دراسات نُشر

مـسـتـقـبـل الـبـتـرول

نتوقع  أن تستمرّ أسعار النفط عند مستويات منخفضة نسبياً طوال فترة الأزمة العالميّة.. إليكم أسباب ترجيحنا لهذا التوقع.لعل أهمها:الإنكماش الشديد للطلب العالمي على النفط.

---------------------------------------
عندما يقرر خبير النفط في اليمن الدكتور خالد محسن أن يتحدث, فان علينا أن ننصت اليه و نستفيد..
اسم مرموق..  و وزارة النفط والمعادن تعرفه جيداً ..
فقد قدم لها الكثير, وبأروع الأمثال ,ترك بعمله الدؤوب وإدارته الذكية وخبرتة التي مازالت بصماتها قائمة وملموسة حتى الآن أثرعلى ارض الواقع يتحدث عن نفسه اليوم بجلاء في مجال النفط والغاز ..
قامة اقتصاديه كبيرة.. و خبير أسهم بايجابية في قطاع النفط والغاز .. له مع قصة النفط في اليمن ذكريات مهنية ومحطات إدارية تبلغ بمقياس الزمن زهاء 40 عاماً , وبمقياس الذاكرة قيمة وقصصاً ومحطات ملهمة , وبها لن تجد الأجيال ذات يوم عناءً في تمييزه كخبير اقتصادي عرفه قطاع النفط وعرفه الاقتصاد اليمني مخلصا وخلاق.
الخبير النفطي والاقتصادي ,واحد أبرز القيادات بوزارة النفط والمعادن في الحقبة الماضية , والخبير في المنظمة الدولية لمفاوضي عقود النفط AIPNقرر مؤخراً أن يكتب عن قطاع النفط والغاز في اليمن .. وعن الحقائق التي تحرك اسواق البترول وأسعارها المتأرجحة , وعن التحديات التي تواجهها اليمن الآن .
في هذه الورقة العلمية التي تلخص تجربة حياة حافلة بالعطاء , نتعرف على عالم النفط والغاز الجديد ..ونقرأ تقلبات الأسعار, وفيها ستجدون ما يرشدكم إلى السبل التي ينبغي القيام بها لمواجهة التحديات.
إلى المقال , الاقتصادي والعلمي الذي خص به  الدكتور خالد صالح محسن موقع " الاستثمار نت" للمساهمة في إلقاء الضوء على قطاع البترول في اليمن .
alestethmar.jpg


إنهيار الأسعار ومستقبل قطاع النفط و الغاز .. khalid.salih-mouhsin.jpgحقائق وتحديات

مقدمة و موجز...

بدا عام 2008 وكأنه عام المفاجئات والصدمات والإنقلابات. المفاجأة، كانت عبور أسعاربرميل النفط، ولأوّل مرّة، حاجز الـ 100$، وإستمرار تسلّقها السريع لتبلغ، في يوليو، ولأول مرّة أيضاً، ذروة ليست بعيدة عن 150$.
أمّا الصدمة فقد تجلَّت في إنهيار مزلزل للنظام المالي- الإقتصادي العالمي لم يسبق له مثيل، منذ عقود وعقود، ليتزامن مع إنقلاب حاد ومتسارع في أسعار النفط هوى بها إلى أعماقٍ سحيقةٍ فقدت خلالها أكثر من 70% من قيمتها القياسيّة. سعداء الحظّ المبتهجون في النصف الأوّل من العام شاهدناهم، على مدار النصف الثاني، وهم في حالة إحباط وذعر، يتخبّطون في محاولات يائسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ماذا تخبئ الأيام القادمة؟ والأهم، كيف يمكن ترجمة هذه الأحداث والتطوّرات والتوقعات بمفردات واقعنا النفطي ومستقبله في اليمن؟

