لا أظن عاقل أو نصف عاقل يجادل في الانتكاسة العربية والإسلامية التي تعيشها بقايا أمتنا في هذا الزمن الصعب والمتصف بالتشظي والاختلاف والتفرق ، ولا تكاد نتفق على أي ثوابت دينية أو أخلاقية أو مجتمعية أو سياسية . هذا الجو المكهرب الذي نتنفسه في مساجدنا ومنابرنا وصحفنا ومجالسنا وبين نخبنا وفي طيات مجتمعنا يستلزم وقفة ومراجعة وتجديد الخطاب الديني في هذا الشهر الكريم الذي لم يراع أي من حرمات الشهر وكراماته ، فالدماء المسلمة تسيل وتتساقط كالمطر ، والصراعات المذهبية والاثنية والحزبية والسياسية شغلت الأمة العربية والإسلامية عن فلسطين القضية الجوهرية للأمة العربية والإسلامية .
أقبل الشهر الكريم على امتنا يتعكز عصا الحزن والأسى ويتكلل بلون الدم وبقايا الأشلاء ويطأ في ليل بهيم مظلم ، تأمل الناس عامتهم وخاصتهم أن يضع شهر الكريم خاتمة ماسي المسلمين وينثر بذور التسامح والمحبة والرحمة وإشاعة خطاب التسامح والتطلع للمستقبل وجمع قلوب الناس ونبذ الصراع السياسي والحزبي ـ ولو بشكل مؤقت احتراما لحرمة وعظمة هذا الشهر الكريم . لكن خطبائنا ومنابرنا أسرفت في خطاب الصراع والاستقطاب والحث على الكراهية والفرقة والتشرذم ، وأصرت هذه المنابر المتحزبة على استجرار خطاب الماضي ، فلا تسمع في رمضان سوى الخطاب التقليدي البليد الغائص في اجترار الخلافات الفقهية ، فحديث حكم من يجامع امرأته في نهار رمضان وهو ناسي ؟! يتصدر الخطاب الأول في نهار وليل رمضان إضافة إلى زكاة العروض وزكاة الفطر وغيرها من القضايا المتاجر بها دينيا ودنيويا .
هذا الخطاب المنبري وصراعات المنابر تؤسس لثقافة جمعية متخلفة تغوص في مزارب التاريخ وصراعات السلف وتستذكر تاريخهم لتصنيف الناس إلى : سلفيين وغير سلفيين ، شيعة وسنة ، إسلاميين وغير إسلاميين ، نطالب بمواجهة واقعنا المظلم المتصف بالجهل وغياب المشروع وخاصة في الدول السنية فصرنا ملعب وبضاعة ونهب لأصحاب المشاريع المشبوهة من إيرانيين وأتراك وأمريكان وغرب وروس ومجتمع دولي ومجلس الأمن ، فمشجب نظرية التأمر وتحميل الغرب تخلفنا وعقليتنا المتخلفة لا يحل مشكلة ولا يغير واقعا ، وإنما يغير واقعنا ويتجاوز أخطاء الماضي والحاضر أن ننشر ثقافة المحبة والتسامح ، ونجعل العلم والحداثة غير المتقاطعة مع تراثنا وسيلة لمنافسة المشاريع الغربية والأجنبية ! .
تكريسا للهروب من مشاكلنا وماسينا وتحميل الغرب الظالم الكافر ما نسمعه من دعاء في صلاة التروايح من الطلب من الله بإهلاك اليهود والنصارى ويجعل نساءهم وأبناءهم غنيمة للمسلمين ، هذا الاعتداء في الدعاء وتسييس الدعاء وجعله دعاية حزبية وانتخابية لجماعات وأحزاب امتهنت الرقص على جراح الأمة وماسيها من عمران إلى أبين إلى غزه إلى بورما لتستحيل ماسي الأمة أموالا وأرصدة بنكية وجمعيات ومشاريع تتخذ من المسمى الإسلامي واجهة لإقامة طبقة كنسية تحتكر الدين والفتوى وتوزع صكوك الرحمة والعذاب على المجتمع وشرائحه ونخبه .