آراء وأقلام نُشر

الكاتب والشاعر محمد عبدالوهاب الشيباني يواصل الكتابة عن الهامة المصرفية اليمنية حسين السفاري (8)

مدرسة بازرعة وقصر الجزيرة ومجلة السندباد

قبل انتقالي إلى مدرسة بازرعة الخيرية - التي أنشأها ، في منطقة واقعة بين الزعفران وشِعب العيدروس في مدينة كريتر، محمد عمر بازرعة ، أحد التجار الحضارم المرموقين في عدن- درست لفترة قصيرة بمدرسة النجاح التي اسسها  حسين بن عبدالله الدباغ بجوار نادي " الأدب العربي" ؛ وبقيت أعمل في الدكان بمساعدة والدي ونعمان،  ومساعدة والدتي في تلبية طلبات البيت، خصوصاً بعد عودة أخي عبدالله إلى القرية ، وبقائه بجانب عمي مجاهد يساعده في كتابة البصائر والوثائق ، ومرافقته إلى منطقة التربة لإنجاز بعض الأعمال والمشاغل التي تخص عمي كعاقل في القرية.
وكنت حينما أجد وقتاً أذهب في العصاري للعب كرة القدم ، نصنع الكرة من الاقمشة البالية ، وكان مكان لعبنا المفضل في حفرة مستطيلة عميقة تقع بالقرب من الميدان ، وأظن أن هذه الحفرة كانت تستخدم فيما مضى كصهريج لحفظ الماء النازل من وادي الخُساف القديم ، قبل ان أن تُردم لاحقاً وينهض مكانها  مبنى فندق قصر الجزيرة لصاحبه عبد العزيز محمد السقاف. وأحياناً نلعب في أطراف مقبرة العيدروس بمحاذاة سور مدرسة بازرعة ، حيث كانت تكثر زجاجات الكحول الفارغة، التي يُخلفَها اللائذون بالمقبرة ليلاً هرباً من الأعين .
كنا نشكل ثلاث مجموعات للعب  ، وحينما استعيد تركيباتها الآن أراها أنها كانت تختزل مدينة عدن بتنوعها السكاني والثقافي ، فمجموعة أولى كان  عمادها  الأولاد الصوماليون ، والذين تسكن أسرهم في منطقة الخُساف والطويلة والعيدروس ، والمجموعة الثانية من أولاد الأسر العدنية " ذات الأصول الهندية  واليمنية" والذين تسكن أسرهم مناطق الحوافي القديمة كحافة حسين والقاضي ومجاوراتهما ، أما المجموعة الثانية فمن أطفال المناطق الريفية  خارج مدينة عدن وفي الغالب من أرياف الحجرية ، وكانت حمى التنافس بين المجموعات تنتهي  أحياناً بعراكات شديدة ، يرافقها إطلاق ملفوظات خشنة تحيل إلى التمايز المناطقي، فمجموعتنا تُنعت بالجبالية ( لفظة تحقيرية لنعت الريفيين الذين وفدوا إلى عدن من مناطق الجبال) ، وبالمقابل كنا ننعتُ نحن المجموعتين الأخريين بالصومال والهنود ، وعند العراكات  يتجلى عنف الصوماليين وتماسكهم وبأسهم ، ولا يتوانون باستخدام الأشياء الحادة  والجارحة مثل الزجاج والحديد، غير أن العدانية كانوا أكثر أناقة في عراكاتهم ويستخدمون وسيلة (المُدارجة)  في العراك ؛ والمُدارجة هي خليط من فنون القتال بين الجودو والتايكوندو والكاراتيه، تنتهي بإسقاط الخصم بطريقة فنية تستدعي زهو المنتصر والضحك على المهزوم ، أما نحن الجبالية فقد كنا نستخدم الوسائل التقليدية من اللكم واللطم والرفس .
