نمو، ازدهار، تراجع، انكماش، كساد، ذروة. مسميات مختلفة لمراحل مختلفة كذلك. دائما تقترن هذه المسميات بالاقتصاد وما يمر به مر تطورات تسهم بنمو جميع مكوناته، أو العكس. فكيف نحدد موقع الاقتصاد من هذه المراحل؟ وما هي الدعائم التي تثبت وقوع الاقتصاد في هذه المرحلة أو تلك؟ ومتى ينتقل الاقتصاد من مرحلة إلى مرحلة؟ وماذا عن إمكانية استقراء مراحل المستقبل من واقع مراحل الماضي؟
حاول باحث من صندوق النقد الدولي الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال دراسة مجموعة من البيانات حول مؤشرات الاقتصاد الكلي لـ 32 اقتصادا متباينا درجات نموه من اقتصادات متقدمة إلى نامية. نشرت الدراسة مطلع الأسبوع الحالي في دورية دراسات صندوق النقد الدولي تحت عنوان «» مؤشرات جديدة لمتابعة النمو الآني «» .
هدفت الدراسة إلى تطوير مؤشر رقمي شهري يمكن من خلاله التعرف على الموجة الاقتصادية التي يمر بها اقتصاد معين أو مجموعة من الاقتصادات بهدف، أولا، الوقوف على واقع العملية التنموية في هذا الاقتصاد أو تلك الاقتصادات بشكل شهري، وثانيا، التعرف على درجة تأثر هذا الاقتصاد أو تلك الاقتصادات بالتطورات الاقتصادية التي تحدث في الاقتصادات الأخرى. والدافع خلف هذين الهدفين محاولة استقراء مستقبل النمو الاقتصادي لاقتصاد معين أو مجموعة من الاقتصادات.
اعتمدت الدراسة في تطوير هذا المؤشر الشهري على مجموعة من البيانات الشهرية حول مؤشرات الاقتصاد الكلي. من أهم هذه البيانات دراسات ثقة المستهلك، ودراسات الثقة في مزاولة الأعمال، وإحصاءات مبيعات التجزئة، وإحصاءات الإنتاج الصناعي، وإحصاءات الاستيراد والتصدير، وأسعار صرف العملة الوطنية، ومعدلات الفائدة، وأسعار الأسهم، ومستويات الدخل، ومعدلات البطالة والأجور، ومؤشرات أسعار المواد الغذائية، ومعدلات التضخم.
جمعت هذه البيانات التاريخية لـ 32 اقتصادا متقدما وناميا بشكل شهري للأعوام العشرة الماضية. من ضمن الاقتصادات الـ 32 الاقتصاد السعودي عن اقتصادات الشرق الأوسط، والاقتصاد الكازاخستاني عن اقتصادات وسط آسيا، واقتصاد جنوب إفريقيا عن اقتصادات إفريقيا، واقتصادات الصين واليابان والهند عن اقتصادات المحيط الهادي، واقتصادات ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة عن اقتصادات أوروبا، واقتصادات الولايات المتحدة والبرازيل والأرجنتين عن اقتصادات الأمريكتين.
دمجت هذه البيانات التاريخية الشهرية في قالب واحد باستخدام بعض المعادلات الحسابية بهدف الوصول إلى رقم يوضح المرحلة التي يمر به هذا الاقتصاد أو ذاك، ودرجة التأثر بالتطورات الاقتصادية في الاقتصادات الأخرى.
«قسّم الرقم بعد ذلك إلى أربع مراحل نمو اقتصادي ومرحلتي انكماش اقتصادي لتشكل في مجملها ست مراحل مختلفة توضح كل مرحلة طبيعة النمو الاقتصادي لكل اقتصاد من الاقتصادات الـ 32. سميت أعلى هذه المراحل بمرحلة » «نمو متين» «، فمرحلة » «نمو تصاعدي» «، فمرحلة » «نمو طبيعي» «، فمرحلة » «نمو متواضع» «، فمرحلة » «انكماش متواضع» «، وأخيرا مرحلة » «انكماش شديد» .
ترجمة بعد ذلك التصنيفات المرحلية للـ 32 اقتصادا إلى خريطة زمنية توضح مراحل النمو الاقتصادي للـ 32 اقتصادا خلال الأعوام العشرة الماضية بشكل شهري؛ لاستخدامها كمنظور مشاهدة لمدى العلاقة بين مراحل النمو الاقتصادي في الـ 32 اقتصادا.
توصلت الدراسة إلى مجموعة من النتائج التي من المفيد ذكر بعضها؛ للتعرف على مراحل النمو التي يمر بها اقتصاد معين أو مجموعة من الاقتصادات بشكل شهري؛ للتعرف على درجة التأثير والتأثر فيما بينها ومدى دقة استقراء مستقبلهم.
