعصف بالبلدين و يقودهما الى حروب و نزاعات شتى إلا انه كان يتغلب عليها بشيء من العقل و الحكمه و التروي و فتح افاق للحوار و التواصل كان احد ابرز التوترات قيام الجمهورية العربية السورية في تسعينيات القرن الماضي بدور الوساطة بين اليمن و السعودية من خلال تهدئه التوتر الحدودي والتهديدات بين البلدين لقيام حرب بإرسال وفد برئاسة عبد الحليم خدام وعضوية وزير خارجيته فاروق الشرع و كذلك دور مصر في التوسط لحل الخلاف حول جزيرة الدويمة اليمنية إلا انه في حكمته و تبصره و ترويه حافظ على خيط رفيع من التواصل (و هنا تستحضرني مقولة في إحدى مقالات الكاتب الكبير الاستاذ صالح الدحان رحمه الله قال : ان من يكتب عن العلاقات اليمنية السعودية كمن يقبض على الجمر) .
عاصر المرحوم خلال فترة عمله كسفير لليمن في السعودية ازمات عديدة واحداث جسيمة كان أبرزها ثلاثة حروب وهي: 
- استمرار الحرب العراقية الإيرانية حتى اغسطس 1989.
- اعلان قيام الوحدة اليمنية في ال 22 من مايو 1990 ورفعه لعلم الجمهورية اليمنية في الرياض وسماه يوم اليمن في المملكة.
- احتلال العراق للكويت و تحريرها عام 1990 و 1991 و ما حصل من تداعيات و تحريف و تشويه لمواقف اليمن و عقوبات وقطيعه و خروج المغتربين اليمنيين و ما لقى بظلاله من مسؤوليات و مهام جسيمة على فقيدنا الغالي و ما اختطه لنفسه من مواقف و تحرك دبلوماسي هادئ و عقلاني و متروي حافظ على الحد الادنى من العلاقات بين البلدين الشقيقين الذين تربطهما الكثير من المصالح المتعددة و المشتركات الكبيرة حيث عمل بكل جهد و همة و حكمة على ازالة تبعات ذلك الموقف و استعاد خطوط التواصل و استئناف اللقاءات منها اتفاق رمضان في جدة عام 1995 كخير دليل على ذلك .
تخلل تلك الفترة على الصعيد الداخلي اليمني حرب الردة و الانفصال و كان له مواقف مع الوحدة حيث صرح يوم 4 يوليو 1994 من الرياض بأن اليمن سيحارب من اجل وحدته الف عام واختتم فترة عمله في المملكة العربية السعودية في يوليو 1995 و خلال عقد من الزمن حقق للبلدين العديد من الانجازات و المكاسب الاقتصادية و السياسية بينهما كان ابرزها إنشاء مجلس التنسيق اليمني السعودي الذي يعتبر اعلى و ارقى مؤسسة ترعى التعاون في مختلف مجالاته بين البلدين حيث يرأسه من جانب اليمن رئيس مجلس الوزير ومن الجانب السعودي ولي العهد وقد عقد عدة دورات في عاصمتي البلدين بالتناوب وعالج الكثير من المشكلات والتحديات التي واجهت البلدين وفتح آفاق عدة للتعاون الاقتصادي والتجاري والسياسي والأمني.
 
محطات اخرى في العمل الوطني السياسي الداخلي: -
بعد عودته من المملكة صدر له قرارا جمهوريا بتعيينه مستشارا لرئيس الجمهورية لشؤون الجزيرة والخليج واستمر في ذلك العمل حتى يوليو 1997 
وخلال هذه الفترة عاصر ايضاً احتلال اريتريا لجزيرة حنيش اليمنية وكان أحد اعضاء اللجنة التي تولت جمع الوثائق والادلة التي ادت الى استعادتها سلمياً عن طريق التحكيم الدولي في تسعينيات القرن الماضي.
 وتقديراً لمكانته واداءه وخبرته الدبلوماسيه كان عضواً في لجان الحدود مع كل من سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية 
كان المرحوم عضواً فاعلاً في اللجنة السياسية التي شُكلت وفقاً لاتفاق طرابلس الوحدوي بين شطري اليمن عام 1981.
كما عين الفقيد وكيلا لوزارة الخارجية للشئون السياسية من أغسطس 1997 حتى مارس 2000 م. واستمر عطائه الدبلوماسي من خلال ترأسه للعديد من اللجان السياسية الخارجية والمشاركة في المؤتمرات العربية والدولية والإقليمية.
كما لا يفوتني هنا الاشارة إلى آخر المناصب التي تقلدها وهي الأمين العام المساعد لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية في القاهرة بين عامي 2000-2004 م وساهم في تنشيط عمل هذه المنظمة العربية الاقتصادية العريقة التي يعود تاريخ انشائها إلى عام 1957 م.
تلك هى أبرز المحطات السياسية التي خاضها الأستاذ غالب علي جميل فقيد الوطن والدبلوماسية اليمنية، وهي مسيرة حافلة بالعطاء والإنجازات السياسية التى سعى من خلالها لخدمة وطنه وأمته.
أرجو من الله العلي القدير أن يرحمه ويغفر له ويسكنه فسيح جناته.
كما أتقدم بالشكر لكل من كتب وساهم وأعد وحضر وشارك في الجنازة والتشييع والكتابة والاتصال أو الحديث عن مناقب الفقيد وسيرته العطرة التي استمرت على ما يزيد عن اربعين عاما من العمل الدبلوماسي الفعال الذي لا تزال آثاره ليومنا هذا واضحة للجميع، وعمرا قارب عن التسعين عاما.
 
*القائم بأعمال سفارة الجهورية اليمنية في إسلام اباد
 
لـقـراءة كـل الـمـواضيع في قسم مال وأعمال اضغط هنا
لـقـراءة كــل الـمـواضـيع فـي قـسم مؤشرات اضغط  هنا
لـقـراءة كـل المواضيع فـي قـسم مـعلــومـات اضـغـط هنا
لـقـراءة كـل الـمـواضـيـع فـي قسـم خــدمــات اضـغـط هنا
لقراءة كل المواضيع في قسم استثمر في اليمن اضغط هنا
لـقـراءة كـل الـمـواضـيع في قــسم مـنـوعـات اضـغـط هنا
 

 

مواضيع ذات صلة :