آراء وأقلام نُشر

دور الدولة الاقتصادي في النموذج التنموي: الفاعلية أولاً 2-3

 

ظل دور الدولة الاقتصادي لأكثر من ستة عقود رهين التجاذب الفكري بين المدارس الاقتصادية المختلفة، كما تأثر هذا الدور بطبيعة واتجاهات الفلسفة الاقتصادية للنظام الاقتصادي في أي مجتمع، فالمدرسة الاقتصادية الاشتراكية في نسختها

الأصلية قد منحت الدولة حق احتكار النشاط الاقتصادي، فهي اللاعب الوحيد والقادر على إدارة النشاط الاقتصادي من خلال التخطيط المركزي، من ثم فإنها صاحبة الحق الحصري في امتلاك موارد ووسائل الإنتاج وأدواته، وفي إطار المدرسة الاقتصادية الرأسمالية، اتخذت الوظيفة الاقتصادية اتجاهاً متغيراً تبعاً لتطور الفكر الاقتصادي في إطار المدارس الاقتصادية الرأسمالية ، فالمدرسة الاقتصادية الكلاسيكية حددت وظيفة اقتصادية حيادية للدولة، وتبنت تبعاً لذلك مفهوم الدولة الحارسة، التي تمارس وظيفة تقليدية تقتصر على مجالات الخدمة الأساسية (الدفاع والأمن والقضاء) مع ترك النشاط الاقتصادي للأفراد بصورة جوهرية.

ومع تعرض النظام الاقتصادي الرأسمالي لأزمات اقتصادية متتالية، ظهر مفهوم الدور التدخلي للدولة في النشاط الاقتصادي كأداة فاعلة في تجاوز أزمة الاقتصاد الرأسمالي، كان للفكر الاقتصادي الكينزي تأثيراً كبيراً على طرح مفهوم تبني الدور التدخلي للدولة في النشاط الاقتصادي، وقد تعزز هذا الاتجاه أيضاً بآراء اقتصاديين ينتمون إلى المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة الذين دعوا إلى مفهوم لدور الدولة يمتد إلى الجانب الاجتماعي، وقد عُرف هذا الدور بدولة الرفاه الاجتماعي كضرورة لتصويب فشل آلية السوق من جهة وضمان توزيع للدخل أكثر عدلاً من جهة أخرى ، ومع بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي وتحت تأثير " توافق واشنطن" والمؤسسات الاقتصادية الدولية (الصندوق والبنك الدوليين).

برز مفهوم دور الدولة التصحيحي، الذي يقوم على حجم أقل للدولة في النشاط الاقتصادي ودور كبير للأفراد والقطاع الخاص من أجل تحفيز النمو الاقتصادي الذي تعثر وتباطؤ، إضافة إلى التغلب على الاختلالات المالية والنقدية التي أحدثها التدخل الكبير للدولة في النشاط الاقتصادي في العقود السابقة.

كان التطور المتتالي في مفهوم دور الدولة الاقتصادي يتجاوز السياق الفكري الذي كان متحكماً في توصيف دور الدولة، حيث لم يعد السياق الفكري بصورة جوهرية هو الذي يتحكم في تحديد وتوصيف حجم ومستوى الوظيفة الاقتصادية للدولة، بل ظهرت سياقات أخرى أضحت أكثر جوهرية وأهمية في تحديد وتوصيف الوظيفة الاقتصادية للدولة.

وهي أربعة سياقات: (الواقعية – والفاعلية – والتعددية – ومستوى الرضا) فالسياق الواقعي يضفي مفهوماً مرناً للوظيفة الاقتصادية للدولة ، تغدو عندها الوظيفة الاقتصادية للدولة وسيلة وأداة وليست بمثابة غاية بحد ذاتها لتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع ، وعندئذ فإن هذه الوظيفة قد تزيد أو تنقص أو تثبت تبعاً لمستوى واتجاه وأولويات التطور الاقتصادي والاجتماعي لأي مجتمع ، وبالتالي فإن حجم الدور الاقتصادي للدولة يتغير من فترة إلى فترة زمنية أخرى ، كما أن تحقيق أهداف المجتمع الاقتصادية والاجتماعية هي مسئولية كل الفاعلين الاقتصاديين وهم الدولة (أو القطاع العام) بطبيعة الحال، لكن هناك فاعلين آخرين وهم القطاع الخاص – التعاوني ، الأهلي – والقطاع المختلط .

وفي حالة اليمن ، فإن الشراكة بين الفاعلين الاقتصاديين تتطلب من الناحية الواقعية التأكيد على مفهوم تعددية قطاعات الملكية الاقتصادية، فكل هذه القطاعات ( العام – الخاص – المختلط – التعاوني – الأهلي ) تتحمل مسئولية مشتركة في تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع. هذه الشراكة بين الفاعلين الاقتصاديين لا تُبرر فقط بالسياق الفكري للنظام الاقتصادي اليمني وإنما أيضاً بالضرورة الواقعية وحالة التطور الاقتصادي والاجتماعي في اليمن.

فما زالت القدرات النسبية لقطاعات الملكية الاقتصادية ضعيفة حتى في مجال التميز النسبي لهذه القطاعات.

فالقدرات النسبية للدولة في مجال تميزها النسبي التقليدي (وظائف الأمن ، والدفاع ، والقضاء والإدارة) ما زالت ضعيفة ولذلك فإن غاية الحوار الوطني الشامل هو بناء الدولة. ونفس القول يمكن إطلاقه على قدرات القطاع الخاص التي ما زالت ضعيفة في مجال تميزه النسبي سواء القدرات الاستثمارية أو القدرات التنافسية.

