
الان وبعد مرور اكثر من عام ونصف على الازمة لم يعد بمقدور شركات الاستثمار ان تستمر في سياسة الصمت وهي تعض على جرحها من باب الامل ريثما تعود الامور الى سابق عهدها، بل الاولى بشركات الاستثمار اليوم ونحن نبدو مقبلين على مرحلة جديدة ذات أوضاع مغايرة، ان تعيد النظر في كل شيء، وقبل كل شيء عليها البحث في متطلبات استعادة الثقة بها. الامر هنا لا ينسحب على شركة او اثنتين، بل يمتد الى قطاع بأكمله. فما حدث لمجموعة من شركات الاستثمار هز الثقة بالقطاع بأكمله. اذن كيف يمكن استعادة الثقة بقطاع شركات الاستثمار؟ هنا متطلبات يراها خبراء ضرورية لتحقيق هذا الهدف:
1-تغيير نموذج الاعمال بما يدحض النموذج الذي ساد سابقا من شركات الاستثمار التي تشبه «السوبرماركت» التي تيبع كل شيء واي شيء وكيفما اتفق تحت سقف واحد. فرص العمل امام شركات الاستثمار في المرحلة المقبلة كثيرة ومتنوعة، لا سيما مع انطلاقة الخطة الخمسية التي يمكن ان تقدم خلالها هذه الشركات الكثير، شرط التركيز والتخصص في «موديل» او نموذج عمل محدد وامتلاك الخبرة الكافية لتقديم هذا الموديل. ليست كل فرصة متاحة يمكن الاستفادة منها. هناك على سبيل المثال بيزنس الاستشارات المالية، الاستثمار في الملكيات الخاصة، ادارة الاصول، اعمال بنوك الاستثمار، التمويل. ولتكن سلبيات التجربة القائمة حاضرة، فالشركة التي تقدم كل شيء و«خبصت» في قطاع واحد «اختربت» سمعتها بالكامل وآن لها ان تستعيدها في القريب.
2- بات فرضا ان تغير بعض شركات الاستثمار لغة الخطاب الاعلامي التي سادت والتي قامت على الابهار و«الخطاب الاحتيالي»، على حد وصف احد خبراء الاستثمار المحايدين، عبر الترويج الكاذب لمنتجات او انجازات غير موجودة بغرض التدليس او التأثير في الاسعار بشكل مفتعل، لغة الخطاب تلك كانت احد ابرز الاسباب التي عمقت اهتزاز الثقة في الشركات التي مارستها لردح من الوقت، ليس شرطا ان تتحدث كل الشركات لغة اعلامية واحدة وانما المهم ان تتبنى خطابا اعلاميا واقعيا، ولا تبالغ في تضخيم الانجازات، ولا تنسب لنفسها ما ليس لها ولا تحاول «شراء» ابواق اعلامية، ولا تنكر انها تعثرت ومقبلة على فترة صعبة من المعالجة، ولا تحارب الاعلام لمجرد انه ينقل اخباراً صحيحة، ولا تبالغ في نشر اخبار دعائية هدفها تلميع الصورة فقط من دون وجود شيء فعلي ومهم تقوله للمساهمين والعملاء.
3- تطبيق اكثر فاعلية لمعايير الحوكمة والادارة الرشيدة: البداية في تطبيق هذه المعايير تأتي «من فوق» اي من الجهات الرقابية المعنية، فالاصل «من دخلة الباب» اذ يتعين ان تكون هناك معايير معنية ورقابية في تشكيل مجلس ادارة الشركة الاستثمارية وشغل الوظائف التنفيذية فيها ومتابعة اكثر دقة لعملياتها شأن قطاع البنوك، ثم يأتي الدور على الشركة من الداخل في ايجاد ادارات فعالة للتدقيق والمتابعة، وادارة المخاطر، لتدقيق العمليات والقرارات الاستثمارية ومراجعتها واعداد التقارير، سعيا لتقليل الاخطاء والحد من الاندفاع في القرار الاستثماري العشوائي، ويجب الافصاح عن الرواتب والمكافآت والحوافز حتى لا تتكرر تجربة قياديي شركات اثروا على حساب المساهمين والعملاء الذين تورطوا في شركات متعثرة، علماً ان ثروات قياديي تلك الشركات بخير!!