بقلم د . خـالـد صــالـح مـحسـن*



حقائق وتحديات

في هذه السطور نحاول، بإيجاز، تسليط الضوء على كلِّ ذلك، مع تشديد حول الخلفيّة المحليّة، وطبيعة التحديات التي تواجه قطاع النفط والغاز، وإبراز ملامح "الخصوصيّة" فيها.
وتوضيح أنها مُزمِنَة وليست وليدة أزمة الأسعار الأخيرة، و التي لم يكن من شأنها سوى مضاعفة صعوبة هذه التحديّات ودفعها إلى السطح. وعند الإنتقال إلى المستقبل والتوقعات، نذهب إلى ترجيح إحتمال تحقق سيناريوالأسعار المتشائم نسبياً، خصوصاً على المدى القريب، وطوال فترة الأزمة العالميّة. و نورِد الأسباب والمبررات، حيث نرصد و نحلّل، بشئ من التفصيل، العديد من المستجدّات والمعطيات إلى جانب العوامل والقوى الفاعلة في السوق. ونبيّن التداعيات "الكارثيّة" لكلّ ذلك على الوضع في قطاع النفط والغاز، وبالتالي على مجمل الإقتصاد الوطني. ولا يفوتنا، في هذا السياق، تفنيد بعض المقولات التي تراهن على "صحوة قريبة للأسعار"، أوعلى "إمكانية تعويض التراجع الشديد في العائدات النفطيّة من إيرادات تصدير الغاز المسال المرتقبة".
مُبَيّنين، بالحقائق، خطأ ومغبَّة التَعلُّق بمثل هذه الرهانات الوهميّة. وأخيراً، نعود إلى ما ورد في ورقتنا التي سبق رفعها منذ سنوات إلى وزارة النفط، لنتقدَّم، من جديد، بأفكار ومقترحات لعلّها تسهم، بهذا القدر أو ذاك، في صياغة إستراتيجيّة للمواجهة، تقلّل من الخسائر عبر تحسين الأداء الكلّي للقطاع المذكور.

ملحوظة وهامش
عندما شرعنا في كتابة هذه الورقة، في شهر سبتمبر من العام الماضي 2008، لم يخطر ببالنا أننا سننهيها بعد حوالي ستة أشهر. والحقيقة أن كثرة الأسفار التي تخلّلت هذه الفترة، هي ما أدّى إلى كتابتها في فترات متقطِّعة. وعند إتمام الورقة، بدا من اللاّئق أن نقوم بتحديث وتعديل ما يلزم فيها وفقاً لآخر المستجدّات.
غير أننا، وبعد مراجعة ما كُتِب في الفترات السابقة، آثرنا الإبقاء عليه كما هو، إذ وجدنا أن كلّ ما تحتويه الورقة يبقى، في جوهره وتوجهّاته، صالحاً وصحيحا، بل وتؤكّد ذلك التطورات والمستجدات نفسها.

قبل أكثر من ثلاث سنوات، قمنا برفع ورقة إلى وزارة النفط والمعادن بعنوان" حقائق و أفكار حول التحدّيات التي تواجه قطاع النفط و الغاز ـ نحو رؤية إستراتيجيّة- تكامليّة لأسس التطوير".
وكما يوحي عنوانها فقد كانت الغاية من تلك الورقة هي التنبيه إلى خطورة الموقف ، من جهة، والتأكيد على إمكانية، إن لم تكن ضرورة، المواجهة، من جهة ثانية، والمساهمة، أخيراً، في رسم الخطوط العريضة لإستراتيجية التحرّك.

خذ من التلّ يختلّ

Image

شــــــــكـــل رقــــم (1)

