آراء وأقلام نُشر

حكومة الوفاق وحقل الألغام

ورثت حكومة الوفاق الوطني جبلاً شاهقاً ومتنوعاً ومعقداً من الموروثات والمشاكل والأعباء تراكمت على امتداد عقود من الزمن، يكاد بعضها يكون عصياً على الحل أو أن حله يحتاج إلى جهود جبارة وتضحيات جسيمة وتدخل عاجل لا يقبل التأجيل، وعدم مقاربتها وتحديها يعني الفناء لهذه الأمة العريقة في الـتاريخ.
وهذه التحديات تتنوع بين الفقر الواسع النطاق والبطالة الخانقة، وانخفاض مستوى الدخول، ومحدودية الموارد المالية والاقتصادية واعتمادها على مصدر وحيد والتخلف الاقتصادي والاجتماعي، وشح الموارد المائية وتدهور البيئة الطبيعية، وتدني مستوى المهارات والكفاءات على كافة المستويات، وتخلف المستوى الصحي والتعليمي. وبعبارة موجزة: تخلف مؤشر التنمية البشرية ورأس المال البشري، وتخلف الهياكل الارتكازية للتنمية، وانعدام الاستقرار، بما في ذلك الاستقرار الأمني والسياسي... والقائمة طويلة.
في هذا المقال سنسلّط الضوء على مشكلة رئيسية واحدة فقط، وهي كيف يتسنى لحكومة الوفاق الوطني حشد الموارد المالية من المصادر المحلية لمجابهة أكثر التحديات حرجاً وخطراً كالفقر والبطالة التي تنهش جسد هذا المجتمع المثخن بالجراح. وحتى تبدو مقاربتنا للمشكلة مبررة وحجتنا قوية، ننطلق من مشكلة واحدة واسعة النطاق وهي قضية الفقر. حيث يبلغ اليوم عدد السكان تحت خط الفقر نحو 50 بالمائة من السكان على أقل تقدير إن لم يكن 60-70 بالمائة، غير أنه لا توجد إحصائيات رسمية اليوم يمكن الاستناد عليها. وهذا يعني أن هناك نحو 12.5 مليون يمني على الأقل رابضون تحت خط الفقر الوطني. ومن أجل تخفيض هذا العدد بمقدار النصف، سوف نحتاج إلى عشر سنوات، إذا استطاعت الحكومة اليمنية أن تحقق نمواً اقتصادياً لا يقل عن 7.2 بالمائة سنوياً في المتوسط هو أمر لم تتمكن أي حكومة يمنية سابقة منذ قيام الوحدة بلوغه حتى الآن، مع العلم أن النمو الاقتصادي السائد اليوم هو (-3) بالمائة حسب أكثر التقديرات تواضعاً.
وفي حال عملت الحكومة اليمنية على استعادة النمو الذي كان سائداً خلال الخمس سنوات الماضية البالغ 4.5 بالمائة، فإنها بالكاد تستطيع أن تخفض معدل الفقر إلى 33 بالمائة بدلاً عن 50 بالمائة، إذا سار هذا النمو دون تراجع ولمدة عشر سنوات متلاحقة. وفي كلا الحالتين تحتاج الحكومة اليمنية لتحقيق النمو المستدام الذي من شأنه تجفيف منابع الفقر إلى استثمارات كبيرة، وحكومة تتمتع بالنزاهة والشفافية والكفاءة. ودعونا نفترض أن هذه الحكومة بهذه المواصفات متاحة الآن وفي المستقبل القريب. ولكن من أين لنا أن نأتي بتلك الموارد الضخمة لتحقيق هذا النمو والحفاظ عليه لمدة عشر سنوات متتالية.
أتناول في هذا المقال قضية ساخنة وحرجة كاقتصادي مهني، مجرد عن النوازع والأهواء الأيدلوجية والسياسية وهي قضية دعم المشتقات النفطية، التي يتردد بعض السياسيين في الحديث عنها بوضوح وشفافية وجراءة ومسؤولية وطنية.
