مصارف وشركات نُشر

قفزة ودائع ببنوك غزة رغم الحرب والدمار... ما مصادر الأموال؟

من بين المفارقات الاقتصادية اللافتة التي رافقت الحرب الإسرائيلية المدمرة على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ذلك الارتفاع الكبير في حجم ودائع أهالي قطاع غزة داخل البنوك المحلية، بالرغم من الانهيار شبه الكامل للنشاط الاقتصادي والمصرفي، وتدمير آلاف المنشآت التجارية، وتعطل دورة الإنتاج.

قفزة ودائع ببنوك غزة رغم الحرب والدمار... ما مصادر الأموال؟

وأظهرت الأرقام الصادرة عن سلطة النقد الفلسطينية (البنك المركزي)، قفزة غير مسبوقة في حجم الودائع، فقد ارتفعت ودائع عملاء البنوك في غزة بنسبة 178% منذ بداية الحرب وحتى نهاية أغسطس/ آب 2025، حيث صعدت من 1.745 مليار دولار في أكتوبر 2023 إلى 4.84 مليارات دولار. هذا الارتفاع أثار أسئلة كثيرة حول مصادر هذه الأموال وطبيعة تراكمها، وما إذا كان هذا الارتفاع يعكس تعافياً اقتصادياً أم أنه مؤشر على تعمق الأزمة؟
ويرى اقتصاديون أن هذه الزيادة لا تمثل نمواً حقيقياً، بقدر ما تعكس واقعاً اقتصادياً مكبوتاً، انعدمت فيه فرص التجارة والاستثمار، وتكدست فيه السيولة داخل الحسابات البنكية، نتيجة الخوف، وتوقف الأعمال، وارتفاع نسب "التكييش"، إلى جانب تدفق تحويلات المغتربين.

هروب بالأموال
يروي التاجر حمدي خليل من شمال غزة، حكايته مع الودائع البنكية، وكيف اضطر منذ الشهر الثاني للحرب إلى اتخاذ قرار سريع بإيداع مبلغ كان معه في البنك، خوفاً من ضياعه بسبب كثافة القصف والدمار والنزوح المتكرر. ويعمل خليل في تجارة المواد الغذائية منذ أكثر من 25 عاماً، وكان يحتفظ بمبالغ نقدية يستخدمها لتجديد بضاعته وشراء شحنات جديدة، ومع ازدياد القصف وتوسع دائرة الاستهداف شعر بأن الكاش الذي يمتلكه لم يعد آمناً.


وقال خليل لـ"العربي الجديد": "أودعت مبلغ 600 ألف شيكل (نحو 188 ألف دولار) في حسابي البنكي في وقت مبكر من الحرب، بعد أن أصبح القصف يستهدف منازل ومحال تجارية بشكل عشوائي"، مضيفاً: "كنت أسمع يومياً عن تجار فقدوا أموالهم تحت الركام، شعرت بأن البنك هو الملجأ الوحيد الذي قد يحمي ما تبقى من رأسمالي".

ومع توقف الحركة التجارية بالكامل تقريباً، لم يعد لديه مجال لاستخدام هذه الأموال في نشاط تجاري، فبقيت مجمدة في حسابه. وأشار إلى أن المبلغ الذي أودعه ظل على حاله دون حركة، قائلاً: "لو كنت في ظروف طبيعية لاستثمرت هذا المال في شراء بضاعة جديدة، لكن خلال الحرب كل شيء متوقف، لم يكن أمامي إلا خيار الإيداع".


ولعل قصة التاجر خليل تمثل نموذجاً متكرراً لدى شريحة واسعة من التجار ورجال الأعمال الذين فضلوا حماية السيولة عبر البنوك، وهو أحد الأسباب التي ساهمت في تضخم الودائع.