وقد بدأ الجزء الأول من الورقة بتشخيص "الإشكالية" والتي يمكن إيجازها بحقيقتين: الأولى تتمثل في التراجع الطبيعي لإنتاج النفط مع إستنزاف الإحتياطيات دون إضافات تعويضيّة متناسبة. وهو ما يشير بوضوح إلى تجاوز مرحلة الذروة peak ، وإتجاه المعدّلات، بالتالي، نزولاً نحو النضوب. الشكل (1) يرصد مسار هذه الظاهرة الطبيعيّة في كلّ دولة منتجة. ويُلاحَظ فيه أنّ اليمن بلغ سقف الإنتاج خلال التسعينات، ودخل، من ثمّ، مرحلة الإنحدار الحاد مع حلول الألفية الثالثة.
ومن ناحيته، يتوقع البنك الدولي تناقص إنتاج النفط في اليمن على مدى السنوات القادمة حتى ينعدم تماماً في عام 2017.
أمّا الحقيقة الثانية فهي الإعتماد شبه المطلق للإقتصاد الوطني على الإيرادات المتحققة من تصديرهذا النفط تحديداً.مع إحتمال قوي بإستمرار هذا الإعتماد لسنوات عديدة قادمة. وتستكمل الورقة هذا الجزء بتشخيص مقتضب لنواحي البناء المؤسسي للقطاع، حيث لوحظ فيه غياب كلٍّ من الرؤية الإستراتيجيّة، والسياسات النوعيّة الفاعلة، إلى جانب ضعف الروابط الوظيفيّة – الهيكليّة بين الوحدات والمستويات الإداريّة عموماً.

إذا أردت أن تراجم.. لا تكَبِّر الحجر..

أمّا في جانب الحلول والمعالجات، فقد حرصت الورقة، منذ البداية، على التمييز بين زوايا التناول المختلفة. وأشارت إلى الحديث القديم/الجديد الذي يردد أن الحل هو التقليل من الإعتماد على النفط عبر تنويع مصادر الدخل وتنمية القطاعات الإنتاجيّة غير النفطيّة. وبالرغم من إتفاقها الكامل مع ذلك من حيث المبدأ، إلاّ أن الورقة نبّهت، في نفس الوقت، إلى أن تحقيق هذا الهدف الطموح، مع أهميته ومشروعيته، يعني ويستدعي، في الواقع، إحداث تحوّلات هيكليّة عميقة في مجمل البنى الأساسيّة للإقتصاد الوطني؛ وهو ما يصعب توفير شروط تحقيقه، على الأقل في المدى القريب أو المنظور. بينما طبيعة "الإشكاليّة" التي نواجهها، تفرض البدء فوراً في إتخاذ تدابيرإسعافيّة عاجلة تعمل، أولاً، على التخفيف من حدّة "الخسائر" عبر إبطاء معدّل تناقص الإنتاج، من جهة، ورفع "القيمة السوقيّة" لبرميل النفط اليمني وبالتالي توسيع هامش الربحيّة، من جهة أخرى.
وهو ما يعني، بكلمات أخرى، التخفيف من حدّة تدهور الإيرادات النفطيّة عموماً. على أمَل أن يتم في المراحل اللاّحقة، وبصورة تدريجيّة، إعادة تقييم وتوصيف وتفعيل كافة دوائر النشاط وفقاً للرؤية الإستراتيجيّة المتكاملة المتفق عليها، بما يكفل ترشيد الإمكانات القائمة و إرتقاء كفاءة الأداء الكلّي للقطاع. لكلّ ما تقدّم، رأينا من الأنسب أن نتبنّى، في الورقة المشار إليها، مقاربة منهجيّة تتناول الموضوع، بكافة جوانبه، من منظور قطاعي خالص. وهو الأمر الذي يوفر، إلى جانب ما ذكرناه، إمكانية تحديد كلّ من الأهداف ووسائل تحقيقها بقدر كبير من الوضوح والدقة، خلافاً لما هو الحال مع المقاربات الشموليّة عموماً. وتجسيداً لذلك، أكدت الورقة على ضرورة الشروع في دراسة خطّة للتحرّك والمواجهة تتناسب مع حجم التحدّي و خطورة الموقف وتداعياته والتي تهدّد، في واقع الأمر، أركان القطاع بأسره، وبالتالي تمسّ أهم موارد الخزينة العامّة. وبادرت باقتراح عدد من المبادئ والأسس والتصورات المنهجيّة بالإضافة إلى منظومة من الأفكار والتدابير والسياسات وآليات العمل كمساهمة متواضعة للدفع بالأمور في هذا الإتجاه.

الشجرة التي حجبت الغابة...

