آراء وأقلام نُشر

الملف الاقتصادي.. أولويات المرحلة القادمة

 
اعتدت منذ أن كنت على مقاعد الحكومة على عدم جدية الدولة بصورةٍ عامةٍ في اتخاذ إجراءات حقيقية وذات أفق وطابع إصلاحي في سبيل إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني ووضعه على مسار النمو الاقتصادي المستدام. واعتدت بعد خروجي من الحكومة وبشكل أكبر على عدم سماع الحكومة لأي نصائح أو آراء تطرح بشأن الوضع الاقتصادي واختلالاته والذي يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، خاصة وحكومة الوفاق قد اتبعت المثل القائل "أُذن من طين وأُذن من عجين". ولكن ما استفزني مؤخراً هو دعوة كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وحثهما الحكومة اليمنية على مزيد من الإصلاحات الاقتصادية. ورغم أن الدعوة للإصلاحات الاقتصادية حقيقية وواقعية وأكثر من ضرورية، إلا أن موقف المؤسستين الدوليتين قد أصبح ومنذ عدد من السنوات يميل إلى أن يكون سياسياً أكثر منه اقتصادياً من خلال التغاضي عن أخطاء فادحة تستمر عليها الحكومة اليمنية. وقد اكتفت المؤسستان بالتنبيه إلى خطورة الأوضاع دون أن تقف موقف الطبيب الحازم الذي يُلزم مريضه باستخدام العلاج وإن كان مُراً لتفادي تطور الداء واستفحاله. وبالتالي، فإن عدم تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية حالياً -والمفترضة منذ سنوات طويلة- لاعتبارات سياسية والتحجج بعدم توفر الظروف المواتية والتي في مجملها كانت وما زالت ترتبط بالمماحكات بين الأحزاب السياسية، هذا التأخير سيضاعف من صعوبة وأعباء تنفيذ نفس الإصلاحات لاحقاً، وهو ما أوصلنا إلى الحالة الاقتصادية المزرية والتي كان بالإمكان تخفيف المعاناة وتجاوز اختلالات عديدة ومنها عجز الموازنة الذي يتواصل عند مستويات غير مأمونة، وسأتناولها بتفصيل أكثر في هذه المقالة.
وقد يستغرب البعض كلامي هذا، وبالذات الذين يعتقدون أن المؤسستين الدوليتين تفرضان دائماً برامجهما على الدول التي تتعامل معهما، بل وتتحكمان في سياسات تلك الدول وتوجهانها. ففي التصريحات المنسوبة للمؤسستين سواء بعد اجتماع واشنطن الأخير أو الفردية لمسؤولين في المؤسستين يتبين عدم دقة ما خرجت به، بغض النظر عن الأسباب والمبررات للتصريحات. فقد أشارت التصريحات إلى " النجاحات المحققة" أو "التعافي الاقتصادي" أو "التنويه بالخطوات الهامة التي اتخذتها الحكومة اليمنية لمعالجة عجز الموازنة والازدواج الوظيفي" وهي ذات العبارة التي تتكرر منذ أكثر من عشر سنوات دون تغيير ملموس على أرض الواقع. بل، والأغرب أن يصرح أحد مسؤولي صندوق النقد الدولي "...أن اليمن تبنى سياسات مالية جيدة منذ عام 2011م بدعم من الجهات المانحة مما أدى إلى انتعاش اقتصادي.."، فضلاً عن غيرها من تصريحات ومؤشرات اقتصادية مسيسة أكثر من اللازم تُضلل وتضر ولا تدفع نحو تبني إجراءات إصلاحية هي في متناول الحكومة حتى في الوضع الحالي غير المستقر. 
وقبل الدخول في تلك التفاصيل، فإني استغرب أيضاً غياب وعدم اهتمام الاقتصاديين في اليمن بما يجري حولهم وبالوضع الاقتصادي والسياسات الاقتصادية التي باتت لا تحتاج إلى خبير ليحدد اختلالاتها. وقد يعود ذلك الأمر إلى التواطؤ السياسي والصراع الحزبي الذي كان له دور رئيسي في إقصاء النشاط المؤسسي لجمعية الاقتصاديين ابتداءً ودفنها فور ولادتها منذ أكثر من عشرين سنة. ولم تستطع الجمعية منذ ذلك الزمن أن تلتقط أنفاسها وتعيد الحياة إلى نشاط شريحة هامة من الاقتصاديين الذين كان يمكن أن يمنحها دوراً أكبر وتأثيراً على السياسات الاقتصادية المعيبة. ويتزامن هذا الغياب مع محدودية مراكز الدراسات ومنظمات المجتمع المدني المعنية بالقضايا الاقتصادية وطبيعة نشاطها المحدود والموسمي. ومع ذلك، لا أعفي المتخصصين وهم كُثر من أن يكون لهم تواجد وتأثير حقيقي سواءً في الإطار المهني أو الحيز الحزبي، وتجاوز المساهمات السطحية والمتكررة والتي في أحسن الأحوال لا تعكس عمقاً ولا تنم عن تطوير في المعرفة، باستثناء قلة محدودة.
