آراء وأقلام نُشر

المضمون الاقتصادي للنموذج التنموي (1-3)

 

 

الانتقال وتعددية قطاعات الملكية الاقتصادية والبرامج الاستراتيجية الاقتصادية. وحيث يتطلع الشعب اليمني إلى ما سيقرره الحوار الوطني الشامل من رؤى وسياسات لبناء اليمن الجديد فإنه قد آن الأوان لإحداث تحول وانتقال حقيقي في بنية الاقتصاد الوطني من اقتصاد ريعي يعتمد على النفط بصورة أساسية إلى اقتصاد انتاجي حقيقي يقوم على تنوع مصادر الدخل والإنتاج وحشد الموارد الذاتية لتحل محل الموارد الخارجية تدريجياً إضافة إلى تعميق ثقافة الإدخار والاستثمار بغية تكوين طاقات إنتاجية جديدة وكبيرة وترشيد ثقافة الاستهلاك العام والخاص .

فالاقتصاد الوطني ما زال يولد نمواً اقتصادياً ضعيفاً وغير مستدام ويعتمد على النفط بصورة رئيسية ، ويعاني كذلك من اختلالات كبيرة بين قطاعات الإنتاج السلعي وقطاعات الإنتاج الخدمي.

إن عملية التحول إلى الاقتصاد الحقيقي تتطلب :

* التركيز على القطاعات الأكثر إنتاجية والواعدة. وبما يمكن من تحقيق فرص عمل منتجة تقضي على البطالة وتلبي الحاجات الأساسية للمواطنين.

* الإنفاق على القطاعات الاجتماعية باعتباره استثماراً في رأس المال البشري.

* * أستاذ الاقتصاد بجامعة صنعاء – عضو الحوار الوطني الشامل – رئيس المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية.

ويعتمد انجاز هذا المضمون على نسق تعاوني فاعل وتكاملي بين قطاعات الملكية الخاصة في إطار التعددية الاقتصادية لقطاعات الملكية الاقتصادية، وتحديد الأدوار مع مراعات المرونة في طبيعة الأدوار كما يعتمد على نسق أخلاقي من منظومة القيم تأتي في مقدمتها الحرية الاقتصادية المسئولة الناظمة لدور الأسواق في تخصيص الموارد واستخداماتها وفي ظل قيمة التعاون والشراكة التي تنظم أدوار قطاعات الملكية الاقتصادية الخاصة والعامة والمختلطة والأهلية والتعاونية في انجاز الأهداف والمقاصد الأساسية للاقتصاد الوطني.

فالقطاع الخاص يتوفر له دور رائد وميزة نسبية في مجالات الإنتاج السلعي – الزراعي والسمكي والصناعي التحويلي والسياحة وفي الشراكة أيضاً مع القطاع العام في مجالات الخدمات الأساسية ومجالات التنمية البشرية وكذلك في الشراكة مع القطاع الأهلي الخيري في مجالات التنمية الاجتماعية ومجابهة مشكلتي الفقر والبطالة، كما تتوفر له فرص في الاستثمار في مجالات الإنتاج التقني والمعرفي، وحتى يكون دور القطاع الخاص فاعلاً وكفؤاً فإنه لا بد أن يقوم على أساس الحرية الاقتصادية التي من شأنها أن تحقق تنافسية قوى السوق النافية للاحتكار.

ويتوفر للقطاع الخاص كذلك فرص واسعة في إنشاء المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تمكن من استيعاب العمالة وتنمية الإنتاج القابل للتصدير وبالتركيز على القطاعات الأكثر إنتاجية.

إضافة إلى فرص المشاركة مع القطاع العام من خلال الاستثمار المشترك الذي يعرف بالقطاع المختلط وذلك في مجالات إنتاج السلع أو الخدمات العامة والتي تُعرف اقتصادياً على أنها سلع عامة ذات أغراض مزدوجة كالتعليم والصحة والكهرباء.

ويمكن أن تتأسس الشراكة وفقاً "للملكية الدوارة" التي تقوم على أدوات التمويل والاستثمار الإسلامي التي عرضتها في مقال سابق.

كما يمكن أن تتم هذه الشراكة مع القطاع العام من خلال الإدارة دون التملك أو الإنشاء والتشغيل، ونقل السيطرة (Bot) ومن خلال أيضاً بيع الحكومة لحصص من أسهمها في الشركات أو المؤسسات العامة للحصول على موارد مالية تمكنها من زيادة الطاقة الإنتاجية لهذه المشروعات .

ومن جانب آخر ، لا يمكن للقطاع الخاص أن يتجاهل مبدأ العدالة الاجتماعية، فاستدامة أعمال القطاع الخاص مرهون بتعظيم المصالح والمنافع المشتركة بين القطاع الخاص والمجتمع.

فلا يكفي أن يعظم القطاع الخاص ربحيته وعائده على رأس المال مالم كذلك يحصل العاملين على الأجر المناسب والعادل، ولن يكون هناك نمواً قابلاً للاستدامة في المدى المتوسط والطويل ما لم تكن الشراكة بين رأس المال والعمل في إطار القطاع الخاص قائمة على أساس العدل وإلا فإن علمية التنمية لن تؤدي إلا إلى مزيد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، التي منها ارتفاع نسب الفقر والبطالة، إن نجاح القطاع الخاص مرتبط بمستوى نمو دخل أفراد المجتمع الذي يحدد بدوره نمو أعمال القطاع الخاص.

