آراء وأقلام نُشر

الشفافية في النفط والغاز لتعزيز الموازنة العامة (2-1)

 

أخيراً تنفس اليمنيون الصعداء وانفرجت أساريرهم بعد أن طمأنهم السيد ميرزا حسن المسؤول في البنك الدولي بأن الوقت الحالي غير مناسب لزيادة أسعار المشتقات النفطية. مع ذلك فإن تصريح السيد ميرزا لا يعني بأن المشكلة قد حلت، وإنما تم تأجيل هذا القرار مؤقتاً لأسباب سياسية حتى يحين الوقت المناسب، خاصة وأن الموازنة العامة للدولة تعاني من اختلالات عميقة تتسم باتساعها وتعدد أسبابها وجذورها، الأمر الذي يتطلب سياسات وإجراءات وأساليب جديدة غير تقليدية. فالمعالجات القديمة المتجددة، وفي مقدمتها رفع أسعار المشتقات النفطية، لم تؤد إلى تحسين وضع الموازنة العامة، باعتبارها مسكن مؤقت، تستسهلها الحكومات متجنبة بذلك مسؤوليتها الحقيقية من خلال اتخاذ سياسات وإجراءات قوية وحقيقية تساهم فعلاً في معالجة جذور المشكلة وأسبابها الحقيقية دون الاقتصار على مظاهرها.

وتكمن المشكلة بصورة أساسية في أن قطاع النفط يشكل القطاع الاستراتيجي الأهم في الاقتصاد اليمني منذ منتصف عقد التسعينيات من القرن الماضي، وتزايدت أهميته خلال الثمان السنوات الأولى من الألفية الثانية، ليصبح هذا القطاع هو القطاع الأكثر هيمنة على التوازنات الداخلية والخارجية والمحرك الأساسي للنمو الاقتصادي ومسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في اليمن، رغم الإصلاحات القانونية والإدارية والتنظيمية التي تمت في جانب الموازنة العامة منذ بدء برنامج التصحيح الاقتصادي والإداري في مارس 1995م وحتى الآن.

لذلك، فإن الإيرادات العامة للموازنة ما تزال تعاني من استمرار اختلال بنيانها الهيكلي نظراً لاستمرار اعتمادها الكبير على إيرادات النفط المصدر والمباع محلياً مع اتسام النظام الضريبي بالجمود النسبي. ويشير إلى ذلك تزايد أهمية الإيرادات النفطية في إجمالي الإيرادات العامة من (15.1%) عام 1994م إلى حوالي (69%) في عام 2001م، لتصل في عام 2008 إلى (73.1%). وعلى الرغم من تراجع هذه الأهمية النسبية خلال السنوات التالية (2009-2012م) بسبب الانعكاسات السلبية للأزمة المالية والاقتصادية العالمية من ناحية وعمليات التفجير المستمرة لأنابيب النفط ومحطات الغاز من ناحية أخرى، إلا أن الإيرادات النفطية ما تزال تشكل المصدر الأهم. 

وبناء على ما سبق، اعتقد بأنه يمكن زيادة الإيرادات العامة للدولة من خلال زيادة الشفافية والمساءلة في إيرادات النفط والغاز كون السرية في قطاعي النفط والغاز تمثل العقبة الرئيسية التي اعاقت تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية في اليمن خلال الفترة الماضية، على العكس من ذلك تصاحب نمو إيرادات النفط مع زيادة الفقر والفساد والصراع السياسي في اليمن، بحيث يمكن القول بأن "لعنة الموارد" قد أصابت غالبية الشعب اليمني نتيجة غياب الشفافية والمساءلة،سواءً فيما يتعلق بالعقود التي كان يتم عقدها مع الشركات الأجنبية وكذلك في المبالغ التي تدفعها الشركات للدولة، والإيرادات التي كانت تتلقاها من تلك الشركات، إلى جانب كيفية إنفاق هذه الإيرادات بما يخدم تنمية المواطنين. 

في ظل غياب الشفافية والمساءلة، بدأت الجهات المانحة تضغط على الحكومة اليمنية للانضمام إلى مبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية، في مقدمتها البنك الدولي الذي بادر في ديسمبر 2005م بتقديم مصفوفة سياسات إصلاحات واسعة للمديين القصير والمتوسط إلى الحكومة اليمنية، تضمنت انضمام اليمن إلى مبادرة الشفافية، الأمر الذي تم إدراجه في أجندة الإصلاحات الوطنية التي أقرها مجلس الوزراء خلال شهر يناير 2006م، ثم الإعلان رسميا عن التزام الدولة اليمنية بالانضمام إلى المبادرة في مؤتمر المانحين لليمن بلندن في نوفمبر 2006م.

