مصارف وشركات نُشر

NBK: التداعيات الإقتصادية لـ «الربيع العربي» وخطة «مارشال» العربية

أشار بنك الكويت الوطني في نشرته الاقتصادية الأخيرة إلى أن آفاق مساعدة اقتصادات دول افريقيا الشمالية ماليا اكتسبت زخما إضافيا عقب انعقاد قمة مجموعة الثاني في مدينة دوفيل الفرنسية أواخر شهر مايو الماضي. وعلى نسق خطة مارشال في العام 1948 التي منحت أوروبا المدمرة بعد الحرب مساعدات بقيمة 13 مليار دولار (توازي 290 مليار دولار اليوم) لإعادة الإعمار والتنمية، اتفق زعماء العالم على تخصيص 20 مليار دولار مساعدات اقتصادية لمصر وتونس لمساعدتهما في تحقيق الاستقرار والعبور نحو الديمقراطية بنجاح. وستأتي هذه المساعدات على شكل قروض للتنمية واستثمارات وشطب ديون وضمانات مالية، وذلك من خلال المؤسسات الدولية على نسق البنك الدولي والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية وبنك التنمية الإفريقي، بالإضافة إلى اتفاقات ثنائية مباشرة مع الدول المانحة.

لكن هذه المساعدات ستعتمد أيضا على اقتصادي مصر وتونس، وما يظهراه، على سبيل المثال، من تقدم ملموس في الإصلاح الحكومي وتعزيز المشاركة السياسية ومحاربة الفساد وتطوير القطاع الخاص. وكما كان بالنسبة لأوروبا بعد الحرب، يبقى الهدف العام هو بناء بيئة أمثل لتوفير وظائف جديدة وضمان استفادة شريحة أكبر من عوائد النمو.

التداعيات الاقتصادية لـ «الربيع العربي»

لقد كان لثورتي مصر وتونس تداعيات ملحوظة على اقتصادي البلدين. ويقدر صندوق النقد الدولي أن يتباطأ الناتج المحلي الإجمالي (بالأسعار الثابتة) بنحو 1% لكلا البلدين في العام 2011، بعدما كانا قد حققا نموا بواقع 5% و3.7% قبل الثورة.

وكان التأثير الأكبر قد طال قطاعات التصنيع والسياحة والاستثمارات الأجنبية، وهي قطاعات يعتمد عليها البلدان بشكل كبير. إذ انخفض الإنتاج الصناعي في تونس بواقع 13% في يناير الماضي، بينما هوت السياحة، التي تساهم بنحو 7% من الناتج المحلي الإجمالي، بواقع 40% خلال الشهرين الأولين من العام الحالي. وفي مصر، انخفض عدد السياح بنحو 81% خلال شهر واحد ليصل إلى 211 ألفا فقط في فبراير الماضي، بعدما كان قد بلغ 1.14 مليون في يانير الماضي و1.38 مليون في المتوسط خلال الربع الأخير من العام 2010.

ويقدر صندوق النقد الدولي أن يؤدي تراجع إيرادات السياحة في البلدين إلى خفض الناتج المحلي الإجمالي بنحو 1% هذا العام. وعلى نحو مماثل، يتوقع معهد التمويل الدولي أن يصل صافي الاستثمارات الأجنبية المباشرة في مصر، الذي يساهم بنحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي، إلى 2.5 مليار دولار فقط في العام 2011، ما يمثل انخفاضا بواقع 60% عن مستواه للعام السابق، بعدما سجل 9 مليارات دولار في المتوسط سنويا خلال السنوات الخمسة الماضية.

كذلك، كان لتحويلات العاملين في الخارج نصيبها من تداعيات الاضطرابات التي شهدتها دول أفريقيا الشمالية. إذ أن عودة أكثر من 100 ألف عامل مصري من ليبيا نتيجة الأحداث الدائرة هناك، من شأنها أن تهوي بتحويلات المصريين العاملين في الخارج في العام 2011، بعدما كانت قد بلغت 6.3 مليار دولار في النصف الثاني من العام 2010.