لا نعلم المصير الذي لقيته الورقة. ولكن العديد من الشواهد تشير إلى أنها، في أحسن تقدير، لم تحظ بالقدر المأمول من الإهتمام. فقد بقيت الأوضاع في القطاع، خلال الفترة، هي هي، دون أيّة بادرة للإستنفار والتحرّك، بينما تفاقمت الأمور في جانب الإنتاج والإحتياطيات، وتعاظم، بالتالي، حجم التحديات. ولعلّ ما ساهم في تكريس الوضع هو أن السنوات الثلاث الأخيرة قد شهدت أيضاً موجة الإرتفاع غير المسبوق للأسعار والتي تنامت لتصل إلى ذروتها في يوليو الماضي عند مستوى 147 دولاراً للبرميل الواحد! وقد كانت النتيجة المباشرة لهذه الموجة هي إمتصاص الآثار الظاهرة لتناقص الإنتاج، وبالتالي حجب معالم "الأزمة" الحقيقيّة والملموسة. واليوم، ومع تهاوي النظام المالي العالمي وتداعياته وإرتداداته على إقتصادات الدول الكبرى والصغرى، وقدوم شبح التراجع والركود والجمود، نرصد هبوطاً حادّاً في أسعار النفط، بتسارع أقرب إلى السقوط الحرّ، لتلامس مستويات أدنى من 50 دولاراً للبرميل، وهو ما يمثل تراجعاً بنسبة 70%، تقريباً، عن مستواها في شهر يوليو المنصرم (الشكل 2).

Image

شــــكـــل رقـــم (2)


وللأمانة، فإن ما حدث لم يأتِ من فراغ. ولم يكن مفاجئاً، بالمعنى الدقيق للكلمة. فكلّ من تابع تطوّرات السوق في السنوات الأخيرة، ورصَدَ حركة الأسعار، وقام بتحليل المعطيات والعوامل وتأثيراتها المتبادلة، كان يدرك، بصورة أو بأخرى، أنّ "فقاعة" الأسعار تقترب أكثر و أكثر من لحظة الإنفجار.
إن الأضرار الجسيمة التي حلّت بالإقتصاد الوطني من جرّاء ذلك، والتي إنعكست في تبخر حوالي الثلثين من أهم موارد الخزينة العامّة، دفعت الكثيرين، من مختلف المشارب والمستويات والجهات، إلى رفع أصواتهم محذرين من كارثة وشيكة إذا استمرّت أسعار النفط عند هذه المستويات.
والغريب أن هذه التحذيرات خلَت تماماً من أدنى محاولة أو إشارة في إتجاه الحل أو حتى مجرّد التفكير فيه، وكأن "المشكلة" تكمن في تراجع الأسعار فقط، والتي، كما تردد هذه الأصوات نفسها، لايمكن التحكم في مسارها لا من قريب ولا من بعيد. لا غبار على التحذير و التنبيه، ولكن الإكتفاء بذلك، من ناحية، والقصور الشديد في التشخيص، من ناحية أخرى، يجعل الأمر يبدو أقرب إلى "الكارثة الطبيعيّة" أو "القضاء والقدر" والذي لا نملك حياله سوى أن نسأل الله تعالى اللطف فيه.
هذا إلى جانب أن مثل هذا الطرح يمهّد لخطر عودة حالة الإسترخاء واللاّمبالاة، إذا حدث وإرتفعت الأسعار من جديد وأخفَت معها بذلك الآثار الملموسة للأزمة. لذلك لا نستغرب، في ظلّ هذه الأوضاع، أن نرى عيون السواد الأعظم من صانعي القرار مصوّبة نحو الأسعار، متسائلين عن إحتمالات وجهتها في الساعات والأيام والأشهر والسنوات القادمة.
و مع تفهّمنا لأسباب ذلك، لا يسعنا سوى التذكير بأن الأسواق العالميّة، أيّاً كانت تطوّراتها، لا يجب أن تصرف إهتمامنا وتلهينا عن "الأصل في الإشكاليّة" التي يعاني منها قطاع النفط والغاز، هنا، وعلى هذه الأرض. بل على العكس تماماً، فإن هذا المناخ العالمي الضبابي، بكلّ تطوراته المتسارعة وإنقلاباته المفاجئة، ليس من شأنه سوى تعزيز ما ذهبنا إليه، وينبغي، بالتالي، أن يشكّل حافزاً إضافيّاً للبدء في التحرّك ومواجهة تحديات القطاع الحقيقيّة. أمّا السؤال حول وجهة أسعار النفط في المستقبل، و ما يصاحبه من سيناريوهات، فتقتصر أهميته على أنه يتيح لنا، ولو بصورة تقريبيّة، إدراك حدّة وشدّة ما ينتظرنا من "أزمات" وتقدير إمتدادها الزمني، وبالتالي توقع حجم الآثار المباشرة وغير المباشرة التي يمكن أن تترتب عليها.

