آراء وأقلام نُشر

الأبعاد الاستراتيجية والاقتصادية لقرارات هيكلة القوات المسلحة‮ ‬

 

 

يمثل‮ "‬بناء جيش وطني‮ ‬قوي‮ ‬لحماية البلاد وحراسة الثورة ومكاسبها‮" ‬أحد أهداف الثورة اليمنية،‮ ‬وأحد المتطلبات والشروط الضرورية للحفاظ على المصالح الوطنية لليمن وكذلك لتحقيق النمو الاقتصادي‮ ‬والتنمية المستدامة،‮ ‬المتكاملة والشاملة‮. ‬وقد ساهمت الاختلالات العديدة التي‮ ‬رافقت بناء القوات المسلحة خلال السنوات الماضية في‮ ‬تهديد المصالح الوطنية نتيجة عدم الأخذ في‮ ‬الاعتبار الموقع الاستراتيجي‮ ‬لليمن وطول سواحله البحرية،‮ ‬حيث تم إهمال القوات البحرية والجوية،‮ ‬وما ترتب على ذلك من ظهور فراغات عسكرية وأمنية في‮ ‬المناطق الصحراوية لليمن وفي‮ ‬شريطها الساحلي‮ ‬البحري‮ ‬الطويل على البحر الأحمر والمحيط الهندي،‮ ‬مترافقاً‮ ‬مع فراغ‮ ‬تنموي‮ ‬وسياسي‮ ‬كبير في‮ ‬هذه المناطق،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬دفع‮ - ‬ويدفع‮ - ‬العديد من القوى والدول الإقليمية والدولية إلى الاستفادة من هذا الفراغ‮ ‬لتحقيق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية من خلال محاولتها ملء هذا الفراغ‮ ‬والاستفادة منه بصورة أو بأخرى‮. ‬وعلى المستوى الوطني‮ ‬شكل ضعف وغياب الاستقرار الأمني‮ ‬أحد عوامل التخلف الاقتصادي‮ ‬والتنموي‮ ‬في‮ ‬بلادنا‮. ‬

وفي‮ ‬هذه المقالة سنحاول إبراز،‮ ‬بإيجاز،‮ ‬الأبعاد الاستراتيجية والاقتصادية لعملية هيكلة القوات المسلحة والتي‮ ‬ستساهم في‮ ‬ضمان المصالح الوطنية لليمن على المستوى الإقليمي‮ ‬والدولي،‮ ‬على أن‮ ‬يتم تناول هذه الأبعاد على المستوى الوطني‮ ‬في‮ ‬الأسبوع القادم إن شاء الله‮. ‬

فمن المعروف بأن مصالح القوى الإقليمية والدولية في‮ ‬اليمن تتسم بالتشابك والتعقد وتساهم بصورة أساسية في‮ ‬الدفع باتجاه تلك القوى لتحقيق مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية وضمان استمرارها في‮ ‬اليمن‮. ‬وبدون شك فإن عملية هيكلة القوات المسلحة على أسس وطنية سوف تساهم من ناحية في‮ ‬تعزيز مكانة اليمن إقليميا ودوليا،‮ ‬وفي‮ ‬الوقت نفسه حماية المصالح الوطنية لليمن‮. ‬فمن ناحية أولى فإن موقع اليمن الاستراتيجي‮ ‬والجغرافي‮ ‬الفريد في‮ ‬جنوب الجزيرة العربية‮ ‬يجعل من بلادنا العمق الاستراتيجي‮ ‬لمنطقة الخليج العربي،‮ ‬التي‮ ‬تعتبر أهم منطقة منتجة ومصدرة للنفط والغاز الطبيعي‮ ‬في‮ ‬العالم كونها تحتوي‮ ‬على حوالي‮ ‬62٪‮ ‬من الاحتياطي‮ ‬العالمي‮ ‬المؤكد للنفط،‮ ‬والذي‮ ‬يتوقع أن‮ ‬يستمر إنتاجه لمدة ثمانين عاماً‮ ‬على الأقل،‮ ‬وكذلك على حوالي‮ ‬40٪‮ ‬من الاحتياطي‮ ‬المؤكد للغاز الطبيعي‮. ‬كذلك تعتبر منطقة الخليج العربي‮ ‬سوقاً‮ ‬رئيسية وأساسية لمنتجات وخدمات الدول الغربية وفي‮ ‬مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية،‮ ‬بما في‮ ‬ذلك السلاح،‮ ‬حيث تمثل دول مجلس التعاون الخليجي‮ ‬الست أهم الدول المستوردة للسلاح في‮ ‬العالم‮. ‬وبعد أن كان الصراع السياسي‮ ‬الأيديولوجي‮ ‬هو الصراع السائد في‮ ‬فترة الحرب الباردة،‮ ‬اصبح الصراع الاقتصادي‮ ‬وصراع المصالح‮ ‬يحتل المرتبة الأولى في‮ ‬أولويات النظام الدولي‮ ‬المعاصر،‮ ‬ولذلك أصبحت منطقة الشرق الأوسط،‮ ‬وبالذات منطقة الخليج العربي‮ (‬بما فيها اليمن‮) ‬تحتل بؤرة الاهتمام في‮ ‬السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية‮. ‬