إن انخفاض إيرادات السياحة والاستثمارات الأجنبية وتحويلات المصريين العاملين في الخارج، إلى جانب انخفاض إيرادات الصادرات الصناعية وبيع الأسهم المصرية وأدوات الدخل الثابت من قبل المستثمرين الأجانب، كلها عوامل وضعت ضغوطا كبيرة على ميزان المدفوعات. وفي أبريل الماضي، تراجع حجم الاحتياطات الأجنبية لمصر بأكثر من 20% إلى 24.5 مليار دولار، مع اضطرار البنك المركزي المصري إلى توفير السيولة للجهاز المصرفي وحماية العملة.

ويقدر وزير المالية المصري سمير رضوان أن يعاني ميزان المدفوعات المصري، نتيجة لذلك، عجزا يتراوح بين 10 و12 مليار دولار في السنة المالية 2011/2012، وبالتالي من شأنه أن يستفيد كثيرا من التمويل الدولي.

وعلى نحو مماثل، تعاني مالية بعض حكومات دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والمتؤثرة أصلا بتراجع الناتج الاقتصادي وإيرادات الضرائب، من اضطرارها إلى زيادة الإنفاق العام وإجراءات الدعم التي وعدت بها الحكومات السابقة. فالحكومة المصرية السابقة كانت قد التزمت بزيادة رواتب موظفي القطاع العام بنحو 15%، بالإضافة إلى إجراءات دعم للسلع الغذائية بقيمة 1.2 مليار دولار. كذلك الحالي بالنسبة لتونس التي يتوقع أن تزيد الإنفاق على الرعاية الاجتماعية وإجراءات الدعم.

وقد ألقت التوقعات بارتفاع عجوزات الميزانيات، والتي يقدر صندوق النقد الدولي أن تصل إلى ما نسبته 10% من الناتج المحلي الإجمالي في مصر و4.7% في تونس في العام 2011، وأيضا ارتفاع عجوزات ميزان المدفوعات، الضوء على ضرورة بأن يقوم المجتمع الدولي بتوفير التمويل اللازم. ويبدو ذلك ضروريا لاسيما بالنظر إلى العلاوات المرتفعة التي يطلبها المستثمرون على الديون المصرية والتونسية.

«» شراكة دوفيل والمساعدات الدولية

وقد أقر المجتمع الدولي منح مساعدات بقيمة 20 مليار دولار على الأقل على شكل قروض، وضمانات ائتمانية واستثمارات وشطب ديون للاقتصادات العربية. لكن حجم المساعدات الفعلي من المرجح أن يكون أكبر بكثير من هذه القيمة، وربما يتراوح بين 50 و100 مليار دولار خلال السنوات الأربعة أو الخمسة المقبلة، على اعتبار أن المزيد من الدول ستبحث عن مساعدات مالية خلال الفترة المقبلة.

«وتحت مسمى » شراكة دوفيل، يمثل التزام المجتمع الدولي بدعم الاقتصادات التي تمر بمرحلة انتقالية في شمال افريقيا، اعترافا- ولو متأخرا- بأن التحول السياسي والاقتصادي في الدول النامية يتطلب دعما مستداما. وفي هذا الإطار، سيمنح المجتمع الدولي مساعداته عبر البنك الأفريقي للتنمية والبنك الأوروبي للاستثمار والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، أو بشكل مباشر من خلال بعض الدول المانحة.

ويمثل البنك الإفريقي للتنمية أول مؤسسة دولية تمنح تمويلا لاقتصادات شمال افريقيا، بعد منحه قروضا بقيمة 500 مليون دولار للحكومة التونسية منذ ثورة ينماير الماضي. وبالإضافة إلى التمويل الممنوح من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والوكالة الفرنسية للتنمية، يبلغ إجمالي التمويل الممنوح لتونس حتى الآن نحو 1.4 مليار دولار.

كذلك، يتوقع البنك الأوروبي للتنمية أن يوقع تسهيلات بقيمة 550 مليون دولار مع تونس في يوليو الجاري، مشيرا إلى أن ما يصل إلى 8.7 مليار دولار قد تذهب إلى تونس عبر وكالة أروربية ما إن تحصل على موافقة السلطات المالية في الاتحاد الأوروبي.

بدوره، أشار البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، وهو مساهم رئيس في عملية إعادة الإعمار التي شهدتها اقتصادات أوروبا الوسطى والشرقية في تسعينيات القرن الماضي بعد انتهاء الحقبة الشيوعية، إلى أن مساهميه وافقوا على منح ما يصل إلى 3.6 مليار دولار سنويا لتمويل التنمية في مصر وتونس.