تراكم الرواتب
وتمثل الفلسطينية فداء إبراهيم، وهي معلمة تعمل في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، نموذجاً آخر لتراكم الودائع، لكن من زاوية مختلفة تماماً، فمنذ الأشهر الأولى للحرب واجهت فداء، كما آلاف الموظفين والمودعين، صعوبة كبيرة في سحب راتبها، بسبب أزمة السيولة الحادة التي اجتاحت القطاع. ووصلت عمولة سحب الأموال من الحسابات البنكية، أو ما يُعرف محلياً بـ"التكييش" إلى نسب غير مسبوقة، بلغت في بعض الفترات 52%، وهو ما يعني أن الموظف يخسر نصف راتبه إذا حاول سحبه نقداً عبر التجار.
وقالت إبراهيم لـ"العربي الجديد" إنها رفضت الخضوع لهذا الاستغلال، فلجأت إلى بيع جزء كبير من مصاغها الذهبي للحصول على سيولة نقدية تمكنها من تسيير شؤون أسرتها. وأضافت: "لم أكن أستطيع دفع نصف راتبي مقابل الحصول على بقية المبلغ، الذهب كان طوق النجاة بالنسبة لي، رغم أنني كنت أتمسك به منذ سنوات طويلة".
وبينما باعت ذهبها لتوفير السيولة، بقي راتبها يتراكم داخل حسابها المصرفي على مدار عامين تقريباً دون قدرة على سحبه. وقالت إبراهيم إنها لا تزال تنتظر انتهاء أزمة "التكييش" وعودة السيولة إلى وضعها الطبيعي، حتى تتمكن من استرجاع القدرة على استخدام أموالها، مضيفة: "أول شيء سأفعله بعد تحسن الظروف هو شراء الذهب من جديد، فهو أكثر أماناً بالنسبة لي من المال المحجوز في البنك".

اقتصاد مكبوت في غزة
بدوره، أكد المختص في الشأن الاقتصادي، عماد لبد، أن ارتفاع الودائع لا يشير بأي حال من الأحوال إلى تحسن اقتصادي أو نمو مالي، بل هو انعكاس مباشر لأزمة اقتصادية عميقة يعيشها القطاع منذ بدء الحرب. ووصف لبد في حديثه لـ"العربي الجديد"، هذا الواقع بأنه "اقتصاد مكبوت لا يستطيع تحويل السيولة إلى نشاط تجاري"، موضحاً أن تكدس الأموال في الحسابات البنكية ليس مؤشراً إيجابياً كما قد يبدو للبعض، بل هو دليل على توقف عجلة الاستثمار والإنتاج، ما يعكس عمق الأزمة الاقتصادية في غزة.

وعزا لبد أسباب ارتفاع الودائع إلى عدة أمور، أولها أن كثيراً من رؤوس الأموال هرعت في بداية الحرب لإيداع أموالها داخل البنوك خوفاً من السرقة أو القصف، خاصة أن عدداً كبيراً من التجار فقدوا مبالغ ضخمة كانت بحوزتهم بعد تدمير منازلهم أو محالهم. "هذا السلوك بدافع الخوف أدى إلى تحويل سيولة كبيرة نحو النظام البنكي خلال الأسابيع الأولى من الحرب".


ويتعلق السبب الثاني، وفق لبد، بأزمة السيولة ونسب "التكييش" المرتفعة، التي دفعت الموظفين والمواطنين إلى تقنين عمليات السحب إلى الحد الأدنى، ما جعل الرواتب والأموال تتراكم داخل الحسابات دون حركة. وأوضح أن الكثير من الأسر اتجهت إلى بيع الأصول والذهب للحصول على سيولة نقدية، مما أدى إلى تضخم إضافي في الودائع، مقابل تراجع في القدرة على السحب. أما السبب الثالث فهو تدفق تحويلات المغتربين بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب، قائلاً: "الكثير من المغتربين حاولوا دعم عائلاتهم في غزة، وغياب فرص السحب جعل جزءاً كبيراً من هذه الأموال يبقى داخل الحسابات".
وذكر لبد أن السبب الرابع يعود إلى توقف السوق العقارية والاستثمارية، "فقبل الحرب كانت هناك القدرة على شراء العقارات أو تنفيذ مشاريع صغيرة، لكن الحرب ألغت كل هذه الخيارات، وجعلت معظم الناس يفضلون الاحتفاظ بأموالهم داخل البنوك بانتظار تطورات المشهد السياسي والاقتصادي".

 


 

مواضيع ذات صلة :