4- زيادة جرعة الشفافية: الشفافية ثقافة وليست اجراء تقوم به الادارات، تعني بها كل ادارات الشركة الاستثمارية وغير الاستثمارية، والمقصود هنا الافصاح عن كل ما يهم المساهمين والمستثمرين من قرارات تخص الدخول في استثمارات او تخارجات وغيرها من التعاملات التي تؤثر في سعر السهم، والاهم ان يتوفر الوضوح والتفصيل في المعلومة وخروجها في الوقت المناسب، بما يعطي امتياز الحصول عليها للجميع وليس لفئة بعينها، مع ضرورة التفريق بحرفية بين الشفافية والسرية بغرض الحفاظ على التنافسية، وليس من الجائز بعد اليوم الاستمرار في لعبة التضليل التي كانت سبباً جوهرياً من اسباب الازمة.
5- بناء استثمارات صلبة: لدينا اكثر من 100 شركة استثمارية لا تزال الاموال الموضوعة تحتها محدودة لا سيما مع تغيرات الازمة الآخذة في التفاعل، الاستثمارات الحقيقية تحتاج مئات الملايين وليس مليونين او ثلاثة، مما يحتم دخولها في اندماجات لتصبح قادرة على خلق كيانات وقاعدة استثمارات اكثر صلابة، وعلى مستوى كل شركة منفردة هناك متطلبات معروفة في ابجديات الاستثمار لبناء استثمارات صلبة اقل عرضة لمخاطر الانهيار، بينها دراسة الاصل دراسة نافية للجهالة، ثم دراسة القطاع، ثم السوق، والتقييم العادل، وتوقع الربحية والتدفقات المستقبلية، والاهم هو الابتعاد عن ثقافة الاستثمار المضاربي الساخن القائم على ثقافة التخارج حتى من قبل بناء الاستثمار.
6- ادارة اصول الغير بشكل افضل لجهة ايجاد ادارات استثمار لاموال الغير ذات حرفية وتخصص عاليين، والالتزام بضوابط اكثر صرامة وشفافية حتى تحظى الشركة بثقة اصحاب الأموال المدارة، فلا يكفي الافصاح للعميل عن قدر الربح او الخسارة لمحفظته، وانما يتعين الافصاح عن طبيعة الاسهم المستثمر فيها، وتوقيت ومستوى الشراء والبيع، ودرجة المخاطرة، ثم الفصل التام بين استثمارات الشركة واستثمارات العملاء، والافصاح عن عائد استثمارات الشركة مقابل عائد استثمارات العملاء، ومنع مديري الاصول من التداول في السوق لمصلحتهم او لمصلحة ذوي الصلة.
7- الاقلاع عن تفريخ الشركات الورقية: هذه الشركات التي فرخت في عصر الازمة وألبست «طواقي» متعددة، تسببت في ضرب سمعة الشركات التي فرختها بعد ان جمدت فيها مئات الملايين من أموال المساهمين. امر جيد ومطلوب ان تفرخ شركات تشغيلية تخصصية تابعة بعد ايجاد مجال العمل الحقيقي ووضع الهيكل المناسب لهذه الشركات، فلا بأس من تأسيس شركات تعمل في قطاعات التعليم والصحة والخدمات اللوجستية وغيرها اذا كانت ستقدم قيما مضافة. اما الاستثمار في لعبة التفريخ بهدف تحصيل عمولات ثم رمي الاسهم الورقية في السوق بلا أم ولا أب فهذا منتهى الامعان في الرذيلة الاستثمارية.
8- الاقلاع عن تضخيم الاصول واعتماد سياسات اكثر تحفظاً: شركات كثيرة تلاعبت بدأبها على تجميل ميزانياتها ونفخ اصولها بالتدوير بين التابع والزميل والتصعيد المتعمد طمعاً من جانبها وجريا وراء ضغوط المساهمين. هذه الشركات اخذت درسا معتبرا اليوم بعد تآكل اصولها المقيمة واختفاء ارباحها حتى باتت تقف على مشارف الافلاس، بينما اخرى اتبعت سياسة متحفظة احترمت عقلية مساهميها واظهرت بياناتها المالية على حقيقتها فاحتفظت بثقتهم رغم تأثرها. ويذكر ان شركات استثمار تعرض كل شيء للبيع اليوم بعد ما تبين انها متعثرة حتى العظم وان كان الاعلام لم يتناول ذلك بعد طرحه. وسبب التعثر هو هبوط قيم الاصول نحو %80 بينما متوسط الهبوط في السوق %50. الفارق هو نتاج تضخيم سابق خيالي لقيم الاصول سرعان ما كشفت الازمة زيفه فانكشف من كان مستوراً على انه فاضل استثماريا.