إن السياق الواقعي لدور الدولة الاقتصادي لا يمكن عزله عن مفهوم تعددية القطاعات الاقتصادية وشراكتها في إنجاز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في اليمن ، فما زال ذلك هو المسار المرغوب ، وحتى تكون الوظيفة الاقتصادية للدولة في اليمن ماضية في الاتجاه الصحيح وبالمستوى المرغوب ، فإن ذلك يتطلب ضمان فاعلية دور الدولة الاقتصادي.

إن طبيعة الوظيفة الاقتصادية للدولة في اليمن هي الوظيفة الإنمائية بكل جوانبها لكن الوظيفة الإنمائية لابد أن تتكئ على ركيزة راسخة، وهي ركيزة الفاعلية، فلم يعد مهماً اليوم التساؤل عن ما هو دور الدولة الاقتصادي وإنما ما مدى فاعلية الدولة في أداء وظيفتها الاقتصادية ، لقد كانت نقاشات الفاعلية محصلة مراجعات وتقييمات لمستوى أداء الدولة لوظيفتها الاقتصادية وإخفاقاتها، بل وفشلها في تحقيق أهداف المجتمع الاقتصادية والاجتماعية في بعض البلدان سواء كان ذلك من منظور الكفاءة الاقتصادية أو منظور الكفاءة الاجتماعية، وقد أظهرت هذه التقييمات أن تلازم الفساد والاستبداد في كثير من بلدان العالم الثالث قد أفشل الوظيفة الاقتصادية للدولة عندما اقترنت هذه الوظيفة بسوء إدارة الموارد الاقتصادية للمجتمع وسوء توزيع الدخل وتوسيع التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية بين أفراد المجتمع على مستوى أفقي وجغرافي، وعندما ارتبطت أيضاً بهدر موارد المجتمع واللامبالاة بحقوق الأجيال من هذه الموارد والثروة. 

لذلك لم يكن غريباً أن تنشأ سياقات جديدة لتوصيف الوظيفة الاقتصادية للدولة من جهة ، وضمان فاعلية هذا الدور من جهة أخرى. أن مبدأ فاعلية الدولة يتكئ الآن على مفهوم الحكم الرشيد أو الحكم الجيد الذي أصبح مفهوماً منتشراً على مستوى عالمي، مع تبني البنك الدولي لمؤشرات أو معايير ستة للحكم الرشيد من شأنها أن تضبط الدور الاقتصادي للدولة وأن تكفل فاعلية هذا الدور.

فالحكم الرشيد هو مفهوم لقياس مدى فاعلية ونجاعة المؤسسات التي تُمارس بها السلطة ومنها الوظيفة الاقتصادية للدولة ولقياس هذه الفاعلية هناك ستة مؤشرات هي :

* مؤشر فاعلية إدارة الحكم الذي يقيس نوعية الخدمات العامة التي تقدمها الدولة ومنها جهاز الخدمة المدنية ومستوى استقلالها عن الضغوط السياسية ونوعية إعداد السياسات .

* مؤشر نوعية التنظيم والإجراءات الذي يقيس قدرة الحكومة على توفير سياسات وتنظيمات سليمة، تتيح تنمية وتطوير القطاع الخاص وتحفز على ذلك .

* مؤشر سيادة القانون الذي يقيس مدى ثقة الأفراد والمتعاملين بأحكام القانون ومنها نوعية إنفاذ العقود وحقوق الملكية والشرطة والمحاكم واحتمال وقوع جرائم وأعمال عنف.

* مؤشر التحكم على الفساد الذي يقيس مدى استغلال السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة، بما في ذلك أعمال الفساد صغيرها وكبيرها، ويقيس أيضاً مدى استحواذ النخبة وأصحاب المصالح الشخصية على موارد ومقدرات الدولة.

* مؤشر التمثيل السياسي والمسائلة الذي يقيس مستوى مشاركة المواطنين في انتخاب حكوماتهم وكذلك حرية التعبير وتكوين الجمعيات.

* مؤشر الاستقرار السياسي وغياب العنف والإرهاب.

* مؤشر احتمال زعزعة استقرار الحكومة بالوسائل غير دستورية أو عن طريق العنف والإرهاب.

ومن الواضح أن مؤشرات الحكم الرشيد عند تطبيقها تكفل فاعلية الدور الاقتصادي للدولة، باعتبار ذلك شرطاً أساسياً لتنمية مستدامة، حيث جاء مفهوم الحكم الرشيد كأحد أهداف تنمية الألفية التي توافق عليها قادة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في سبتمبر 2000م.

وبالتالي فلم تعد المقايضة اليوم بين دور الدولة أو دور القطاع الخاص كما أنه ليس مهماً الجدل حول مدى تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وإنما فاعلية هذا الدور أياً كان حجمه ومستواه ثم نوعية هذا التدخل.

أن فاعلية دور الدولة ونوعيته لا بد أن يؤدي في النهاية إلى تحقيق سعادة ورضاء أفراد المجتمع، وهذه السعادة لن تتحقق في مجرد انجاز معدلات مرتفعة للنمو والتنمية الاقتصادية ولا في دور اقتصادي للدولة كبيراً، كان ذلك أو محدوداً مالم يتم ضمان العدالة الاجتماعية لأفراد المجتمع ( في مقالنا القادم نعرض مجالات دور الدولة وطبيعة هذا الدور).


 

مواضيع ذات صلة :