وعودة لحكاية فندق قصر الجزيرة أتذكر ، أن بلدية عدن ،من وقت لآخر، كانت تنشر إعلانات لبيع قطع أراضي بطريقة المزاد التنافسي ، فنشرت مطلع الخمسينيات اعلاناً للتنافس على شراء وردم الصهريج القديم ، والعمل على تحويله لعقار، وكان أبرز المتنافسين في المزاد عبد العزيز السقاف ، أحد تجار الحجرية العائدين من الحبشة ، وحين رسي عليه المزاد، مر على الكثير من التجار، واتفق معهم على إنشاء بناية حديثة تحتل دورها الأول محلات تجارية ، تسجل بأسمائهم ، فأشترى العديد منهم المحلات  مثل على أحمد شعلان ألذي أنشأ محلاً حديثاً لبيع العطور والإكسسوار والعودة والخلطات الراقية، وياسين أحمد قائد أنشأ كافتيريا حديثة سماها كافتيريا 23 يوليو، وافتتح ال عطا مكتبة لبيع الجرائد والمطبوعات المصرية ، وافتتح في إحدى المحلات عبد الجبار راشد وكالة هيتاشي وسانيو ، وعديد تجار من حضرموت وبقية المناطق فعلوا ذلك ، وفوق المحلات التجارية أنشأ المالك السقاف أدواراً حديثة صممت كفندق عصري على هيئة باخرة مطلة على ثلاثة شوارع و بالطراز المعماري الهندي ، حمل اسم "قصر الجزيرة" بشرفاته الواسعة ومطعمه الراقي، وكان هذا العمل نقلة مهمة في النشاط التجاري لأصحاب المحلات الصغيرة ، فقد توسعت انشطتهم ولم تعد محصورة في حوانيت السوق القديم، وبدأوا بعرض منتوجات حديثة وراقية ، والحصول على وكالات تجارية لسلع تنافسية من باريس ولندن وسويسرا مثل ساعات (رادو ورولكس) وغيرها.
عبده الدحان الأغبري والد الصحافي والكاتب الراحل صالح الدحان كان في فترة من الفترات يدير الفندق ، وكان يتيح للعديد من المثقفين  والفنانين المشهورين الجلوس في إحدى شرفاته المطلة على الميدان ، ولا ينزعج من نقاشاتهم الطويلة ، فقد كان أحد رجالات حزب الأحرار، وتعرَّض للاعتقال بعد فشل حركة 48، التي ذهب لمساندتها برفقة النعمان والفدائيين الذين هبوا من عدن ، ومنهم الفدائي محمد عبده الأغبري-  والد الكاتب والمناضل علي محمد عبده - الذي أستشهد في مدينة صنعاء وهو يدافع عنها من غزو القبائل الناهبة.
وقد كتب الشاعر الراحل حسين أبوبكر المحضار قصيدة عن الفندق قال في بعض أبياتها:
( حليت في قصر الجزيرة/ فندق أهل البرجزة / تطلع من الطاقة تشاهد كل رايح  وواج / تشوف حسان البلد/ تشوف بعينك معجزة/ تعال باشربك بيبسي وأعشيك في الصالة دجاج)
أتذكر من تلك الأيام أيضاً أنه في مواسم الأعياد كان والدي يشترى الأضاحي من سوق الماشية في سيلة الشيخ ، ويحضرها إلى المنزل ، فنربطها في درج البيت استعداداً لذبحها في العيد ، فكنت أتكفل بالذهاب بشكل يومي إلى منطقة البُغدة لشراء أعلافها من الحشائش والزرع الأخضر ، الذي يؤتي بها طرية من مناطق لحج وأبين القريبتين من عدن، وتشتهران بخصوبة أراضيها ، ومزاولة كثير من سكانهما لمهنة الفلاحة، وحين أعود كنت أتعرض لبعض الاستفزازات من أطفال بسني، والذين ينعتوني بالجبلي ويحاولون أخذ ما معي ، الا أني كنت ادافع عن نفسي بشراسة ، فقد تعلمت من واقعة سابقة درساً بليغاً وقاسياً ، فقد كنت ، في إحدى المرات، عائداً من نواحي الزعفران والسوق مع زنبيل الروتي وطاسة الفول وبجيبي البيضة الوحيدة المقرر أن يضعها نعمان على الفول من أجل إفطارنا ،فقابلني شخص اسمه عبد الرحمن المقطري وقام بكسر البيضة التي في جيب ثوبي فعدت باكياً إلى الدكان ، وحينما استفهم مني والدي عن سبب بكائي نهرني ووبخني بشدة ، وطالبني بالدفاع عن نفسي في مثل هكذا المواقف.