أسعار النفط ... إلى أين؟

كلّ المشتغلين بالشأن النفطي، أيّاً كانت صفاتهم، يعلمون مدى صعوبة توقع مسارات الأسعار. واليوم، وربما أكثر من أيّ وقت مضى، تتأكّد هذه الحقيقة بصورة غير مسبوقة. وخير دليل على ذلك المراجعات المتتالية التي تجريها مختلف المنظمات الدولية الرسميّة والمستقلّة، على توقعاتها السابقة للعام 2009. فنجد، مثلاً، إدارة معلومات الطاقة EIA، التابعة للحكومة الأمريكيّة، تخفّض توقعها أربع مرّات خلال الأشهر الخمسة الماضية فقط. الأمر الذي دفعها إلى "الإعتذار" في بيان نشرته على موقعها بتاريخ 13 نوفمبر2008، وتعترف فيه بأنها، ولأوّل مرّة في تاريخها، تلجأ إلى تخفيض مستويات الأسعار المتوقعة بهذا القدر وخلال مثل هذه الفترة الوجيزة. هذه المراجعات، وغيرها، تعبّر، بوضوح، عن الصٍلة الوثيقة بين الإنقلاب الحاد في مسار أسعار النفط، من ناحية، وزلزال الأزمة الماليّة، من ناحية أخرى. كما إنها تعكس نزعة التشاؤم التي خيّمت، مؤخراً، على عموم أسواق النفط العالميّة.
فبعد أن كانت جُلّ التوقعات، في النصف الأوّل من هذا العام، مفرطة في التفاؤل (الشكل 3)، بل ولم يستبعد بعضها أن يجتاز سعر البرميل حاجز الـ 200$ مع مطلع العام 2009، إذا بها اليوم تنقلب رأساً على عقب، وتميل، في معظمها، إلى التنبؤ بإستمرار تراجع الأسعار خلال المتبقي من 2008، وإستقرارها عند مستويات متواضعة عموماً خلال العام 2009.