ويتعزز هذا الموقع الاستراتيجي‮ ‬بالأهمية الجغرافية الاستراتيجية لمضيق باب المندب،‮ ‬والذي‮ ‬يشكل أحد المضايق البحرية الهامة على خريطة الملاحة العالمية لأنه المعبر الرئيسي‮ ‬لتدفق النفط من دول الخليج العربي‮ ‬إلى الدول الصناعية الكبرى‮ (‬حوالي‮ ‬3‭.‬5‮ ‬مليون برميل‮ ‬يومياً‮) ‬تشكل ما‮ ‬يزيد عن‮ ‬4‭.‬2٪‮ ‬من الطلب العالمي‮ ‬على النفط ويتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى حوالي‮ ‬5٪‮ ‬في‮ ‬العام‮ ‬2030م‮.‬

وتشكل القرصنة البحرية في‮ ‬خليج عدن والتي‮ ‬تنامت بشكل ملحوظ منذ نهاية‮ ‬2006م وما أدت إليه من انتشار عسكري‮ ‬واسع للسفن والمدمرات العسكرية البحرية للقوى الكبرى الإقليمية والدولية مؤشراً‮ ‬على مدى أهمية مضيق باب المندب في‮ ‬الملاحة البحرية العالمية،‮ ‬وفي‮ ‬الوقت نفسه‮ ‬يثير تساؤلاً‮ ‬حول مدى استغلال هذه القوى لظاهرة القراصنة للانتشار العسكري‮ ‬في‮ ‬هذه المنطقة البحرية في‮ ‬خليج عدن‮. ‬

ويمثل الموقع الاستراتيجي‮ ‬لليمن ثروة اقتصادية وتنموية هامة لم نتمكن من الاستفادة منها حتى الآن لعوامل وأسباب محلية وخارجية،‮ ‬يأتي‮ ‬في‮ ‬مقدمتها المنطقة الحرة في‮ ‬عدن،‮ ‬خاصة في‮ ‬ظل انعدام الاستقرار الأمني‮ ‬والسياسي‮ ‬في‮ ‬اليمن،‮ ‬بما في‮ ‬ذلك ضعف القوات البحرية‮. ‬وإذا كانت المناطق الحرة تعد إحدى الوسائل الاقتصادية والاستثمارية الرامية،‮ ‬وأداة من أدوات تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وحفز وتنشيط النمو الاقتصادي‮ ‬من خلال ما تتيحه هذه المناطق من إمكانيات وفرص لاستخدام الموارد المحلية ونقل التكنولوجيا والخبرات الفنية والإدارية،‮ ‬وتعزيز الصادرات السلعية والخدمية والصادرات‮ ‬غير التقليدية،‮ ‬وتنشيط قطاعي‮ ‬النقل والخدمات،‮ ‬ومن خلق لفرص عمل جديدة ومن رفع وتحسين مهارات العمالة الوطنية‮. ‬فإن الموقع الجغرافي‮ ‬يشكل أحد أهم مقومات نجاح هذه المناطق‮. ‬وتاريخياً،‮ ‬تعتبر المنطقة الحرة في‮ ‬عدن من أقدم وأهم المناطق الحرة،‮ ‬حيث تم إعلان ميناء عدن ميناءً‮ ‬حراً‮ ‬في‮ ‬عام‮ ‬1850م،‮ ‬ليصبح في‮ ‬مطلع عقد الستينيات من القرن العشرين ثاني‮ ‬أهم ميناء في‮ ‬العالم بعد ميناء نيويورك،‮ ‬وذلك قبل الانقطاع الحضاري‮ ‬الذي‮ ‬حدث بعد عام‮ ‬1967م‮. ‬

ولذلك‮ ‬يمكن أن تشكل المنطقة الحرة في‮ ‬عدن فرصة اقتصادية واستثمارية لليمن إذا ما توفرت لها عوامل الأمن والاستقرار وكذلك الأمر نفسه بالنسبة للجزر العديدة سواء في‮ ‬البحر الأحمر أو المحيط الهندي‮. ‬يضاف إلى ذلك تشكل خدمات نقل النفط من دول الخليج العربي‮ ‬أحد مقومات تكامل اليمن مع هذه الدول‮. ‬

