آراء وأقلام نُشر

الحاجة لمجلس أعلى للبترول

 
عهدت وزير النفط والمعادن الأستاذ أحمد عبدالله دارس  إداريا محنكا ورجل دولة مخلص ومتجدد , متمتعا بخبرة طويلة تترك بصماتها بكل المواقع التي خبرها وعمل فيها .. ويعمل بشكل دؤوب  من أجل إيجاد قاعدة عمل جديدة تستند على الأنظمة واللوائح وترتقي بقطاع النفط , وفي مقدمة ذلك توسيع فرص الاستثمار وجذب الشركات رغم وجود الكثير من التحديات التي تواجه بيئة الاستثمار في اليمن .
ومنذ تولي الأخ أحمد عبدالله دارس قيادة ومهام وزارة النفط والمعادن فقد أنجز الكثير من العمل ووضع بوضوح بصمات ستؤثر في مستقبل الاقتصاد الوطني , لعل أهمها تعديل أسعار الغاز والبدء بخطوات عملية على أرض الواقع لإنشاء مشروع خزانات رأس عيسى الاستراتيجي .. ومع ذلك كله تبقى وزارة النفط بحاجة ملحة الى تأسيس كيان يحفظ للوزارة الخبرات والقدرات والكفاءات التي تتسرب الى خارج القطاع النفطي والتي ينتهي بها الحال مبعدة وغريبة وقد تكون في بعض الحالات شبه منفية  , رغم الحاجة الملحة لهذه الخبرات والكفاءات ، وأعتقد أن تأسيس مجلس أعلى للبترول سيكون كفيل بتقديم الأجوبة المناسبة لرسم خارطة البترول المجدية على رمال المستقبل ؛ وهذا ما نطالب الأخ الوزير أن يضعه ضمن أهم أولوياته القادمة .
هذه مقدمة لابد منها كمدخل من منطلق أمانة الكلمة ؛ ولإنصاف الجهود الخلاقة التي قدمها الكادر النفطي وقياداته , ولكي نعمل على معالجة بعض السلبيات التي جعلتنا نتناسى رجالا قدموا الكثير , واختفوا في ردهات الذاكره ,أو أقصتهم الاتجاهات والمزاجية في مراحل جرت قبل ثورة التغيير ؛ وبعضها حدث بعد منعطفات الربيع , وهو ما جعل الوزارة تخسر بعضا من أكفأ قياداتها وخبراءها الذين قدموا الكثير لهذه الوزارة ولقطاع البترول ؛ ولعل المهندس الخبير والأستاذ القدير محمد حسين الحاج خير مثال على ما أقول .
الحاج هو أنموذج للخبير الوطني ورجل الدولة, عرفناه بكل معاني الكلمة شديدا على نفسه ومخلصا لقيم العمل والمثل التي أصبحت نادرة ومعدومة .. وأحسب أن له محبيه وخصومه ؛ لكن الجميع يقدره ويتفق على نزاهته كل من عمل معه خلال مسيرة طويلة وحافلة بالسمعة الطيبة التي لم تتأثر او تتلطخ بدهاليز العبث العام ومناكفات السياسة وصراعاتها وظل بعيد عن كل ذلك ؛ لأنه بحق كفاءة كبيرة وقيادي مخلص وصادق في كل المراحل , واعتقد ان عدم الاستفادة من مثل هذه الكفاءات يعد خسارة حقيقية .
محمد الحاج درب الكادر الوطني فخلق الكفاءات وصنع القدرات طوال فترة عمله في مصفاة عدن ومن ثم في الاستثمارات النفطية , ونقلهما الى مواقع النجاح , ولو لم يتم وضع الكثير من العقبات أمام نشاطه الاقتصادي من بعض القيادات الحكومية السابقة لكان أقام شركة وطنية كبرى للقطاع العام على قدر واسع من النشاط والكفاءة والتوسع في مجال الاستكشاف والإنتاج تضاهي الشركات الدولية المحترفة في هذا المجال. 
ولاحقاً تولى شركة صافر في أخطر مراحلها , بعد خروج هنت , فعمل على توسيع برامج الاستكشاف وقاده الشركة الى بر الامان , ولم ترتبك الشركة رغم القيود الحكومية المرتبطة بالموازنة العامة والمعوقات .
تقديرا للأعمال الكبيرة وللكفاءات الوطنية الفذة ومن أجل المصلحة العامة لقطاع البترول ؛ فإن تأسيس مجلس أعلى للبترول يجمع هذه الكفاءات ويوظف قدراتها وخبراتها , يعد ضرورة ملحة ومسؤولية وطنية كبيرة تقع على عاتق الأخ الوزير , وأخشى على هذه الفكرة إن لم تتحقق في عهد الأستاذ أحمد عبد الله دارس فإنها لن ترى النور , أو قد تكون وتنشأ بعد فوات الكثير من الوقت .
قائمة الخبرات التي يجب أن تكون محل حفظ واعتزاز كبير طويلة وحافلة ؛ ولعل الدكتور رشيد بارباع , ورشيد الكاف , والدكتور احمد عبد اللاه , ومحمد الحاج , ونبيل القوسي , وخالد بحاح , وأمير العيد روس , ومسعد الصباري , وإبراهيم ابو لحوم , وطه الاهدل  , وعسكر علي حسين , وعلي السحيقي , والدكتور توفيق نعمان , وعبدا لله زيد , وأنور سالم , وعبد الوهاب الجنيد ,ولطف الثور, وإسماعيل الجند , والدكتور محمد علي متاش ؛ والدكتور مصطفى السروري ( ومن يفترض تدويرهم او تقاعدهم ) وغيرهم الكثير من تلك الأسماء التي قدمت لوزارة النفط الكثير ؛ وخدمت اليمن من مواقعها ومثل أصحابها رموزا مهمة للتحول المثمر والايجابي على الارض .
