جدل وتحقيقات نُشر

الأسباب الغير مباشرة لأزمتي الفقر والجوع في الوطن العربي

نحن الآن بصدد موضوعنا الثالث عن الفقر والجوع بالوطن العربي ، بوسعنا الأن أن نضع عناوين عريضة

لتترسخ في أذهاننا بمفهومها الصحيح وهي أن الفقر لا يرتبط بفقر أو ثراء الدوله ، بل يعتمد على التنظيم والإدارة للموارد الغذائية بكل دوله والدليل كما وضحنا أن بعض دول النفط بها نسبه من الفقر ، فالنقطة التي سنتوقف عندها في تلك الموضوع الذي أعدته الزميلةإلهام محمد علي ؛ هو الأسباب الغير مباشرة للفقر في البلدان العربية ، فسبق وأن طرحنا العوامل المباشرة للفقرمثل الإفتقار إلى الوسائل اللازمة لشراء كميات كافية من الطعام للإحتياجات اليومية ، والإفتقار إلى الإمدادات الغذائية ... تفاصيل الموضوع ..
 
حلقة الفقر والجوع المفرغة
يشكل الفقر والجوع حلقة مفرغة؛ فالجوع يطيل أمد الفقر لأنه يخفض الإنتاجية ،والفقر يعيق قدرة الفرد على الإنتاج ويحول دون حصوله على ما يحتاج إلية من غذاء.
ولا يتعرض الفقراء لمخاطر الجوع وقلة المغذيات فحسب ، بل كذلك للأمراض المزمنة المرتبطة بنمط التغذية والعادات وضغوط الظروف والأوضاع التي تنوء بثقلها عليهم .
ويميل الفقراء وغير المتعلمين، أكثر من غيرهم إلى أنماط سلوكية محفوفة بالمخاطر الصحية ، مثل التدخين وتناول الأطعمة الدهنية الجاهزة والمقلية ذات السعرات العالية والكلفة الزهيدة .
وهم يفتقرون إلى الرعاية الصحية والوعي الصحي ويتعرضون ، جراء الحرمان للإجهاد الإجتماعي والبدني والنفسي ؛ وتبين مراجعة لـ144 دراسة عن البدانة في البلدان المتقدمة أن ثمة علاقة عكسية بين البدانة والمنزلة الإقتصادية الإجتماعية ، وتلاحظ أن الفقراء غالباً ما يضطرون إلى تناول الوجبات السريعة ولا يدركون دائماً الأصول الأساسية للحمية الغذائية الصحية.

ويشير ذلك إلى أن نسبة البدانة وما يصاحبها من مخاطر صحية ستكون أعلى في البلدان التي يزيد فيها سوء التغذية بالتلازم مع التطور الحضري .

الحروب تهد الدم وتفاقم الفقر

وتستدعي مواجهة هذا العبء المزدوج المتمثل بالجوع المزمن وتفشي الأمراض غير المعدية الناتج منه ، وضع سياسات خاصة للغذاء تركز على الفئات الضعيفة من الفقراء في المناطق الحضرية والريفية على السواء.

على الرغم من ذلك كله ، لا يرتبط الفقر حتماً بقصور التغذية عندما تميل أنماط الإستهلاك في أوساط الفقراء إلى المواد الغذائية ذات الكلفة الزهيدة ولكن المغذية ، وعندما تكون هذة المواد سهلة المنال.

وحين تتوافر الإحصاءات حول مستويات الفقر ومستويات القصور الغذائي في منطقة ما ، فإن دليلي

القياس قد لا يتداخلان أو يتطابقان على الدوام ؛ فأعداد من يعانون قصور التغذية قد تزيد على أعداد الفقراء في بعض الحالات التي لا يكون فيها تدني الدخل هو الذي يعوق الحصول على الغذاء ، بل قد يكون السبب

عقبات أخرى مثل : عوائق في حركة النقل ، أو اضطرابات سياسية .

