الأخبار نُشر

الحكومات تختبر حدوداً جديدة للدَّين

دفعت الجائحة الدَّين الحكومي العالمي إلى أعلى مستوى منذ الحرب العالمية الثانية، متجاوزاً بذلك الناتج الاقتصادي العالمي السنوي، ولا تزال الحكومات، لاسيما في البلدان الغنية، تقترض المزيد من أجل محو الأضرار الناجمة عن كوفيد 19.

الحكومات تختبر حدوداً جديدة للدَّين

ويقول المناصرون لهذا النهج إن الإنفاق، الذي يشجعه أيضاً فكر اقتصادي جديد بشأن الديون، يمكن أن يؤدي إلى فترة من النمو العالمي القوي، مما سيغير الشعور بالضيق الذي ألمّ بالعديد من البلدان الغنية هذا القرن. لكن إذا كانت هذه النظريات خارجة عن القاعدة، فقد يثقل العالم بالديون التي لا يمكن استيعابها إلا من خلال التضخم أو الضرائب المرتفعة أو حتى العجز عن السداد.

وفي كلتا الحالتين، فإن الجمع بين الديون الضخمة وانعدام مخاوف الأسواق هو أمر لم يسبق له مثيل، فالحكومة الأميركية في طريقها إلى تسجيل عجز في الميزانية قدره 3 تريليونات دولار للعام الثاني على التوالي. وعلى الرغم من ذلك والمخاوف من التضخم، فإن عائدات سندات الخزانة لأجل 10 سنوات لا تتجاوز %1.33، ويرجع ذلك جزئياً إلى حذر مجلس الاحتياطي الفدرالي من رفع أسعار الفائدة.

ديون الحكومة المركزية اليابانية على وشك أن تتجاوز ما يقرب من 10 تريليونات دولار. وحتى مع تجاوز إجمالي الدين العام %250 من الناتج المحلي الإجمالي، فإن طوكيو لا تنفق على الفائدة كل عام أكثر مما كانت تنفقه في منتصف الثمانينيات، عندما كان الدين العام يمثل نحو ثلثي الناتج المحلي الإجمالي.

وتضيف اليونان، بطلة الديون الدائمة، إلى رصيد ديونها، ومع ذلك يقبل المستثمرون بعائدات على سنداتها أقل حتى من عائدات سندات الخزانة الأميركية. حتى بعض الدول النامية، مثل الهند، تروج لفضائل الاقتراض الحكومي المرتفع، دون رد فعل واضح من الأسواق.

تطور الأطر

«لقد تغير العالم وتطورت الأطر الفكرية»، بحسب بول شيرد، الباحث الزميل في كلية هارفارد كنيدي وكبير الاقتصاديين السابق في شركة التصنيف الائتماني ستاندارد آند بورز الذي يضيف قائلا «لا داعي للقلق بشأن الديون».

وشجع الفكر الاقتصادي الجديد السياسيين على الاقتراض بشكل كبير من خلال التأكيد على كيفية تطور ظروف الاقتراض منذ أن كان الحذر المالي هو التقليد السائد في الثمانينيات والتسعينيات. وقد تضافرت العولمة وشيخوخة السكان والظروف في الصين لخلق عالم غارق في المدخرات المتاحة للاستثمار.

وجزء كبير من هذه المدخرات كان يبحث عن الحماية من عالم غامض عن طريق الاقبال على الأصول الآمنة، خاصة السندات الحكومية للاقتصادات المتقدمة، بصرف النظر عن العائدات الضئيلة.

ومثل أجهزة التلفاز ذات الشاشات المسطحة، كلما أصبح الدين الحكومي أقل تكلفة زاد حجمه. وقد قادت الولايات المتحدة العالم بالاقتراض الحكومي المكثف لتمويل التعافي من الجائحة، وحتى قبل تدابير التحفيز هذا العام، توقع مكتب الميزانية في الكونغرس أن يصل الدين الفدرالي الذي يتحمله عامة الناس إلى %102 من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية عام 2021، وهو أعلى مستوى منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة.

ويزعم خبراء الاقتصاد في «جي بي مورغان» أنه حتى الاقتراض النشط من قبل الولايات المتحدة بالكاد يؤدي الى انخفاض إجمالي المدخرات العالمية، والتي تبلغ قيمتها أكثر من 25 تريليون دولار سنويا، وفقا لصندوق النقد الدولي، والتي أدى ارتفاعها إلى انخفاض تكاليف الاقتراض في العقود الأخيرة.

وكما تقول إلينا دوغار، المدير العام المساعد لإستراتيجية الائتمان والبحوث موديز انفسترز سيرفيس «هناك شيء ينقذ الاقتصادات المتقدمة من تلك الزيادة التي نشهدها في الديون، وهو انخفاض تكاليف خدمة الديون».