Image

شــكــل رقــم (3(


لم يَعُد السؤال، كما يبدو، إلى أين ستتجه الأسعار؟ وإنما إلى أيّ مدى، وإلى متى، سيستمر هبوطها؟ ميريل لنش Merrill Lynch، والتي سبق وتوقعت 90$ للعام 2009 و100$ للعام 2010، عادت لتعلن تخفيض توقعاتها إلى 50$ و 70$ للعامين المذكورين على التوالي. كذلك الحال مع إدارة معلومات الطاقة EIA، التابعة للحكومة الأمريكيّة، والتي خفّضتها من 124$ إلى 63$. أيضاً مركز رايموند للأبحاث Raymond James Equity Research حيث قام بتعديلها من 90$ إلى 60$. بينما هبطت توقعات بنك كالجاري للإستثمار الكندي Calgary Investment Bank بالمتوسط إلى 45$. ومارك برفان Mark Pervan، أحد الخبراء التي تستعين بهم بلومبرج Bloomberg، إلى 43$. أمّا مجموعة الخبراء لدى كريدي سويس Credit Suisse فقد توقعت لـ 2009 و 2010 متوسط أسعار أقرب إلى40$. ولا تزال هذه الأرقام أقلّ تشاؤماً من توقعات دويتشه بنك Deutsche Bank، والتي لم تتجاوز 30$!!!؛ أو التصريحات الأخيرة لميريل لنش بأن الأسعار قد تتهاوى إلى 25$ خلال عام 2009، رغم حرصها على التأكيد بأن ذلك لا يمثل توقعاتها الرسميّة.
مقابل سيناريوهات الأسعارالمنخفضة، وجدنا أيضاً، هنا وهناك، بعض السيناريوهات المتفائلة والتي تتوقع مساراً متصاعدا لأسعار النفط في المستقبل القريب. يصل بها إلى مستويات عالية تتجاوز حاجز الـ 100 $ للبرميل. ولكن، لا يبدو أننا، بصورة أو بأخرى، سنكون على "موعدٍ" قريب مع "صحوة" جديدة للأسعار. على العكس تماماً، فكلّ الدلائل والعوامل تعززفرص تحقق السيناريوهات الأقرب للتشاؤم. بينما تتضاءل الفرص الخاصّة بالتوقعات المتفائلة، على الأقل في المستقبل المنظور، وبالتحديد طوال فترة الأزمة الماليّة الإقتصاديّة العالميّة. أمّا عن توجّه الأسعار، فإنّنا نميل إلى الإعتقاد بأنها، طوال فترة الأزمة، ستراوح في المتوسِّط عند مستويات منخفضة نسبياً (على الأرجح أدنى من 55$). أمّا على المدى الأبعد فالمُحتمل عودة قويّة للأسعارلا يُغذيها إنتعاش الطلب بعد الأزمة فحسب، وإنما، وكما سنرى لاحقاً، مجموعة من العوامل الأخرى لاتقل عنه أهميّة.
هذا يجعل توقعاتنا، في المدى القصير، أقرب إلى السيناريو المتشائم، وإن كان بصورة أقل حِدَّة.

العوامل والقوى الضاغطة على الأسعار... الأزمة الماليّة – الإقتصاديّة ...

يبدو أن ما نشاهده اليوم ليس إلاّ الجزء البارز من "جبل الأزمة الجليدي". وأن ما خفيَ كان أعظم. صندوق النقد الدوّلي يحذر من أن المناطق العالمية الثلاث: الولايات المتحدة وأوروبا واليابان توشك أن تدخل، أو أنها دخلت فعلاً ، وبصورة متزامنة، في حالة ركود وتراجع إقتصادي وذلك للمرّة الأولى منذ 60 عاماً. أيّ منذ الحرب العالميّة الثانية.
من جانب آخر، بدأ نطاق الأزمة يمتد ليطال الإقتصاد الحقيقي وقاعدته الإنتاجيّة ممّا يعني إستفحال البطالة وتآكل القدرة الشرائية لأوسع الطبقات والفئات. وقد ذكر تقرير الحكومة الأمريكيّة لشهر نوفمبر أن عدد الوظائف التي فقدت، خلال الشهر فقط، فاق بكثير نصف مليون وظيفة ، وهو أكبر رقم إحصائي منذ 34 سنة. وبذلك يقفز معدّل البطالة إلى 6.7%، الأعلى منذ 15 عاماً، ويعتقد العديد من الخبراء أن المعدّل سيصل قريباً إلى 8.0%.
كلّ ذلك يجد ترجمته المباشرة في أسواق النفط بإنكماش شديد لحجم الطلب الفردي والصناعي حيث تقدِّر إدارة الطاقة EIA أن إستهلاك النفط في الولايات المتحدة سيشهد في العام2008 أدنى هبوط له منذ عام 1980 وذلك بمقدار 1.8 مليون برميل/يوم. كما تتوقع في 2009 تراجعاً إضافياً للطلب يصل إلى حوالي 300 ألف برميل/يوم. بينما يرى بعض المراقبين أن نمو الطلب المتوقع للدول النامية سيمحوه التراجع المتوقع للدول الصناعيّة ومعها الهند والصين، ثاني أكبر مستهلك للنفط، والتي سيتباطأ نموّها الإقتصادي إلى أقلّ من 9.0% وهو مايعني أيضاً فقدان أكثر من 30 مليون وظيفة تضاف إلى 230 مليون وظيفة سبّبت الأزمة في ضياعها عالمياً، ممّا يؤدي إلى جمود الطلب العالمي عند نفس مستواه، هذا إذا لم يتراجع، وهوالأمر الذي لم يحدث منذ 25 عاماً.
يؤيّد هذا الإتجاه إرتفاع المخزون الإحتياطي لكلٍّ من الخام والمشتقات في جميع الدول الصناعيّة المستهلكة، حيث وصل مخزون الولايات المتحدة مثلاً إلى ما يزيد عن 339 مليون برميل تكفي لتزويد 14 مليون سيّارة خلال عام. كذلك مشهد السفن الناقلة وقد تحوّلت إلى خزانات عائمة نتيجة إمتلاء الخزانات الأرضيّة المخصّصة للمخزون الإستراتيجي. ويقدّر بعض المراقبين حجم "المخزون العائم" فقط بأكثر من 50 مليون برميل وهو مايكفي إستهلاك فرنسا لمدة شهر كامل. و ممّا يلفت النظر في هذه التطورات، أن الهبوط الهائل في أسعار البنزين، مثلاً، (الشكل4)، لم يشكّل حافزاً لزيادة الإستهلاك. على العكس، ففي حين تراجعت الأسعار إلى حوالي 1.11$ للجالون من ذروتها التي تجاوزت 4.0$ في شر يوليو، نجد أن المسافات التي قطعها الأمريكيون بسيّاراتهم بين نوفمبر وأكتوبر أقل بـ 100 بليون ميل عن المسافات المقطوعة في نفس الفترة من العام السابق.