كما جعل البنك الدولي الانضمام إلى هذه المبادرة شرطاً مسبقاً لموافقته على منحة الإصلاح المؤسسي 2007م لليمن بمبلغ 51 مليون دولار، ولذلك أكدت الحكومة اليمنية في خطابها إلى رئيس البنك الدولي بتاريخ 6 أكتوبر 2007، على أهمية الإيرادات النفطية للموازنة العامة للدولة اليمنية، وأنها ستتبع الشفافية في الموازنة العامة لتحسين الحوكمة والمساءلة وفقاً للمعايير الدولية ، بما في ذلك الانضمام إلى مبادرة الشفافية. 

ومع ذلك، فإنه رغم موافقة مجلس الوزراء في مارس 2007م على انضمام اليمن إلى هذه المبادرة، وكذلك موافقة مجلس إدارة المبادرة في أغسطس 2007م على ذلك رسمياً كـ"عضو مرشح"،ثم تشكيل مجلس اليمني للشفافية في الصناعات الاستخراجية من ممثلين عن الحكومة، منظمات المجتمع المدني وشركات النفط بغرض مراقبة وتسهيل تنفيذ هذه المبادرة، إلا أنه يمكن القول بأن الحماس الذي ظهر في عام 2007م للوفاء بمتطلبات الانضمام وما رافقه من خطوات هامة متسارعة وغير متوقعة قد أخذ في التراجع تدريجياً كلما اقترب وقت بدء الإفصاح عن المعلومات وإخضاع إيرادات النفط والغاز للتدقيق والمطابقة والمراجعة المالية. ويدل ذلك تأخر الجانب اليمني في إصدار التقرير الأول المدقق والمطابق للإيرادات النفطية للسنوات 2005-2007م والذي كان متوقعا صدوره في نوفمبر 2008م، لكنه تأخر إلى منتصف العام 2010م. ولم يصدر التقرير الثاني الذي يغطي السنوات 2008-2010م حتى الآن، حسب علمي. 

ويتمثل الأمر الأهم في أن المجلس اليمني للشفافية ظل يمارس أعماله بدون إطار قانوني، إذ لم يصدر القرار الجمهوري رقم 155 بشأن إنشاء وتنظيم المجلس اليمني للشفافية في الصناعات الاستخراجية إلا في أكتوبر 2012م، أي بعد أكثر من ست سنوات من بدء خطوات انضمام اليمن للمبادرة. ويحدد القرار الجمهوري رقم 155 الأهداف والمهام والمسؤوليات للمجلس وتنظيم أعماله وعضويته وإنشاء سكرتاريته له.

وقد تلى ذلك صدور قرار من مجلس الوزراء في ديسمبر 2012م بإدماج المبادرة في أعمال الدولة وتوفير الاحتياجات المالية لها من الموازنة العامة للدولة.

ويبرر البعض ذلك الجمود والتراخي بالمواقف المتشددة للشركات النفطية في المجلس اليمني للشفافية، وخارجه، وقد يلقي اللوم أحياناً على مواقف وأسلوب عمل بعض ممثلي المجتمع المدني ومجلس النواب وهيئة مكافحة الفساد. كذلك تلوم أطراف أخرى ممثلي الحكومة في هذا المجلس اتخاذ مواقف واضحة وصارمة تجاه محاولات الشركات المتهربة من التزاماتها بالشفافية.ومع ذلك لا تزال التساؤلات مطروحة حول مدى قدرة وحماس حكومة الوفاق الوطني على الالتزام بمبدئي الشفافية والمسألة في الموازنة العامة، وبالتالي تقديمها الدعم الكامل للمجلس اليمني للشفافية دون أن يقتصر ذلك على استيفاء بلادنا لكافة شروط ومعايير انضمام اليمن للمبادرة، وإنما يتسع ذلك إلى الالتزام بميثاق شفافية المالية العامة لصندوق النقد الدولي، وأيضا تعزيز وضع اليمن في مؤشر إدارة الموارد الذي يصدره سنوياً معهد رصد العائدات، هذه هي القضية الأساسية.

ذلك، أن نشر حسابات المدفوعات النفطية إلى الحكومة اليمنية ومؤسساتها المدققة بشكل مستقل، وبطريقة مفهومة ونشرها في وسائل يمكن الوصول إليها بسهولة. وكذا مطابقة المدفوعات والإيرادات لقطاعي النفط والغاز وفق معايير مراجعة دولية، مع نشر تقارير المطابقة وتحديد الاختلافات، تشكل خطوات إجرائية أولية هامة لتحقيق الغاية الأساسية من مبادرات الشفافية ورصد العائدات المتمثلة في"التأكد من أن إيرادات النفط والغاز يتم استثمارها في تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية"، وهو الأمر الذي سنتناوله إن شاء الله في المقال التالي.


 

مواضيع ذات صلة :