ورغم أني في عديد من الكتابات والتحليلات الاقتصادية أكرر ما بات معروفاً بالضرورة أن الاقتصاد اليمني يحتاج إلى تحديد المقومات الأساسية والعناصر التي يمكن البناء عليها في إطار خطة طويلة الأمد تمكنه من الاعتماد عليها لتحقيق نمو اقتصادي وتنمية متوازنة، وهو بعكس التصريحات السياسية أو الأماني التي تكتفي بذر الرماد على العيون وتُعدد الثروات والإمكانيات الكبيرة في البلاد دون أن تقدم حقائق أو أدلة مادية عليها، فإن بعض الوثائق الجادة للحكومة في السنوات الأخيرة استشرفت المستقبل من خلال حصر بعض القطاعات التي يمكن أن تكون واعدة وتساهم في تنويع الاقتصاد الوطني ودفعه بعيداً عن الاقتصاد الريعي الذي يعتمد على النشاط الاستخراجي. ويتطلب الرفع بدور تلك القطاعات إجراء دراسات ومسوح تبيّن إمكانيتها وقدراتها قبل وضع استراتيجيات لها على المدى الطويل، وهو ما لم يتم بالشكل المطلوب حتى اليوم. 
وأعود إلى الاختلالات الاقتصادية والمالية ومنها أربعة رئيسية تشكل العبء الأكبر على الاقتصاد والموازنة، وهي من وجهة نظري فاتورة الأجور والمرتبات، والسياسات المتعلقة بدعم المشتقات النفطية، وسعر صرف الريال اليمني، وأداة أذون الخزانة؛ وهي التي تمثل التحديات الاقتصادية الأساسية والعاجلة أمام الحكومة القادمة. وأبدأ بمسألة المرتبات والأجور التي تبتلع النصيب الأكبر من الميزانية وتتجه للتزايد من خلال استمرار التوظيف والتجنيد دون مراعاة لأية أسس تنظيمية متمثلة في تحديث الخدمة المدنية أو تنموية تلبي متطلبات النمو، خاصة وقد اختل منذ سنين بعيدة الشرط الأول بأن الإيرادات الجارية تمول النفقات الجارية. والأغرب أن هذا الباب يخصص لمن لا يستحق ولا يعمل، وفي ضوء عدم تواجد مئات الآلاف من موظفي الدولة ومنتسبي القوات المسلحة والأمن في مقرات عملهم و/أو أنهم يمثلون أسماء وهمية أو مستغلة تعكس ظاهرة الفرار في الجيش والأمن وظاهرة البديل المنتشرة في منشآت التعليم.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المسألة لا تقف عند حدها المالي وتأثيرها على الميزانية، بل تتعداها إلى كفاءة العمل والإنتاج، حيث يفترض أن الأجر أو الراتب الذي تدفعه الدولة تقابله خدمة أو إنتاج متكافئ من الموظف. ولا يختلف اثنان على أن إنتاج الموظف في الجهاز الإداري للدولة متدن للغاية حتى مقارنة بالمرتب البسيط الذي يستلمه. ولا بد أن يُصار إلى التعامل الجاد مع هذه المسألة الحيوية عبر إصلاح حقيقي في الخدمة المدنية بدءاً بالوزارة نفسها أو بالهيئة المستقلة التي يراد إنشاؤها مستقبلاً. فلا يُعقل بقاء الاختلالات والفوضى المدمرة في هذا القطاع واستمرار معالجة المطالب السياسية والشعبية من خلال التوظيف العشوائي كما حدث بعد الوحدة مباشرة وكذلك في قرارات عام 2011م بتوظيف ما يقرب من 60,000 دون مسوغٍ قانونيٍ حقيقيٍ أو ترتيبٍ تنظيمي وفني، والذي يمثل نكبة يتحملها الجهاز الإداري في أدائه وفي تكاليفه لسنين طويلة.