أعلم أنه من المرجح أن ينتقدني الكثير على هذا الطرح ؛ باعتبار ثمة أخطاء حدثت في الفترة الماضية ؛ لكنني أقول أن الأخطاء تكون واردة ومن الطبيعي الوقوف عندها وتقييمها ؛ وما هو مبرر يعذر ؛ ونتيجة طبيعية احيانا لأية دولة حديثة العمل والاستثمار في مجال جديد كالنفط والغاز , واحسب ان من الطبيعي حدوث تدرج واكتساب الخبرة في الاتفاقيات والأعمال التي تتحقق بعد تتابع الشركات ودخولها غمار استثمار مازال يافعا وجديدا وخصب ؛ اما الاعمال التي اضرت باليمن وأفسدت في هذا القطاع فستنال جزائها الذي تستحق ؛ ولن يرحم التاريخ كل من قصر بحق الوطن .
وقطعا فان هناك من يعتقد أن إهمال أو تجاهل وتهميش بعض الخبرات في اي مكان وزمان يعكس صورة مهمة للتعبير ودلالات واجبة لتأكيد حتمية التجديد والتغيير ؛ الأمر برأيي إن لم يكن مبررا وإن لم يكن منطلقا من القيم والمبادئ ولا يستند على نظم مهنية لإدارة الاعمال والمؤسسات ؛ يكون أشبه بالمكايدات والتصفيات الشخصية والمرتجلة ؛ وان جرت الادارة والأعمال على هذا النحو , تغيب اسس التراكم وتفتقد المؤسسات وتختفي الخبرات وتتلاشى , وهي جوهر الترابط والبناء المثمر لتنمية المؤسسات العامة .
وفي جمهورية الجزائر مثلا : وهي دولة بترولية كبيرة ؛ مالذي حدث بعد ثورة الإنقاذ وتولي بوتفليقة الحكم؟
 لقد تمت الاطاحة بالقيادات الكبيرة التي كانت موجودة في مؤسسات وشركات البترول الحكومية , وخرجت تلك الخبرات وأسست أكبر الشركات الخاصة في الجزائر وفي أفريقيا وفي دول أخرى ؛ وخسر قطاع الحكومة النفطي الجزائري .. وعانى كثيرا حتى استعاد نشاطه وأهل قيادات وخبرات جديدة ؛ حدث ذلك بكل تأكيد للجزائر مع تجربتها الطويلة وحضورها القوي في خارطة البترول العالمية , بل ورغم تأثيرها الواضح في السوق الدولية .
إن إنشاء مجلس أعلى للبترول عمل ضروري وأحسبه مهما للغاية ؛ وسأجيب هنا عمن سيقول أن هناك المجلس الاقتصادي الأعلى يقوم بهذه الوظيفة .. وهو الذي يتخذ القرارات ويناقش الاتفاقيات وبعض المشاريع النفطية ..
وبرأيي فان المجلس الاقتصادي الأعلى ليس أكثر من جهة تنسيق بين عدة وزارة ووحدات معنية بالاقتصاد , ولولا وجود الحوافز الضخمة لكان أعضاء المجلس أول من يطالب بحله .
والمجلس الاقتصادي لا يعنى بالتخطيط الاستراتيجي ولا يرسم السياسات ولا يراقب الاداء ؛ ولا يحمي المشاريع التي تتعرض للإهمال ,  ولا يمنع سياسات الرجوع عن تنفيذ مشاريع مهمة وتوقيف الاعمال والتوجهات السابقة للوزراء فقط لان الوزراء والحكومات لا ترسوا على سياسة طويلة الأجل حتى اننا في اليمن نفتقد لخطة ثلاث سنوات دقيقة ؛ وتبقى الوزارات في بلد نام ومجهد اقتصاديا مثل اليمن مجرد برامج فعاليات وأنشطة متغيرة ومتبدلة في أدمغة الحكومات وتتغير وتتبدل ولا تحقق سوى القليل مما هو مجدي ومثمر.
ان ما تفتقده الوزارة وما يعد ضرورة وقرارا ينبغي أن لا يؤجل ؛ يتمثل في إنشاء هذا المجلس ؛ الذي سيعنى بالدراسات والخطط الاستراتيجية والمساهمة في متابعة انجازها واستمرارها ؛ دون التدخل في الصلاحيات والمهام التنفيذية التي تعنى بها الوزارة والوحدات .
ان مجلس كهذا سيكون أهم مؤسسة فاعلة مع وزراء النفط ؛ وقد يعيد هيكلة هذا القطاع بكفاءة , وإيجاد القانون الذي غاب ولم ينظم العلاقة المشجعة بين الحكومة والشركات وظلت اليمن بلا قانون حتى الوقت الراهن ؛ وربما من الافضل لكيان جديد ينشأ على هذا النحو ان يرتبط مباشرة برئيس الدولة .
والسؤال : هل ستقبل القيادات السابقة العودة لتقديم خبراتها من خلال هذا المجلس الذي سيكون له بالطبع لوائحه ونظمه الخاصة ؟
وهل سيقبل زملاء الأمس بعودة رؤسائهم السابقين على شكل الخبراء ولو في إطار جانبي وموازي بالملاحظات المجانية والإشارات التي قد يكون لها أهمية كبيرة في تطوير هذا القطاع؟
أشك أن بعضهم سيقبل العودة والعمل مع الحكومة! لكن الأغلبية لن يترددوا في المساهمة ضمن مشاريع ولجان متخصصة ومعنية بأعمال ومهام محددة .
 