أنفقت الحكومات السابقة على الدعم أكثر بكثير مما أنفقته على برامج التخفيف من الفقر، ومكافحة البطالة والضمان الاجتماعي والخدمات الاجتماعية الصحية منها والتعليمية. ومع ذلك فان 77 بالمائة من هذا الإنفاق يذهب إلى غير الفقراء. وفوق كل هذا فإن تكاليف الدعم على المشتقات البترولية يكلف الدولة أكثر من عشرة أضعاف الإنفاق المخصص لبرامج التخفيف من الفقر (صندوق الرعاية الاجتماعية، الصندوق الاجتماعي للتنمية، وبرامج الأشغال العامة). ونكتشف هنا أن الحكومات السابقة أنفقت أكثر من عشرة أضعاف ما أنفقته على البرامج التي لم يكن ينتفع منها سوى 23 بالمائة من السكان الفقراء. وفي المقابل فإن تلك البرامج المستهدفة للفقراء مباشرة تصل إلى نسب أعلى من السكان الفقراء (صندوق الرعاية الاجتماعية 52 بالمائة، التحويلات العامة الأخرى 49 بالمائة والتحويلات الداخلية 45 بالمائة).
ويقدر حجم نفقات الدعم التي تتكفل بها الدولة بين 3-4 مليارات دولار سنوياً، بحسب أسعار المشتقات النفطية في السوق العالمية، أو ما يعادل 11-12 بالمائة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، وهذه النسبة تتجاوز من حيث القيمة النفقات التنموية وبند الأجور والمرتبات، أو كافة النفقات الاجتماعية. ثلث قيمة هذا الدعم يستهلك لاستخدام الكهرباء. يسبب الدعم ضياع موارد مهولة على المجتمع، فضلاً عن خلق تشوهات هيكلية وسعرية في جسد الاقتصاد اليمني. هذا الضياع ينجم بدرجة أولى عن النفقات في الميزانية التي تتجاوز المكاسب التي يحصدها المستهلكون، بالإضافة إلى الخسائر الناتجة عن تهريب الديزل إلى البلدان الأفريقية المجاورة حيث أسعار الوقود تكون أعلى منها في اليمن. هناك طابور من المهربين والفاسدين الذي يستأثرون بالقسم الأكبر من هذا الدعم ويتسرب الفتات منه إلى الفقراء والمحتاجين، وفي الوقت نفسه يحرم الدولة من موارد هائلة حريٌ بها أن تخصص لاحتياجات تنمية المجتمع. ويكفي أن نقول أن حجم دعم المشتقات النفطية لمدة عامين يعادل أكثر من ما خصصه مجتمع المانحين لليمن عام 2006 في مؤتمر لندن ولفترة خمس سنوات والتي لم تصل في نهاية المطاف إلى حضن المجتمع، هذا فضلاً عن ما سببه ذلك من إضرار بصورة اليمن والإنسان اليمني كمعتمد على الآخرين، وسلب استقلالية قراره السياسي.
ومن هنا تصبح مساءلة مناقشة قضية دعم المشتقات النفطية بروح المسؤولية الوطنية، والنظرة الموضوعية الاقتصادية والاجتماعية أمر ملح أكثر من أي وقت مضى. غير أن البعض قد يؤولها على أن ضبطها أمر يخل بمصلحة الفقراء والسعي لرميهم في العراء. وفي الواقع أن العكس هو الصحيح تماماً. فدعم المشتقات النفطية يستحوذ على ثلث الموازنة العامة للدولة، وعملياً هو عبارة عن سحب غطاء الدفء والأمان عنهم لينعم به غيرهم من الأثرياء والمهربين. إذ إن خمسة أرباع هذا الغطاء يتدثر به القلة الغنية، بينما الشريحة الواسعة من السكان لا ينالها سوى الخمس، بحيث يكاد يغطي أصابعهم فيما تظل أجسادهم عارية بلا غطاء عرضة للرياح وحرارة الشمس وذرات الغبار. وإعادة النظر في هذه المساءلة يعنى إعادة النظر في توزيع أثر الغطاء داخل المجتمع.
صحيح أن الدعم يستهدف حماية الفقراء، لكن التقديرات تشير إلى أنه يجنب فقط 8 بالمائة من السكان الوقوع في براثن الفقر سواء من خلال الأثر المباشر أو غير المباشر لبقاء الأسعار متدنية عن المستوى الذي يمكن أن تبلغه في حال غياب مثل هذا الدعم. فيما يظل 42 بالمائة واقعين في مخالب الفقر. أملي أن يحظى هذا الموضوع بنقاش موضوعي وهادئ مجرد من النوازع والأهواء.

 
المصدر أونلاين

 


 

مواضيع ذات صلة :