أسعار الفائدة

بيد أن المنتقدين لهذا النهج يقولون ان خطط الإنفاق الأميركية كبيرة للغاية وتهدد بخلق اقتصاد محموم وارتفاع دائم في معدلات التضخم وأسعار الفائدة. وهم يخشون أن يكون مجلس الاحتياطي الفدرالي حبيس سياسة أسعار الفائدة المنخفضة التي تشجع على الإفراط والمخاطرة. كما يمكن أن يتسبب ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة وارتفاع قيمة الدولار في مشاكل للبلدان النامية ذات الديون المقومة بالدولار المرتفعة.

ويحذر تشارلز غودهارت، العضو السابق في لجنة السياسة النقدية في بنك إنكلترا والأستاذ الفخري في كلية لندن للاقتصاد، من أن موجة المدخرات العالمية التي أبقت الاقتراض عند تكلفة رخيصة يمكن أن تنحسر في السنوات المقبلة. وهو يخشى أن تتعلم الحكومات دروس التاريخ الحديث، بما في ذلك التعافي الضعيف من الأزمة المالية لعام 2008، مع انتهاء تلك الحقبة.

وارتفع الدين الحكومي على مستوى العالم إلى %105 من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 2020 مقارنة مع %88 قبل الجائحة، وفقا لمعهد التمويل الدولي الذي أكد أن إجمالي الدين الحكومي قد يرتفع بمقدار 10 تريليونات دولار إضافية هذا العام ليصل إلى 92 تريليون دولار، مع حدوث معظم الزيادة في الاقتصادات المتقدمة.

وهو ما يعد تناقضاً صارخاً مع تداعيات الأزمة المالية العالمية، في حين سرعان ما تحول العديد من البلدان من سياسات التحفيز إلى سياسة خفض العجز.

ويبدو أن أزمة اليونان الصادمة والمؤلمة، التي كادت أن تجبر البلاد على الخروج من منطقة اليورو، تسلط الضوء على مخاطر الديون. رغم ذلك، حتى اليونان تجد أن من الممكن زيادة الديون، بفضل تكاليف الاقتراض المنخفضة التي يساعد البنك المركزي الأوروبي في السيطرة عليها.

اغتنام الفرصة

من روما إلى طوكيو وواشنطن، قررت الحكومات اغتنام الفرصة والمضي في طريقها للخروج من الركود الذي سببته الجائحة. ولا تهدف تدابير التحفيز إلى محو كل آثار الانكماش الاقتصادي بأسرع وقت ممكن فحسب، بل تهدف أيضا إلى الاستثمار في التجديد الاقتصادي الطويل الأجل.

هذه المرة، تتوافق الحالة الاقتصادية مع الحسابات السياسية، إذ تؤكد المؤسسة السياسية في العديد من البلدان المتقدمة أن شد الحزام المالي وضعف النمو أسهما في ردود الفعل الشعبوية العكسية في العقد الماضي.

ومن منظور واحد، إذا كان لدى القطاع الخاص مدخرات فائضة، فإن العجز الحكومي سيستوعب هذه المدخرات. وتشمل المدخرات السيولة النقدية الهائلة التي جمعتها شركات التكنولوجيا، والتي غالباً لا تحتاج إلى الاستثمار الضخم في المصانع والآلات على غرار الأعمال التجارية الكبيرة في القرن العشرين.

وأضافت الصين ودول آسيوية أخرى ودول منتجة للنفط في الشرق الأوسط إلى مخزون المدخرات من خلال إدارة فوائض تجارية كبيرة ووضع الكثير من الإيرادات في سندات الخزانة الأميركية وغيرها من سندات الدول الصناعية الأخرى.

العلاقة بين أسعار الفائدة والنمو

إن مفتاح القدرة على تحمل الديون هو العلاقة بين أسعار الفائدة والنمو، كما يقول بول دي غراوي، الأستاذ في كلية لندن للاقتصاد وأحد أبرز خبراء الاقتصاد في أوروبا. وطالما أن البلد ينمو مع مرور الوقت بشكل أسرع من الفائدة التي يدفعها، فإن نسبة الديون الإجمالية تميل إلى الانخفاض بشكل طبيعي، أما إذا تجاوزت الفائدة النمو، فإن الخطر قائم.

ويتفق جميع خبراء الاقتصاد تقريباً على أن الدين الحكومي لا يمكن أن يرتفع إلى الأبد دون التسبب في مشكلات، وهناك أيضا اتفاق واسع النطاق على أن المستويات المرتفعة من الديون يمكن أن تكون آمنة إذا كانت غير مكلفة، وربما أعلى مما كان يعتقد تقليدياً قبل 20 عاماً. والسؤال الذي تبلغ قيمته 90 تريليون دولار هو إلى أي مدى مرتفع يمكن أن تصل، ويعلق دي غراوي قائلاً «لا تزال هناك حدود للديون الحكومية، هي فقط أصبحت أبعد بكثير مما كنا نعتقد».

 

القبس


 

مواضيع ذات صلة :