وربمت تنخفض أعداد من يعانون القصور الغذائي إلى ما دون أعداد الفقراء ، كما هى الحال في المناطق التي تطبق فيها سياسات حكومية لإمداد الفقراء بالغذاء ، أو التي يتألف الغذاء السائد فيها من أطعمة زهيدة الكلفة ولكنها تلبي احتياجات الجسم من الطاقة .

وعند النظر إلى إحصائيات إنتشار الفقر في البلدان العربية وإلى ترابطها مع إنتشار الجوع والقصور الغذائي ، يلاحظ أن معدلات الفقر الأكثر حدة ( أي عدد من يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم )

والحرمان من واحدة أو أكثر من الخدمات الأساسية ، إنما تتركز في تلك البلدان التي ترتفع فيها نسبة انتشار القصور الغذائي ، أي في البلدان ذات الدخل المتدني ، وهي « السودان وموريتانيا واليمن » .

حيث أن أكثر من 60 % من سكام موريتانيا ، ونحو 45 % من سكان اليمن ، ونحو40 % من سكان مصر

يعيشون على أقل من دولارين في اليوم ، وقد تكون المقارنة مثيرة للإهتمام ؛ ففي مصر يعادل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ( محسوباً على أساس قيمة القوة الشرائية ) ما يقارب نظيره في المغرب ( 4.337 دولاراً و 4.555 دولاراً على التوالي في العام 2005 ) ؛ ومع ذلك فإن مستوى الفقر ( محسوباً مع أساس النسبة المئوية للسكان الذين يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم ) ، ومستوى الجوع هما أدنى بشكل ملحوظ في مصر ( 20 % و4 % على التوالي ) ، مما هما في المغرب ( 34 % و6 % على التوالي ) ، وتدل الأرقام الأكثر إنخفاضاً في حالة مصر على أنماط الغذاء قد أسهمتا في الحد من انتشار القصور الغذائي .
 

التعايش بأقل من دولارين باليوم

كما تشير البيانات الإحصائية إن عدد الفقراء في البلدان العربية التي تتوافر عنها البيانات يتجاوز أعداد من يعانون القصور الغذائي.

فنسبة من يعيشون على أقل من دولارين في اليوم هي أعلى من نسبة الجياع في الأردن والجزائر والسعودية والسودان وسوريا والكويت ولبنان ومصر والمغرب وموريتانيا ، بينما تتساوى تقريباً معدلات الفقر والجوع في اليمن .

وتؤكد إحصاءات البنك الدولي أن الفقر يفوق قصور التغذية انتشاراً في تونس وفي بلدان أخرى في المغرب والمشرق العربيين عموماً . مع ذلك يلاحظ أن النسبة المئوية لمن يعانون الجوع في الأردن والجزائر والمغرب ، هي أعلى من النسبة المئوية لمن يعيشون في فقر مدقع ، أي على أقل من دولار واحد في اليوم .

في هذا السياق يمكن عقد مقارنات مفيدة أخرى ، إن نصيب الفرد مع الناتج المحلي الإجمالي متقارب في الأردن ولبنان ( 5.530 دولاراً و 5.584 دولاراً على التوالي ) ، وتتقارب كذلك نسبة إنتشار الفقر والجوع في البلدين.

ومن جهة أخرى السعودية وهي من بلدان الدخل المرتفع ليست أحسن حالاً من سوريا ذات الدخل المتوسط ، من حيث نسبة إنتشار الجوع ( وهي 4 % من السكان في كل من البلدين وفق بيانات البنك الدولي ).

ويوضح ذلك مرة أخرى أن توافر الموارد وحدة لا يكفي لتحقيق تنمية المجتمع أو لتحقيق النمو الإقتصادي المستدام .

إن في وسع أي دولة ولو محدودة الموارد نسبياً أن تواجه التحدي بالحد من الجوع والفقر ، والمطلوب في هذة الحالة هو تطبيق سياسات تنموية مدروسة ومصممة بشكل جيد وشاملة بمضمونها ، والشروع في تنفيذ إصلاحات إقتصادية ومالية بنيوية تضمن عدالة التنمية في القطاعات الإجتماعية كافة ، مع إعطاء الشرائح الأكثر ضعفاً عناية خاصة .
 