9- طرح ادوات ومنتجات وخدمات ملائمة: في اعقاب انخفاض قيم الثروات بات المستثمرون في حاجة ماسة الى اوعية استثمارية تستوعب ما بقي من مدخراتهم، ومعها يبقى على شركات الاستثمار الجادة الراغبة في الحصول على ثقة العملاء المتذبذبة ان تتلمس الاحتياجات الاساسية لهؤلاء المستثمرين بالاجتهاد في طرح ادوات ومنتجات جديدة ومجددة تلائم الظروف والمكان. فليس بمقدور شركة ان تطرح صندوقا للتطوير العقاري او تدير اكتتابا لزيادة رأس المال الآن لاسباب متصلة بقلة الثقة جرّاء تجارب سابقة اتضح انها مضللة.
10-وماذا عن الكوادر؟ ادارة الشركة وكوادرها اساس الاحتفاظ بالسمعة، فان حسنت الكوادر حسنت السمعة والعكس صحيح، أظهر امتحان الازمة مهنية الكوادر لدى كل شركة، هناك كوادر خبيرة قادرة على التعامل مع الظروف الصعبة على الشركة الاحتفاظ بها، والتخلص من الكوادر الضعيفة أو اعادة صقلها، ولم يعد جائزا التوظيف الا بمبررات التجربة والكفاءة والمهارة وليس على اساس هذا ولدنا وهذه بنتنا!
11- تبني النهج المضاربي المتزن: ليس بمقدور أي شركة استثمار التخلي كليا عن جانب المضاربة في اسواق الأسهم والتفرغ الى الاستثمار متوسط وطويل الأجل والاستثمارات المباشرة، المضاربة المدروسة باعتبارها موردا للربحية، على ان يتم ذلك من خلال المضاربة المهنية وليست العشوائية الساخنة وهو أمر موجود عالميا، لاسيما ان مؤسسة غولدمان ساكس أقرت اخيرا بان المضاربة في أسواق الأسهم أحد اسباب انتقالها الى ربحية من الخسارة.
12- الا تكون حركة السهم اليومية الشغل الشاغل لادارة الشركة، بل عليها الانصراف الى العمل وتعزيز قاعدة استثمارات الشركة التشغيلية وتوفير كل الدعم للادارة التنفيذية لينعكس كل ذلك على أداء السهم، بيد ان متابعة السهم هي مهام الادارة المالية لغاية محددة تتعلق بالاقتراض والميزانية ولا يجب ان تتعدى ذلك، ولا يجوز الاستمرار بالعبث الاستثماري بالترويج والبروباغندا الزائفة لزوم ترقيع سعر السهم.
13- التخلي عن الاقتراض قصير الأجل :لتمويل استثمارات طويلة الأجل، والاتجاه قدر الامكان نحو الاقتراض طويل الأجل من خلال الاستثمار في مشاريع تشغيلية مدرة أو سهلة التسييل تقبلها البنوك وتقرضها.
14- الانخراط أكثر في عمليات البنوك الاستثمارية الحقيقية :مثل الدمج والاستحواذ وتقديم الاستشارات.
فقد بات على شركات الاستثمار ان ترفع سقف طموحاتها بلعب دور محور في هذا القطاع، لمن اراد ان يتخصص فيه، وان تترفع عن كونها محافظ استثمارية تتاجر في الاسهم وحسب، باعتبار المجال مفتوحا لهذا «البيزنس» في قادم الأيام، فضلا عن انه يكسب الكيان الاستثماري الاحترام والثقة. ان عمليات الدمج والاستحواذ والعمليات الأخرىالخاصة بالبنوك الاستثمارية مصدر ربح ممتاز اذا احسنت الشركة المعنية فعل ذلك بمهنية وحيادية.
15- الاهتمام بصدقية وواقعية نشرات الاكتتاب: حين عودة سوق الاصدارات، وعدم «سلق» هذه النشرات أو تقديم نشرات تضع الشمس في يمين المستثمر والقمر في يساره، فالمستثمر اصبح اكثر وعيا والشركات المديرة لن تتحمل هزات اخرى في الثقة، والأهم من ذلك ان تأخذ شركات الاستثمار والبورصة والجهات الرقابية الأخرى على عاتقها تثقيف المستثمر وزيادة وعيه لا ان تكتفي باقتناص الفرص من جهة والقول «ان القانون لا يحمي المغفلين!».
عن القبس