ويجرني هذا التناول إلى إعادة طرح موضوع الاعتصامات والاحتجاجات التي يقوم بها آلاف المتعاقدين مع أجهزة الدولة المختلفة مطالبين بتثبيتهم، وهو ما يستدعي الوقفة الموضوعية بعيداً عن العواطف وعن معالجة الخطأ بخطأ أكبر منه، خاصة وأغلب المتعاقدين لا يمثلون كفاءات أو احتياجاً فعلياً وإنما أقارب وأصدقاء لقيادات تلك الجهات التي تستخدم التعاقد كمدخل للتوظيف ثم تثبيتهم لاحقاً والتحايل على آلاف المسجلين لدى الخدمة المدنية بانتظار دورهم. وينبغي على وزارة الخدمة المدنية التفريق بين الوظائف الأساسية التي تتطلب تثبيت أصحابها وتلك الخدمية التي يمكن أن يُكتفى بالتعاقد بشكل مباشر مع الأشخاص أو مع شركات للقطاع الخاص كأعمال النظافة. والخطأ الآخر المقصود والذي ترتكبه الخدمة المدنية هو توفير درجات وظيفية لمؤهل الثانوية العامة فما دون وبنظر الجهات مباشرة التي تقوم باستغلالها وفق المصالح والأهواء، وهو ما سيبقي هيكل الخدمة المدنية متحيزاً للمؤهلات المنخفضة أو لمن هم بدون تأهيل.
وبالانتقال إلى قضية دعم المشتقات النفطية، فلا يساورني الشك من أن الاقتصاديين وصناع القرار يدركون قبل غيرهم أن المستفيد الأكبر من دعم المشتقات النفطية التي تصل إلى حوالي ثلث الموازنة اليمنية هم الأغنياء والميسورون الذين يستهلكون أضعافاً مضاعفة لما يحصل عليه الفقير أو حتى متوسط الدخل، وبالتالي يضعف وقد ينتفي الغرض الأساسي من الدعم الذي يُفترض أن يكون موجهاً أصلاً للفقراء ومحدودي الدخل دون غيرهم. ورغم استمرار الحديث حول إزالة الدعم عن المشتقات النفطية منذ عام 1995م والذي أصبح مملاً نتيجة تردد الحكومات المتعاقبة، ورغم البرامج واستراتيجيات التواصل التي أعدتها تلك الحكومات لكسب تفهم المواطن وبيان سلبيات استمرار الدعم وإيجابيات إعادة توجيه مخصصاته لصالح الفقراء بشكل مباشر وشفاف؛ إلا أن خلط السياسي بالاقتصادي أدى إلى خلق ثقافة معارضة لمثل تلك الإجراءات وأحياناً ضد مجرد طرح الفكرة. ومع أن الظروف في نهاية 2011م كانت مواتية جداً وأفضل من أي وقت مضى لإزالة الدعم أو أغلبه نتيجة ارتفاع أسعار المشتقات النفطية في السوق السوداء إلى مستويات غير مسبوقة وانعكاس ذلك مباشرة على أسعار السلع والخدمات بما فيها النقل مع صعوبة العودة بأسعار السلع والخدمات إلى الوراء، إلا أن الحكومة الحالية قررت بعد ذلك - لاعتبارات سياسية وليس اقتصادية - تحديد أسعار المشتقات النفطية في منطقة وسطية جديدة. وبذلك تكون قد أضاعت فرصة ذهبية لم تتوفر لغيرها في إلغاء بقية الدعم وإعادة توجيه مخصصاته مباشرة نحو برامج الحماية الاجتماعية بدرجة أساسية ومشاريع البنية التحتية ومنها الكهرباء والمياه التي ما زال أغلب السكان خارج نطاق تغطيتها، فضلاً عن الخروج من هذا النفق بزواريبه المظلمة وفساده الذي امتد إلى كافة مفاصل الاقتصاد بما في ذلك منح المتنفذين والأقارب حصصاً من المشتقات النفطية لبيعها بالسعر الحر إلى الشركات الأجنبية.
وخلاصة هذه المسألة، أنه لا يمكن تبني سياسات وبرامج تنمية حقيقية في حين أن حوالي ثلث الموازنة مختطف لسوء الإدارة والهدر والفساد. ولا مفر أمام أي حكومة قادمة من العمل على إزالة الدعم وإن كانت سياسة غير شعبية ولكنها وطنية بامتياز، مع الاتفاق كلية أنه يجب أن يمثل مساراً واحداً ومتزامناً مع تنفيذ الإصلاحات الأخرى وخاصة إصلاح الموازنة العامة والازدواج الوظيفي والتهرب الضريبي ومكافحة الفساد. وإذا كان بالإمكان تفهم معارضة المواطن البسيط لهذه السياسات نتيجة حدود إدراكه للمسائل الاقتصادية، فإن المواقف السلبية للأحزاب السياسية تجاه إلغاء الدعم غير مقبولة، وخاصة بعد أن تبينت المزايدة على المواطن وتبادل الأدوار حول هذا الموضوع بين كل من المؤتمر الشعبي العام الذي تبنى برنامج الإصلاح وسياسات إزالة الدعم طوال السنوات السابقة وحتى آخر حكومة له، مقابل موقف التجمع اليمني للإصلاح والذي عارض ذلك التوجه بامتداد حياته السياسية.