الإحتلال الأجنبي والنزاعات الأهلية والجوع
على الرغم من عدم توافر بيانات موثوق بها وحديثة عن البلدان العربية التي تعاني وطأة الإحتلال أو النزاعات الأهلية ، ما يجعل من المتعذرة مقارنتها بالبلدان العربية الأخرى ،فعند الوقوف على المعطيات التي يقدمها برنامج الأغذية العالمي لنأخذ فكرة عامة عن ضخامة المشكلة ؛ نلاحظ إن البلدان التي

النزاعات تحارب الفقر دون سلاح

تمر بمثل هذة الظروف الخاصة تشهد تدهوراً في أوضاعها الغذائية لعدة أسباب لعل أهمها اختلال نمط الحياة اليومية الذي درج الناس من خلاله على ترتيب نمط حياتهم اليومي وتحركاتهم وأسلوب شرائهم لاحتياجتهم الأساسية .وتجلب هذة الاضطرابات معها فقدان الأمن الشخصي ، بكل ما ينطوي عليه ذلك بالنسبة إلى من يعيشون في مناطق النزاع ؛ فقد تفضي إلى وفاة الآلاف من المزارعين وغيرهم ممن يعملون في إنتاج الغذاء ونقلة أو توزيعة.وتشهد المناطق الريفية في تلك البلدان استخدام الآلاف في أعمال عسكرية بدلاً من اشتغالهم في إنتاج الغذاء ؛ أو هروب آلاف آخرين من منتجي المحاصيل الزراعية وموزعيها إلى مناطق أكثر أمناً .يضاف إلى ذلك أن اللاجئين والمهجرين غالباً مكا يضطرون إلى البحث عن الطعام في الأماكن التي يلوذون بها ، وغالباً ما تخونهم الظروف فلا يجدون مورداً للرزق والعيش الكفاف .ويتضاعف تأثير هذه الإضطرابات عندما تؤدي النزاعات المسلحة إلى تدمير الطرق وأنظمة الري وشبكات الكهرباء ومرافق البنية التحتية الأخرى ، وتعطيل إنتاج الغذاء ونقلة والحد من القدرة على مواجهة الفيضانات والجفاف والكوارث الطبيعية الأخرى .
 

الميليشيات تفاقم الجوع

وفي ظل هذه الظروف لا تؤدي ندرة الغذاء إلى غلاء الأسعار فحسب ، بل يصبح نقله بصورة آمنة من منطقة إلى أخرى عملية محفوفة بالمخاطر الناجمة عن الاعتداءات والابتزاز من جانب الميلشيات وعصابات المجرمين.

ولا عجب إذن أن تحول هذه الأزمات البلدان المعنية بؤراً للكوارث الإنسانية تمتد في تداعياتها إلى البلدان المجاورة ، وتثير القلق في الأوساط الدولية بحيث يستدعي الحجم الهائل لضحايا الفقر والجوع التدخل الخارجي .

كما أعدت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة قائمة تضم ستة وثلاثين بلداً هي الأكثر تعرضاً للمخاطر نتيجة لزيادة أسعار المواد الغذائية في الأسواق العالمية وتتطلب ، من ثم معونات غذائية خارجية .

وتشمل القائمة أربعة بلدان عربية بينها ثلاثة تعاني التدخل الأجنبي أو النزاع الأهلي أو كليهما .

فأعتبر الصومال والعراق تعانيان نقصاً إستثنائياً في المحصلة النهائية لإنتاج / تموين الأغذية ؛ وموريتانيا

تواجه عجزاً واسعاً في الحصول على الغذاء ، أما السودان فاعتبر أنه يعاني اختلالاً حاداً في الأمن الغذائي في بعض المناطق .
 
السياسات الإقتصادية والعولمة
يتأثر إمكان الحصول على الغذاء ، إلى حد كبير بالسياسات الإقتصادية للحكومات ودرجة الإنفتاح على الأسواق العالمية ؛ ويمثل دعم السلع الغذائية لتقليل كلفتها بالنسبة إلى الناس إحدى هذه السياسات ، بينما يشكل وقف هذا الدعم سياسة أخرى .