ومن حيث التعاون الاقتصادي الثنائي، تبرز قطر التي أعلنت عن تقديم أكبر رزمة مالية بين كافة الدول حتى الآن، تصل قيمتها إلى 12 مليار دولار على شكل قروض واستثمارات. وأبدت الحكومة القطرية استعدادها لشراء ما قيمته 2 مليار دولار من سندات الخزانة المصرية والمساهمة بما قيمته 10 مليارات دولار في الاقتصاد المحلي عبر مجموعة واسعة من الاستثمارات والشراكات في المشاريع الصناعية مثل المرفأين الجديدين اللذين يجري تنفيذهما في الاسكندرية وبور سعيد. ويشار إلى أن مصر لديها قدرة الكبيرة جدا على توفير الوظائف، فمشروع مرفأ بور سعيد من شأنه أن يوفر لوحده مليون وظيفة.

كذلك الحال، تعتزم قطر أيضا أن توظف العمالة والشركات المصرية في مشاريع التنمية لديها. كما اقترحت قطر تأسيس بنك الشرق الأوسط للتنمية بالتعاون مع الدول الخليجية الأخرى، على نسق البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية. والهدف من ذلك هو توفير التمويل من خارج صندوق النقد الدولي للمساهمة في تعزيز التنوع الاقتصادي ومواجهة معدل البطالة المتزايد بين الشباب في العالم العربي.

المساعدة المشروطة

لكن كما أشار زعماء مجموعة الثماني، فإن استمرار منح التمويل إلى حدود أبعد مما يتطلبه الاستقرار الاقتصادي سيتوقف على التقدم الملموس في الإصلاح السياسي ولاقتصادي. فرئيس مجموعة البنك الدولي، على سبيل المثال، كان قد صرح على أن رزمة المساعدات المالية البالغة قيمتها 6 مليارات دولار التي سيقدمها البنك- بواقع 4.5 مليار دولار لمصر و1.5 مليار دولار لتونس- ستكون مرتبطة بإصلاحات الحوكمة والإنفتاح، إلى جانب مبادرات تعزيز الاقتصاد وتوفير عوامل نمو داخلية.

وبحسب الالتزامات الدولية المعلنة حتى الآن، هناك انطباع أن جهود المجتمع الدولي ستكون أكبر مما كانت عليه في السابق. إذ لطالما كان ينظر في السابق إلى الجهود الدولية لتعزيز التنمية الاقتصادية في شمال افريقيا عبر مؤسسات التمويل الدولية على أنها دون الطموح. فعلى سبيل المثال، دائما ما كانت توجه الانتقادات في السنوات الماضية إلى إطار عمل الاتحاد اليورو-المتوسطي التابع للاتحاد الأوروبي لتركيزه حصريا على مسائل الهجرة والأمن، من دون التركيز على بناء المؤسسات الديمقراطية. وفي الوقت نفسه، فشلت المنظمة في التعامل مع حاجة اقتصادات شمال افريقيا بأن يكون لها ولوج أكبر إلى الأسواق الأوروبية لسلعها.

وبالنتيجة، وفي محاولة للبناء على آمال الشعوب العربية وتفادي عدم الاستقرار في شمال افريقيا، شرعت تكتلات ومنظمات دولية على نسق الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي بالعمل على تحقيق مجموعة واسعة من الأهداف المتعلقة بالتنمية البشرية والاقتصادية. ولم يعد نمو الإنتاج المحلي هو مقياس نجاح المساعدات المالية، وكذلك الاستقرار الاقتصادي والسياسي.

فالمساعدات المالية ستكون مصحوبة بالأهداف التالية: دعم المجتمع المدني، ورفع مشاركة المرأة، تعزيز المسؤولية الاجتماعية، تعزيز حوكمة الشركات، تعزيز التعليم والابتكار، زيادة دور القطاع الخاص ومساهمته في الاقتصاد، تحفيز خلق الوظائف الجديدة، تعزيز التجارة الخارجية والاستثمار، بالإضافة إلى الانفتاح أكثر على الاقتصاد العالمي.
إجمالي الدعم المالي المحتمل للاقتصادات العربية


