-تدهور الجودة: واقع مرير يطال المستهلك اليمني
بات مشهد السلع المقلدة والبضائع ذات الجودة المتدنية أمرًا مألوفًا في الأسواق اليمنية. فمن الملابس الرخيصة المصنوعة من خامات سيئة لا تدوم طويلاً، إلى الأجهزة الإلكترونية المقلدة التي تتعطل بسرعة، مرورًا بالمواد الغذائية التي تحيط بها الشكوك حول مصدرها وصلاحيتها، أصبحت المنتجات الرديئة هي الطاغية. هذا التدهور لا يقتصر على صنف معين، بل يمتد ليشمل كافة القطاعات، مما يضع المستهلك اليمني في موقف صعب للغاية. يجد المواطن نفسه مضطرًا للاختيار بين منتجات سيئة بأسعار منخفضة قد لا توفر الحد الأدنى من الجودة، أو بضائع أفضل بكثير ولكن بتكاليف باهظة تتجاوز قدرته الشرائية في ظل الظروف الراهنة. هذا الواقع المرير يهز ثقة المستهلك ويحد من قدرته على الحصول على احتياجاته الأساسية بجودة مقبولة.
-عوامل متشابكة تقف وراء هذا التحول المؤسف:
تضافرت عدة عوامل معقدة لتفسير هذا الانحدار الملحوظ في جودة الأسواق اليمنية. يبرز في مقدمتها الصراع الدائر الذي يضرب البلاد والظروف الاقتصادية المتردية الناجمة عنه. فالحرب المستمرة أدت إلى انهيار شبه كامل للقدرة الشرائية للمواطنين، مما دفع التجار إلى البحث عن بضائع أقل ثمنًا لتلبية الطلب المتناقص، حتى لو جاء ذلك على حساب الجودة.
عامل آخر شديد الأهمية هو غياب الرقابة الحكومية الفعالة وتطبيق القانون. فبينما تتسابق دول العالم على حماية اقتصاداتها وتعزيز منتجاتها الوطنية عبر قوانين صارمة للرقابة على الواردات وحماية المستهلك، يفتقر اليمن لهذه الآليات. فضعف الإشراف على المنافذ الحدودية، وعدم تفعيل القوانين التي تمنع دخول البضائع المقلدة والرديئة، سهّل بشكل كبير إغراق السوق بها دون أي مساءلة حقيقية للمستوردين أو التجار.
بالإضافة إلى ذلك، ساهمت الفوضى الاقتصادية العامة وغياب المعايير الموحدة للاستيراد في فتح الباب على مصراعيه لدخول أي نوع من البضائع، بغض النظر عن جودتها أو مطابقتها للمواصفات. كما لا يمكن إغفال سعي بعض التجار لتحقيق أرباح سريعة دون الالتفات إلى أي معايير أخلاقية أو مهنية، مستغلين الظروف الراهنة لاستيراد المنتجات الأقل تكلفة والأكثر ربحًا، حتى لو كانت سيئة الصنع أو تشكل خطرًا على المستهلك. ويزيد الأمر سوءًا ضعف الوعي الاستهلاكي لدى بعض شرائح المجتمع، مما يجعلهم فريسة سهلة للبضائع الرديئة التي تُقدم بأسعار مغرية دون تدقيق في الجودة أو المصدر.
إن تحول الأسواق اليمنية إلى ساحة للبضائع الرديئة لا يقتصر أثره على إحباط المستهلك فحسب، بل يمتد ليشمل تداعيات اقتصادية واجتماعية خطيرة على المدى القصير والطويل. فمن الناحية الاقتصادية، يؤدي انتشار هذه البضائع إلى إلحاق الضرر البالغ بالصناعات المحلية الناشئة التي تجد نفسها عاجزة عن المنافسة في ظل هذا السيل من المنتجات الرخيصة والمقلدة، مما يعيق نموها ويقضي على فرص العمل ويزيد من معدلات البطالة. كما أنه يُعيق أي محاولات جادة لإنعاش الاقتصاد القائم على الجودة والتنافسية، ويفقد الثقة في المنتجات المحلية والوطنية، مما ينعكس سلبًا على الاستثمار والإنتاج.