السياسات المالية .. معنا أم ضدنا..؟

وقد انتهج معظم البلدان العربية سياسة دعم التموين الغذائي كجزء من العقد الإجتماعي القائم على تلبية الدولة احتياجات المواطنين الجوهرية مقابل ولائهم لها .
وفي الستينات والسبعينات من القرن المنصرم كان هذا النوع من العقد الإجتماعي من الملامح الأساسية لأنظمة الحكم في بعض البلدان العربية التي صممت فيها البرامج التنموية على نمط النموذج الإشتراكي .
كما كانت هذه السياسة هي النهج الذي اتبعته بعض الحكومات في البلدان العربية المصدرة للبترول التي استخدمت عائدات النفط للمحافظة على استمرار النظام السياسي .
ولعل هذا يفسر انخفاض عدد من يعانون القصور الغذائي في البلدان العربية إلى مستوى أقل من عدد الفقراء الذين يعيشون على أقل من دولارين يومياً ؛ اعتباراً من أواخر السبعينات في القرن الماضي بدأت بعض الحكومات في البلدان العربية غير المصدرة للنفط أولي محاولاتها لتطبيق توصيات صندوق النقد الدولي  «والتخلي عما أصبحت تسمية » عبء الدعم .
ولكن سرعان ما أدركت مدى صعوبة هذة المهمة عندما أدت محاولات إلغاء الدعم إلى إندلاع حركات الشغب والاضطرابات بين الأهالي علة نطاق واسع في تونس ومصر والمغرب وحتى في الجزائر ( وهي من البلدان المصدرة للنفط ).
 

سياسة تحرير السوق

وعلى الرغم من ذلك دأبت البلدان العربية بمعظمها منذ ثمانينات القرن الماضي على المضي قدماً في تحرير الإقتصاد وإتباع سياسة تحرير السوق ، ولن نصدر الأحكام في هذا السياق على تلك السياسات لكن لا يمكن الإنكار أن هذه السياسات قد جعلت أسعار المواد الغذائية عرضة لتقلبات الأسعار العالمية .

«فمنذ العام 2006 كان على البلدان المستوردة للمواد الغذائية أي الأغلبية العظمى من دول المنطقة ، أن تتحمل تعاظم أسعار الغذاء في أسواق العالم ، وتعزو منظمة » الفاو والبنك الدولي الازدياد المتسارع في الأسعار إلى أسباب شتى بينها التغيرات المناخية التي تركت آثارها في الإنتاج في البلدان المصدرة للحبوب ، والاستنضاب المكثف لمخزون الحبوب وتعاظم استهلاك اللحوم ومنتجات الألبان في الإقتصادات الناشئة ، ولا سيما في الصين.

ومن الأسباب الرئيسية الأخرى تزايد الطلب في الولايات المتحدة وأوروبا على الوقود الحيوي المشتق من الحبوب ، نظراً إلى ارتفاع كلفة النفط والنقل .

وقد أضيف ذلك كله إلى شيوع المضاربة على الحبوب في البورصات العالمية فارتفع سعر القمح ارتفاعاً حاداً بمعدل 200 % ، تواكب مع ارتفاع أسعار السلع الغذائية عموماً والتي بلغت نسبة 75 % منذ مطلع القرن الحادي والعشرين وتفاقمت أزمة الإمداد الغذائي العالمية المترتبة على ذلك في عدة بلدان عربية جراء سوء الإدارة الحكومية لبرامج دعم الغذاء فيها .

والواقع أنه ليس ثمة ما يفرض الالتزام بالتطبيق الشامل لمثل هذة السياسات إذا كانت ستفضي إلى انتشار الجوع

والقصور الغذائي .

وثبت تجربة بعض الدول ولا سيما البرازيل والمكسيك في أمريكا اللاتينية أن من الممكن انتهاج سياسات اقتصادية ليبرالية مع تأمين الحد الأدنى من الغذاء للفقراء.


 

مواضيع ذات صلة :