في تلك الفترة بدأت  ألبس ملابس حديثة مثل البنطلون الكاكي والقميص نص الكم ونزعت الكوفية من رأسي، وكل ذلك استعدادا  للالتحاق بمدرسة بازرعة الخيرية، وكان ذلك في العام 1951 تقريباً والتي كانت تطلب من الملتحقين بها التقيد بزي حديث وموحد، وقد اُستوعبت بصف متقدم بحكم معرفتي للقراءة والكتابة، وأستوعب أخي عبده الذي في فصل أدنى برفقة الصديق الدكتور عبدالله عبد الولي ناشر. كانت رسوم المدرسة رمزية وبها ثلة من المدرسين المرتبطين بالحركة الوطنية اليمنية ،اكتشفت عوالم جديدة ، وعلوم لم نكن نتعلمها في كتاتيب القرية ومسجد أبان ومعلامة السوق. فقد كنا ندرس الجغرافيا والحساب واللغة الانجليزية، وكان أهم أساتذتي في تلك الفترة الراحل الكبير الأديب والقاص حسين سالم باصديق الذي تعلمت على يديه اللغة الانجليزية والعربية ، وكان إلى جانب باصديق أساتذة أجلاء أتذكر منهم حامد زليخي استاذ الجغرافية ،  وعمر باناجة استاذ اللغة العربية  ، ومحمد سعيد الصائغ  وعلي عبد العزيز نصر وقاسم غالب وعلي عبد الكريم الشيباني استاذ البلاغة والأدب . كانت المدرسة حديثة بمقياس تلك الفترة لها بوابة كبيرة تنفتح على حوش كبير كنا نؤدي به الطوابير الصباحية ، باشراف مدير المدرسة ، علي محمد باحميش والذي خلفه لاحقاً  ،وتحديداً في العام 1955، مديرها الفلسطيني خليل أبو غبن المشهور بمواقفه القومية العروبية، وكان النشيد الذي نؤديه في الطوابير " نشيد بلاد العرب أوطاني" وكان هناك نشيد خاص بالمدرسة يقول مطلعه " مدرسة بازرعة أمنا"
كان بمدرسة بازرعة حصص للموسيقي وبها فرقة موسيقية يشرف عليها الفنان الكبير الراحل يحيى مكي، الذي سافر إلى القاهرة في العام 1955 لدراسة الموسيقى ، وكان في تلك الفترة الأب الروحي للفنانين الشبان في عدن ، ومن زملائي في المدرسة آنذاك وأعضاء فاعلين في الفرقة الفنانان المرموقان أحمد قاسم ، ومحمد عبده زيدي، الذي كان يصغر الأول بسنوات دراسية. حتى أني من كثر انجذابي للموسيقى أردت أن أكون عضواً بالفرقة ، وأتذكر أني تعاركت في أحدى المرات مع أحمد قاسم بعد أن نعتني بالجبلي، وأتذكر من تلك المعاركة أني استخدمت حزام البنطلون، ولم أعد إلى الدكان خشية من قيام والدي بتعنيفي، خصوصاً ، وأن أصدقاء أحمد قاسم ذهبوا إليه ليشكوني إليه، فلجأت إلى أستاذي حسين باصديق الذي أنهى المشكلة وأعادني إلى الدكان.