التحديات الرئيسة أمام الاقتصادات الانتقالية

«يقدر صندوق النقد الدولي أن منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا ستكون بحاجة إلى مساعدات مالية بقيمة 160 مليار دولار خلال السنوات الأربعة المقبلة لمواجهة التحديات في المدى القصير. وبالإضافة إلى الضرورة الملحة لدعم ميزان المدفوعات والمالية العامة للاقتصادات العربية المتأثرة بالاضطرابات، أشار صندوق النقد الدولي إلى أن اقتصادات المنطقة ستكون بحاجة إلى المرور بما يسمى » انتقال جذري في نماذجها الاقتصادية بهدف ضمان إيجاد حلول للتحديات الاقتصادية- الاجتماعية والسياسية التي أطلقت الثورات.

ويتلخص الحل بأن يكون النمو الاقتصادي مدفوعا بعوامل داخلية، تستفيد منه أكبر قدر من الشرائح الاجتماعية. وهو ما لم يكتسب أولوية في السياسات السابقة. فالمكاسب الاقتصادية التي كانت تحققها الشركات المهمة والقطاعات الرئيسية كانت محصورة بقلة من المجتمع.

ومن الجوانب المهمة التي تستدعي التركيز عليها ومعالجتها، هي مشألة تضخم القطاع العام بما يفوق قدرته، مصحوبا بقطاع خاص ضعيف وغير متطور، بالإضافة إلى أسواق العمل غير المتكافئة وبعض الإجراءات التنظيمية المعرقلة والأنظمة التعليمية دون المستوى. ففي منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، تشهد القوى العاملة نموا بفضل التركيبة الديموغرافية للسكان والتي يشكل الشباب 25% منها.

وهذا يضع ضغوطا ملحوظة على الحكومات لتوفير فرص العمل الكافية لاستيعاب القادمين الجدد إلى سوق العمل ومواجهة معدلات البطالة التي تجاوزت الـ10%. ويقدر البنك الدولي أن المنطقة ستكون بحاجة إلى توفير 40 مليون فرصة عمل جديدة خلال عقد من الزمن بهدف تجنب أن يؤدي العامل الديموغرافي إلى اضطرابات اجتماعية- اقتصادية وسياسية.

وفي المدى القصير، ونظرا إلى أن المبادرات المحلية في مصر وتونس ما بعد الثورة ستقودها التوجهات الشعبية، يتمثل التحدي الأساس يتوحيد المطالب حول سياسات عامة تتعلق يتضخم القطاع العام المتضخم وارتفاع الدعم والإنفاق الحكوميين، في ظل العجز الحكومي وسياسة السوق الحر. وعلى الرغم من خفض العجز المتوقع في الميزانية المصرية للسنة المالية 2011/2012 بعد مراجعته مؤخرا من 10.9% إلى 8.6% من الناتج المحلي الإجمالي على خلفية خفض الإنفاق الحكومي والارتفاع المتوقع في إيرادات الضرائب وتصدير الغاز، يبقى التحدي المالي ماثلا أمام الحكومة. ويستحوذ الدعم الحكومي لأسعار المواد الغذائية والوقود البالغ 22 مليار دولار، على أكثر من ربع المصروفات الحكومية الإجمالية والبالغة 83 مليار دولار في السنة المالية 2011/2012. وتمثل هذه، إلى جانب الزيادة في رواتب موظفي القطاع العام ومخصصات السكن المنخفض التكلفة، التزامات على الحكومة الانتقالية الوفاء بها.

كما يتمثل التحدي أمام الاقتصادات العربية التي قد تضطر إلى التوجه إلى الأسواق العالمية والمدينين الأجانب للحصول على مساعدة في المدى القصير، بأن تضمن أن تسديد الديون والالتزامات المرتبطة بها لا تتحول إلى عبء مالي يفوق قدراتها أو إلى مسائل ذات حساسية سياسية. وفي الواقع، جاء تصريح وزير المالية المصري مؤخرا بأن مصر لن تقترض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بمثابة جواب على ذلك.

وفيما يكون عدم طلب مساعدة دولية بتكلفة مرتفعة- نظرا إلى الحاجة إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي- إلا أن الحكومات ستكوت بحاجة إلى إبقاء مستويات الدين عند مستويات تحت السيطرة وأن تتفادى التفاؤل المفرط في توقعات النمو.


 

مواضيع ذات صلة :