واختم حديثي أن ثمة حاجة ملحة لتأسيس مجلس إشرافي أعلى للبترول والمعادن , ونأمل ان يكون ذلك في عهد الأستاذ أحمد دارس وهو ابن الوزارة الأكثر خبرة ومعرفة بشؤونها المستقبلية .. وحتى لا يستمر نفس الهتافات الحماسية مستمرة ؛ كما كان في ألوليات عدة وزارات ووزراء تعاقبوا على قيادة الوزارة وتحدثوا عن قانون البترول والهيكلة والشركات الوطنية والصناعة النفطية ومدن الغاز ؛ لكن أيا من هذه المشاريع لم ترى النور بعد , وأشهد هنا أن الوزير دارس أكثر من عمل بجد من أجل إنجاز هذه الأعمال والمشاريع  وشكل لها اللجان وقطع فيها مسافة طويلة ,  لكن الأمر مرتبط بسياسة حكومة تخوض معركة شرسة مع الملفات والظروف والأوضاع المتراكمة .. وفي واقع معقدة واقتصاد هش لاشك أن الإرادات والنوايا الجادة تتأثر رغم أنها تعمل بجد على كل الملفات لكن مجمل الجهود تبدوا كمن يحفر في الجدار ؛ وسنظل نحفر في الجدار ونريد لليمن سحابات من الضوء والأمل لكننا لا نريد لفرص الحياة الكريمة أن تتسمم أو تموت .
أمام هذا المشهد يحتاج كل وزير الى فريق قوي يسانده ويتحرك معه بقوة , وذلك صمام أمان للوحدات النفطية وحمايتها من الهلاك والإفلاس , وحتى لا نعول على الوحدات والمؤسسات وطنية في الوقت الراهن أن تحقق تحول وبناء متطور في هياكلها أو أعمالها أو في أشكالها القانونية وهي ضعيفة ومشتتة بالفوضى ولا تستطيع أن تحمي نفسها أو تسترد مديونياتها من الدولة ومن وزير الخزانة الذي يبدوا كمن يسطوا على مخصصات وأموال المنظمات العامة ودون أي خوف أو حذر من الحاق الضرر بشركات ومؤسسات عامة تمثل عصب الحياة الوقود الآمن لاقتصاد جيد , واليمن تستحق أكثر من ذلك ؛ ويمكنها ان تعتمد على نفسها وأن يكون سقف السماء , وطموحها أعلى من درجات التميز ..
نعم .. هي تستطيع أن تكون بوضع أفضل ؛ ولكن كيف للاقتصاد أن ينتعش في مثل هذه الظروف التي تعيش فيها وفي أجوائها أهم الوحدات الاقتصادية للدولة ؟
وخير الكلام يبقى من الذكر الحكيم " وقل اعملوا فسيرا الله عملكم ورسوله والمؤمنون " .. صدق الله العظيم

 

مواضيع ذات صلة :