في الذكرى الأولى لثورة يوليو المصرية أقامت المدرسة احتفالاً طلابياً كبيراً وكنت أحد المشاركين فيها، واتذكر أني قرأت مقالاً لفكري أباظه، أخذته من افتتاحية مجلة المصور وكان عنوانه ( نعادي من يعادينا) ، وعلى ذكر الصحف المصرية فقد كنت مدمناً على متابعة وقراءة مجلة السندباد منذ صدر أول عدد منها في يناير، 1952م؛ " وتعتبر أول مجلة أطفال عربية ؛ وقد كتبت لمؤسسها ورئيس تحريرها محمد سعيد العريان معجباً بها . وكانت قصص المجلة تُصاغ بأسلوب أدبي راقٍ ومشوق جدًا. كانت المجلة تحرص على نشر قصة عربية وقصة من الأدب العالمي المترجم وكانت تظهر فيها العديد من القصص المسلسلة التي تُنشر في عدد من الحلقات، وكان أشهر رساميها الفنان حسين بيكار" ، وكتبت أيضاً للمؤلف والكاتب والشاعر أبو السعود الأيباري .
وكنت عادة ما أشتري السندباد ومجلتي المصور وأخر ساعة من مكتبة يمتلكها ال عطا أسفل فندق قصر الجزيرة، وكانت المكتبة أشبه بموزع لأولاد قائد سيف البليط وكلاء الجرائد والمطبوعات المصرية. وإلى جانب مكتبة عطا كانت هناك مكتبتان شهيرتان لبيع الكتب هما مكتبة الحاج عبادي ( المكتبة العربية) بالسوق الطويل ، ومكتبة (هبة الله) بسوق البهرة ، وكلتاهما لعبتا دوراً مهما في تكوين أبناء جيلي المعرفي.
في تلك الفترة تعرفت على زميلي في المدرسة القرشي عبد الرحيم سلام ، والذي كان والده يمتلك محلاً في سوق البهرة يبيع به ملابس وعطور ، وتعرفت أيضاً على الدكتور سعيد الشيباني حين انتقل من التواهي للإقامة في كريتر عند صهره علوان عبد الجبار، وكنا نتبادل مجلة السندباد، وتعرفت في تلك الفترة أيضاً على فتح الأسودي ، حين كان يقيم في محل عمه محمد علي الأسودي في سوق البز، وكنا نترافق سوية إلى مبنى البريد القديم بالقرب من سجن عدن ( معسكر عشرين الآن)  لإحضار الرسائل والنشرات والكتالوجات التي ترسل على صناديق والدي وعمه محمد  ، وتعرفت أيضاً على عبد الواحد اسماعيل الشيباني الذي كان مشهوراً كلاعب كرة قدم وطالب  مشاغب في المدرسة ، وكان يأتي من المعلا،  وهؤلاء الثلاثة ( سعيد وفتح وعبدالواحد)  سافروا بعدها بقليل في منح دراسية إلى مصر مقدمة من الاتحاد اليمني.
في سنواتي الأخيرة في مدرسة بازرعة بدأت علاقتي بالاتحاد اليمني، وبدأت أولاً بالمكان الذي كان يقع في حافة القاضي، حين كان يطلب مني استاذي علي عبد الكريم الشيباني تدريس بعض الاطفال الصغار ، الذين كان أباؤهم يحضرونهم للمقر للحصول على فرص تعليم محدود ، لعدم تمكنهم من إلحاقهم بالمدارس النظامية لازدحامها أو ارتفاع رسوم الدراسة بها  ، أو لعدم تناسب وقت دراستهم مع مشاغل الآباء والأبناء في المحلات التي يعملون بها.
(يتبع)
(*) الصور مجمَّعة لفندق قصر الجزيرة ومالكه عبد العزيز السقاف ، و لميدان كريتر، وغلاف العدد الأول من سندباد، و لطلاب مدرسة بازرعة.
 


 

مواضيع ذات صلة :