أما على الصعيد الاجتماعي، فإن استخدام المنتجات الرديئة قد يؤدي إلى مخاطر صحية وبيئية جسيمة. فالمواد الغذائية غير المطابقة للمواصفات تهدد صحة المستهلكين، والأجهزة الكهربائية الرديئة قد تتسبب في حرائق أو أعطال خطيرة. هذا الواقع يُعزز من ثقافة الاستهلاك قصير الأمد، حيث تُصبح المنتجات مستهلكة بسرعة وتُلقى في مكبات النفايات، ويفقد المستهلك الثقة في السوق والمنتجات المعروضة بشكل عام، مما يؤثر سلبًا على جودة الحياة واستقرار المجتمع.
إن استعادة الأسواق اليمنية لدورها كمنارة للتجارة ومصدر للسلع ذات الجودة، تتطلب خطة عمل شاملة وجهودًا حثيثة ومتضافرة من كافة الأطراف المعنية، مستلهمة من تجارب دول عديدة نجحت في بناء صناعاتها الوطنية وحماية أسواقها. هذه الدول تتبنى رؤى استراتيجية ومشاريع وطنية كبرى لتعزيز منتجاتها المحلية.
يجب على الحكومة اليمنية أن تُفعّل دورها الرقابي بشكل صارم وحازم، وتُطبق القوانين التي تمنع دخول وتداول البضائع الرديئة والمقلدة. يتضمن ذلك تشديد الرقابة والتفتيش في جميع المنافذ الحدودية، وتغليظ العقوبات على المستوردين والتجار المخالفين الذين يعرضون حياة وصحة المواطنين للخطر.
كما ينبغي تشجيع الصناعات المحلية ودعمها بشتى السبل، من خلال توفير التمويل اللازم، وتسهيل الإجراءات القانونية والتراخيص، وحمايتها من المنافسة غير العادلة التي تفرضها البضائع الرديئة، وذلك بهدف تمكينها من تقديم بدائل وطنية ذات جودة عالية تنافس المنتجات المستوردة.
إن التفكير في التوطين كـ "مشروع وطني" و"رؤية استراتيجية" تتبناها الدولة وتُشرف عليها الحكومة أصبح ضرورة قصوى. فاليمن، وهو بلد غني بثرواته المتعددة من النفط والمعادن والزراعة والثروة السمكية، يمتلك إمكانات هائلة لبناء قاعدة صناعية قوية إذا ما استثمرت هذه الموارد بشكل فعال. تجارب دول كبرى أثبتت أن تبني سياسات حماية ودعم للمنتج المحلي، وتوجيه الاستثمارات نحو الصناعات الاستراتيجية، يمكن أن يُحدث نقلة نوعية في الاقتصاد الوطني ويعزز الاكتفاء الذاتي.
وعلى الجانب الآخر، تقع على عاتق المستهلكين مسؤولية رفع وعيهم الاستهلاكي، والمطالبة بالجودة، وعدم قبول البضائع الرديئة كخيار وحيد. يمكن تحقيق ذلك من خلال حملات توعية مكثفة تُسلط الضوء على مخاطر المنتجات الرديئة، وتُعرف بحقوق المستهلك، وتُبرز أهمية البحث عن الجودة والمتانة ودعم المنتج الوطني.
إن تحول الأسواق اليمنية إلى ساحة للبضائع الرديئة ليس مجرد مشكلة تجارية عابرة، بل هو مؤشر على تدهور أعمق يمس صميم حياة المواطنين ومستقبل البلاد. يتطلب الأمر رؤية واضحة، وإرادة سياسية قوية، وتعاونًا مجتمعيًا فاعلاً، لاستعادة ثقة المستهلك، ودفع عجلة الاقتصاد نحو الجودة والازدهار، وتفعيل مبدأ التوطين، لتعود أسواق اليمن كما كانت دائمًا: مصدر فخر وتجارة أصيلة تعتمد على منتجات وطنية ذات جودة عالية.