وفيما يتعلق بسعر صرف الريال اليمني إزاء العملات الأجنبية، وهي السياسة الثالثة الخطيرة في الدفاع عن قيمة الريال اليمني أمام العملات الأجنبية بوسائل وطرق مختلفة فقد نتج عنها تحسن قيمته إلى حوالي 215 ريالاً مقابل الدولار واستقراره عند هذا المستوى لما يقرب من العامين بعد أن كان قد بلغ 245 ريالاً للدولار في منتصف 2011م. ويشكل سعر صرف العملة المحلية أحدى أهم الأدوات الاقتصادية التي تساهم في تحقيق الاستقرار الاقتصادي وأحد المكونات الأساسية الضرورية للبيئة الاستثمارية. كما يعكس سعر الصرف وتحركه صعوداً وهبوطاً مجموعة من المؤشرات، منها ما يتعلق بحركة العملات الأجنبية نفسها في سوق الصرف وهو خارج عن تحكم وتأثير السياسات الوطنية، ومنها - وهو ما يعنينا - يرتبط بالاقتصاد الوطني ومؤشراته الخارجية والداخلية والسياسات التي تتبناها الحكومة في التأثير على تلك المؤشرات وأهمها الاحتياطي من العملة الأجنبية وصافي تدفقاتها إلى الاقتصاد وكذلك سعر الفائدة والعرض النقدي. 
ولا شك أن المواطن العادي يسعده جداً هذا الوضع والمتمثل باستقرار سعر الريال، لكنه لا يعلم أن أساس هذا السعر غير مستدام خاصة في ظل الوضع الاقتصادي الحالي واختلال الموازين الخارجية والداخلية واستمرار تراجع الاحتياطي من العملات الأجنبية منذ عام 2007م رغم الوديعة السعودية لدى البنك المركزي والبالغة مليار دولار، بالإضافة إلى تزايد الشكوك والقلق من بدء تغطية عجز الموازنة من خلال العرض النقدي والذي عاجلاً أم آجلاً سيفاقم ويزيد من تردي الأوضاع الاقتصادية، خاصة مع التغيير غير المعلن في سياسة الصرف الأجنبي من النظام "العائم المدار" إلى نظام "التثبيت" دون توفر العوامل اللازمة للنظام الجديد القديم والذي كان متبعاً قبل عام 1984م. بل العكس من ذلك تماماً، تبين كافة المؤشرات ذات العلاقة استحالة المحافظة على السعر الحالي للريال اليمني وتوقع تراجعه بشكلٍ حادٍ إلى مستويات تعكس وضعه الطبيعي والذي يتوافق مع ما يسمى بسعر الصرف الفعّال، وهو ما حدث سابقاً في عام 2009م حين هبط سعر صرف الريال خلال فترة وجيزة إلى حوالي 250 ريالاً للدولار وبشكل غير مبرر اقتصادياً، ما لبث أن تبعه تحسن ليتعافى عند حوالي 215 ريالاً نتيجة خبر تناقلته الصحف آنذاك حول عزم الحكومة تحديد سعر الصرف عند 200 ريال للدولار، وهو في الأول والأخير لا يحقق استقرار سعر الصرف لعدم وضوح عوامله الاقتصادية والمالية. لذلك، نخشى أكثر ما نخشاه أن نفاجأ بتحركات مضطربة لسعر الصرف وقلق في أسواق السلع والخدمات وفي النشاط الاستثماري جراء ذلك، ومن الأفضل العودة إلى سياسة التراجع المتدرج وإلى المستوى الذي يعكس القيمة الحقيقية للعملة المحلية مع ضمان العوامل التي تحقق استقرار سعر الصرف على المدى الطويل كما حدث خلال الفترة 2006م وحتى منتصف 2009م. وينبغي التأكيد هنا على أن الاستقرار لا يعني بأي حال تثبيت سعر الصرف، وإنما يتيح تحركه ارتفاعاً وانخفاضاً وفق اتجاهات المؤشرات والعوامل الاقتصادية والمالية وخاصة مؤشرات الموازنة العامة والسيولة النقدية وميزات المدفوعات.