يضاف إلى ذلك فإن طول الساحل اليمني‮ ‬بثرواته السمكية والأحياء البحرية ثروة اقتصادية وغذائية كبيرة لليمن أصبحت مطمعاً‮ ‬لكل السفن التي‮ ‬تأتيها من كل اتجاه في‮ ‬ظل‮ ‬غياب قوات بحرية قوية‮. ‬كذلك اصبحت اليمن معبراً‮ ‬لتهريب البشر والسلع الممنوعة بما في‮ ‬ذلك المخدرات،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬دفع بعض دول الجوار لإقامة الحواجز والموانع على حدودها مع بلادنا‮. ‬وبدون شك فإن الفراغ‮ ‬الأمني‮ ‬برا وبحرا في‮ ‬بلادنا أحد الأسباب والدوافع لذلك‮. ‬

كذلك،‮ ‬سوف تساهم إعادة بناء قواتنا المسلحة في‮ ‬تقليل مخاطر الصراعات الإقليمية مع المصالح الغربية التي‮ ‬جعلت من اليمن إحدى ساحاتها،‮ ‬مما انعكس سلباً‮ ‬على اليمن سياسياً‮ ‬واقتصادياً‮ ‬وساهم في‮ ‬تقويض أمنها واستقرارها‮. ‬ويشكل الصراع الإيراني‮ ‬مع الدول الغربية مثالاً‮ ‬على ذلك‮. ‬فإيران تسعى إلى فرض هيمنتها على منطقة الخليج العربي‮ (‬تطلق عليه إيران‮ "‬الخليج الفارسي‮")‬،‮ ‬ومواجهة النفوذ والوجود العسكري‮ ‬الأمريكي‮ ‬والغربي‮ ‬في‮ ‬المنطقة‮. ‬في‮ ‬المقابل تركزت اهتمامات السياسة الأمريكية منذ العام‮ ‬1949م على حماية مصالحها الاقتصادية والنفطية في‮ ‬منطقة الخليج العربي‮ ‬لضمان السيطرة على سوق النفط العالمي،‮ ‬وبالتالي‮ ‬العمل على منع وجود قوات معادية للولايات المتحدة الأمريكية وتهديدات محتملة للمنطقة،‮ ‬داخلية أو خارجية،‮ ‬قد تؤثر على إمدادات النفط والغاز أو تسيطر على نفط هذه المنطقة‮. ‬وفي‮ ‬ظل تنامي‮ ‬الصراع الإيراني‮ ‬الأمريكي‮ ‬وتزايد القدرة النووية والعسكرية الإيرانية،‮ ‬أصبح الخطر الإيراني‮ ‬يشكل تهديداً‮ ‬مباشراً‮ ‬على استقرار دول منطقة الخليج العربي‮ ‬خاصة بعد سقوط نظام صدام حسين‮. ‬

وفي‮ ‬ظل تنامي‮ ‬هذا الخطر وحالة الاستقطاب الإقليمي‮ ‬الذي‮ ‬تشهده المنطقة العربية والعلاقات الوثيقة التي‮ ‬تربط اليمن بالولايات المتحدة والدول الغربية عموماً‮ ‬وجدت إيران ضالتها في‮ ‬اليمن،‮ ‬كون تدخلها‮ ‬يحقق لها ثلاثة أهداف في‮ ‬وقت واحـد تتمثل في؛ تهديد أمن واستقرار المملكة العربية السعودية،‮ ‬وتهديد مصالح الولايات المتحدة من أجل أن تدفعها إلى تقديم تنازلات جوهرية فيما‮ ‬يتعلق بحق إيران في‮ ‬امتلاك الطاقة النووية والاعتراف كذلك بحقها في‮ ‬لعب دور سياسي‮ ‬في‮ ‬المنطقة‮.‬

ويتمثل الهدف الثالث في‮ ‬محاولة إيران وبعض القوى الغربية في‮ ‬إضعاف قوة الدولة اليمنية اقتصادياً‮ ‬وعسكرياً‮ ‬وسياسياً‮ ‬باعتبارها تشكل البعد الاستراتيجي‮ ‬والمخزون البشري‮ ‬لدول مجلس التعاون الخليجي‮ ‬الست،‮ ‬حيث ترى في‮ ‬التقارب اليمني‮ ‬الخليجي‮ ‬تهديداً‮ ‬لمصالحها الاقتصادية والسياسية‮.‬

كلنا أمل بأن تشكل قرارات الأخ رئيس الجمهورية نقطة تحول جوهرية في‮ ‬بناء‮ ‬يمن قوي‮ ‬وقادر على تحقيق مصالح اليمن الوطنية والحفاظ عليها،‮ ‬وأن‮ ‬يحفظ بلادنا من طمع الطامعين ويجعل كيدهم في‮ ‬نحورهم،‮ ‬إنه على ما‮ ‬يشاء قدير‮. "‬إن الله لا‮ ‬يغير ما بقومٍ‮ ‬حتى‮ ‬يغيروا ما بأنفسهم‮" ‬صدق الله العظيم‮.‬

tfussail@gmail.com


 

مواضيع ذات صلة :