وبطبيعة الحال، فإنه لا يمكن إغفال العلاقة المعتلة المرتبطة بالشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص التي كانت سمة العقود الماضية ، فقد ظلت الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص محل التباس وتجاذب اقتصادي وسياسي، فمن الناحية النظرية يؤكد الدستور اليمني، والتشريعات الاقتصادية على دور قائد وكبير للقطاع الخاص في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن هذا الدور ظل ملتبساً في الممارسة العملية ، فما زالت هناك ضبابية كبيرة فيما يتعلق بتوزيع الأدوار بين القطاع الخاص ودور الدولة، لقد انسحبت الدولة من مجالات كثيرة وتركت العبء على القطاع الخاص. تقليدياً القطاع الخاص يعمل في قطاعات الزراعة والصناعة والتجارة ويساهم بتشغيل نحو 90% من القوى العاملة، إلا أن إسهامه في تكوين الناتج يتضاءل من فترة إلى أخرى، فقد انخفض من 60 % في العام 95م إلى 44% في الفترة 2001م-2003م، قبل أن يرتفع إلى 50% في الفترة 2009م، ومن جانب آخر تركزت مجالات الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص على قطاعات البنية التحتية، والتعليم، والصحة، والرعاية الاجتماعية، إلا أن تقييم مستوى فعالية هذا النوع من الشراكة يشير إلى تعثرها وتباطئها لاعتبارات وأسباب مختلفة، منها: ضعف البنية التحتية وتدهورها المستمر، مما يسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج وإضعاف تنافسية القطاع الخاص اليمني. وهذه المشكلة ترتبط بمسألة أخرى هي اعتماد القطاع الخاص على الإنفاق العام الاستثماري للدولة، الذي انخفض كنسبة من إجمالي الموازنة إلى أقل من 20% في بعض السنوات، مما أضعف كثيراً البنية التحتية، ومن جهة أخرى فإن تدهور مؤشرات الاستقرار الاقتصادي، في السنوات الماضية مثل تقلبات سعر الصرف والفائدة، وتصاعد التضخم، قد شكل مناخاً طارداً للاستثمار، ووضع عوائق إضافية أمام الشراكة بين القطاع الخاص والحكومة ، فتدهور هذه المؤشرات يكبح المنافسة في السوق، ويحجم توسع الاستثمارات الخاصة، ويركزها بأيدي قلة من المستثمرين ، مما جعل النشاط الاقتصادي الخاص رهينة الاحتكار، وقد كان ذلك مدمراً للشراكة بين القطاع الخاص والدولة. ولا يستثنى من ذلك البعد السياسي للشراكة التي لم تكن مشجعةً لشراكة فاعلة لاعتبارات منها: غياب رؤية واضحة وجادة للشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص، فقد هيمن على هذه الشراكة النزوات السياسية الانتهازية، كما بدى ذلك في تكوين شراكات مشبوهة بين بعض رجال القطاع الخاص ومتنفذين في السلطة، في إطار سياسة الجمع بين السلطة والتجارة التي أصبحت من أبرز مظاهر الفساد المتصاعد في اليمن.

كما لم تكن السياسات الاقتصادية للدولة واضحة ومفهومة للقطاع الخاص، لأنه لم يشارك كمؤسسة مستقلة وفاعلة في صناعتها أو مناقشتها، وما كان يتم من مناقشات أو لقاءات فغالباً ما تنتهي إلى تسويات تحكمها الاعتبارات السياسية الانتهازية وليس الاعتبارات الاقتصادية للشراكة، ومما لا شك فيه أن تذبذب هذه الشراكة ، ومعوقات بناء شراكة صحيحة، قد كان له أثر سلبي على مصداقية شراكة الحكومة الخارجية، حيث ألقت بظلالها على مصداقية السياسات الاقتصادية الحكومية. حيث نظر القطاع الخاص الأجنبي أن هناك معوقات أخرى للشراكة، منها استشراء الفساد، وعدم الاستقرار، وضعف القضاء وجهاز التمويل، وتدني مهارات القوى البشرية ، وكذلك منافسة الموانئ الأخرى للمنطقة الحرة بعدن.

وعلى أية حال، فإن المشكلات المرتبطة بشراكة الحكومة مع القطاع الخاص تؤثر سلباً على شراكة اليمن الخارجية من جوانب مختلفة، فالمناخ الضعيف للاستثمار وغير المواتي، يرسل إشارة سلبية لبناء شراكة مثمرة بين القطاع الخاص المحلي والقطاع الخاص الأجنبي، كما أن البيئة السياسية المحفوفة بالمخاطر تعزز حالة عدم اليقين والتأكد، مما سبب تدني تدفقات الاستثمارات الخاصة الأجنبية، وكان لتغييب إشراك القطاع الخاص في اتفاقيات التعاون الإقليمي والدولي، أن اتسعت فجوة الشراكة والتعاون بين القطاع الخاص المحلي والقطاع الخاص الأجنبي، وهذا ما بدا واضحاً في أن الاستثمارات الخاصة الأجنبية مازالت محدودة في القطاعات الإنتاجية والخدمية وفي المناطق الحرة، وفي القطاعات الواعدة في الاقتصاد اليمني. (في مقالنا القادم سنتناول دور الدولة في النموذج التنموي الجديد).


 

مواضيع ذات صلة :