أما خدمة الدين وخاصة الدين الداخلي فقد بدأت المؤشرات تدق ناقوس الخطر منذ سنوات عديدة سواءً من حيث نسبة هذا الدين إلى الناتج الإجمالي أم تأثير استمرار عمليات إصدار أذون الخزانة على القطاع المصرفي ودوره وكذلك على الاستثمار والاقتصاد الوطني بشكل عام، أو على التكاليف الباهظة التي تتحملها الخزينة العامة لخدمة هذا الدين. فالاقتراض من حيث المبدأ يستهدف توفير تمويل لأنشطة قادرة على خلق فوائض تمكنها من خدمة ذلك الدين وكذلك إعادة القرض، وهو للأسف لا يتحقق في الواقع نتيجة أن معظم إنفاق الموازنة بما في ذلك مخصصات الإنفاق الاستثماري تذهب إلى مشاريع خدمية لا تحقق جدوى اقتصادية تجارية. وبالتالي تواجه الدولة تراكم المديونية دون زيادة موازية في الإيرادات، فضلاً عن أن أذون الخزانة أداة قصيرة إلى متوسطة المدى، وتفقد تأثيرها – كما في الحالة اليمنية - إذا استمر استخدامها في الأجل الطويل. 
وبالتالي، يجب على الحكومة أن تعمل على ترشيد الإنفاق العام وتقليص النفقات وتحديداً بند الأجور والمرتبات وكذلك الإنفاق العسكري غير الضروري، وتمويل المشاريع البنية التحتية الاستراتيجية من المساعدات الخارجية و/ أو القطاع الخاص عبر الصكوك الإسلامية أو ما شابه. كذلك، وبالتوازي لا بد من زيادة حصة الإيرادات الضريبية إلى مستوى مثيلاتها في الدول النامية من خلال مكافحة الفساد والتهرب والتهريب الضريبي أولاً ثم بعد ذلك توسيع هذا الوعاء وفق مبادئ العدالة الاجتماعية. ويتطلب الأمر أيضاً الانتقال دون تلكؤ نحو أن تتحمل وزارة المالية دور خزينة الدولة وليتم الفصل بينها وبين مهام البنك المركزي الذي يجب أن يتفرغ كلية ويستقل بالسياسة النقدية.
الخلاصة، أن الدولة تنفق جُلّ ميزانيتها على المرتبات والأجور ودعم المشتقات النفطية وخدمة الدين. بل إن الموازنة تتجه أكثر فأكثر نحو هذه المكونات والتي تزداد سنة بعد سنة وبشكل كارثي، ولتبتعد الموازنة وتفقد دورها الاستثماري كمكون ديناميكي وفعال في الموازنة وفي الاقتصاد الوطني. وبهذا الشكل لن تحتاج الدولة إلى أية سياسات للنمو أو التنمية. فرغم مضي فترة طويلة على هذا الوضع وتلك الاختلالات، إلا أن برامج الحكومات المتعاقبة في نسخها المختلفة لم تتجاوز تلمس الطريق بينما يفترض أنها ومنذ سنين عديدة قد أنهت كل مراحل الإصلاحات وحققت أهدافها. ويتبين وجود قوى ومصالح تعارض هذه الإصلاحات، أو في أحسن الأحوال تجهل فائدتها وتأثيراتها على الأداء المالي والإداري والاقتصادي للدولة. فمتى يا ترى تأتي حكومة جادة لمواجهة هذه التحديات؟
وأخيراً، إذا كنت قد ركزت على الموضوعات الأربعة أعلاه كأولوية للسياسات الاقتصادية للحكومة القادمة، فإن ذلك لا يُعفيها أو يقلل من ضرورة أن تتصدى لقضايا الفساد واتخاذ إجراءات حقيقية في هذا الصدد. فبدون ذلك لا يمكن أن تؤتي أفضل السياسات ثمارها، بل قد تؤدي إلى نتائج عكسية في ظل فسادٍ مستشرٍ. فالنظام اليمني والقوانين النافذة لا تختلف كثيراً عن الممارسات السائدة في الدول الأخرى، إلا أنه تشوبها مواد تجهض بقصدٍ فاعلية الهدف منها، بالإضافة إلى عدم توفر الإرادة الحقيقية للتطبيق ولتبقى الأنظمة والقوانين صوراً تجميلية لدولة النظام والديمقراطية المُفترضة.
رئيس المرصد الاقتصادي للدراسات والاستشارات

 

مواضيع ذات صلة :