«من هذه النتائج ما يتعلق ببداية الأزمة المالية العالمية الأخيرة وأوائل الاقتصادات التي دخلت في مرحلة » «انكماش شديد» « وتوقيت هذا الدخول. حيث أسهمت الأزمة المالية في إدخال اقتصادات الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وإيطاليا في كانون الأول (ديسمبر) 2007 وبشكل مفاجئ مرحلة » «انكماش شديد» « بعد أن كانت هذه الاقتصادات الثلاثة في مرحلة » «نمو متواضع» .
انضم إلى قائمة الاقتصادات المتأثرة بالأزمة المالية العالمية بعد ثلاثة أشهر في آذار (مارس) 2008 اقتصادات المملكة المتحدة وإسبانيا والبرتغال. ثم تبع القائمة بعد شهر واحد في نيسان (أبريل) 2008 اقتصادات ألمانيا وفرنسا ولترفع عدد الاقتصادات المتأثرة بالأزمة المالية العالمية إلى ثمانية اقتصادات.
تبعهم بعد ذلك بشهر في أيار (مايو) 2008 الاقتصاد التركي، ثم بعد شهر آخر في حزيران (يونيو) 2008 اقتصادات المكسيك وكوريا الجنوبية والسويد، ثم بعد شهر آخر في تموز (يوليو) 2008 الاقتصادان التشيلي والروسي. عقب ذلك بشر في آب (أغسطس) 2008 انضمت اقتصادات كندا والبرازيل وأستراليا وجنوب إفريقيا إلى قائمة الاقتصادات المتأثرة بالأزمة المالية العالمية.
شهدت قائمة الاقتصادات المتأثرة بالأزمة المالية العالمية في أيلول (سبتمبر) 2008 انضمام اقتصادات فنزويلا والدومنكان واليونان لترفع عدد الأعضاء إلى واحد وعشرين اقتصادا. اتسعت القائمة في تشرين الأول (أكتوبر) 2008 إلى 26 اقتصادا بدخول اقتصادات الأرجنتين وبيرو والأكوادور والأورجواي وكازاخستان.
«من ضمن نتائج الدراسة أيضا الفترة الزمنية لمرحلة » «انكماش شديد» « التي إصابة الاقتصادات الـ 26 أعلاه. حيث شهد اقتصاد الولايات المتحدة واليابان وإيطاليا أطول مرحلة » «انكماش شديد» بقضائه لـ 13 شهرا في هذه المرحلة من بداية كانون الأول (ديسمبر) 2007 وحتى نهاية كانون الأول (ديسمبر) 2008.
«وشهدت اقتصادات أستراليا وكازاخستان والإكوادور أقصر مرحلة » «انكماش شديد» « بقضاء ثلاثة أشهر فقط في هذه المرحلة خلال الربع الثالث من 2008. من ضمن نتائج الدراسة أيضا عدم دخول اقتصادات السعودية وكولومبيا والصين وإندونيسيا والهند مرحلة » «انكماش شديد» « خلال الأزمة المالية العالمية واكتفائها بدخول المرحلة الأعلى منها فقط، » «نمو متواضع» خلال فترة تأثير الأزمة.
«تقودنا نتائج الدراسة إلى النظر بشكل منفرد إلى مراحل نمو الاقتصاد السعودي، آخذين في الاعتبار استدامته عندما حمي وطيس الأزمة نهاية 2008 بمحافظته على الثبات في مرحلة » «نمو متواضع» «. أشارت الدراسة إلى تطور مراحل نمو الاقتصاد السعودي بدءا من أيار (مايو) 2009 عندما انتقل من مرحلة » «نمو متواضع» « إلى مرحلة » «نمو طبيعي» «، واستمراره بها حتى آذار (مارس) 2010 عندما عاد إلى مرحلة » «نمو متواضع» مرة أخرى وبقائه بها حتى اليوم.
تقودنا نتائج الدراسة حول مراحل نمو الاقتصاد السعودي إلى النظر في المستقبل. فالاقتصاد السعودي مر خلال الفترة التي سبقت الأزمة المالية العالمية بمرحلة نمو وازدهار اقتصادي عمت معظم أفرعه. أسهمت مرحلة النمو هذه في زيادة عائداته وتسجيلها مستويات تاريخية جديدة.
«ساعدت هذه الإنجازات الاقتصاد السعودي على امتصاص التداعيات السلبية للأزمة المالية العالمية والتقليل من تأثيراتها في نموها الاقتصادي. وعلى الرغم من أن المؤشرات تشير إلى الخروج من تداعيات الأزمة المالية العالمية، إلا أن العودة إلى مرحلة » «نمو متواضع» « خلال الأشهر القليلة السابقة تستوجب التأكيد على البدء في إعادة هيكلة السياسات المالية السعودية من خلال إعادة ترتيب الأولويات بما يضمن الوصول إلى مرحلة » «نمو متين» في المستقبل القريب، بعون الله تعالى وتوفيقه.
المصدر : الإقتصادية