Image

شــكــل رقــم (4(


ويُعَدّ هذا أكبر تراجع منذ 1942، وهو العام الذي بدأت فيه الهيئة الإتحاديّة للطرقات Federal Highway Administration تجميع البيانات ونشر الإحصائيات.
وأصبح من المألوف أن ترى محطّات البنزين وهي ترفض تفريغ شحنات الإمداد لعجزها عن تصريف ما لديها من مخزون. كذلك الحال مع المصافي، حيث يخيّم على بعضها شبح الإفلاس ولا يعمل بعضها الآخر إلاّ بالحدّ الأدنى من طاقتها الإنتاجيّة، بالرغم من دخول فصل الشتاء، والذي يرتفع فيه، عادةً، إستهلاك زيت التدفئة. لقد طغت الأزمة، بفواجعها وكوابيسها، على كلّ ما عداها و حتى على السلوكيات وردود الأفعال المفترضة طبقاً لما كان يسمَّى " قوانين السوق الحرّ".

قوة الدولار النسبيّة و المضاربات

أمّا العوامل الأخرى الضاغطة على الأسعار فتأتي من تحسّن قيمة الدولار بالنسبة للعملات الأخرى، فكلّما زادت قوّتهً، كلّما إنخفض سعر تداول البرميل. يضاف إلى ذلك شحّة السيولة النقديّة وأزمة الإقتراض التي تعمّ النظام المصرفي، من جهة، وتأثر صناديق الإئتمان والتقاعد العملاقة بالأزمة، من جهة أخرى، و تراجع إندفاعها، بالتالي، عن المضاربة في أسواق البورصة النفطيّة وهو ما كان وراء نسبة كبيرة من تضخم أسعار النفط في الفترة الأخيرة.
فلو إقتصر تحليل تلك الفترة على أساسيات السوق لوجب أن تكون فترة تنخفض فيها الأسعار وتستقرّ عند مستويات متواضعة، لا أن تتصاعد وتنتفخ وتحلِّق عند مستويات غير مسبوقة في التاريخ الحديث!! وهو ما يؤكد أن أساسيات السوق لم تكن وراء "فقاعة" أسعار النفط الأخيرة.
ويعكس الشكل (5) الميل العام لإتجاه أسعار العقود الآجلة للنفط الأمريكي الخفيف حسب أسعار إغلاق التداول في سوق نيويورك NYMEX في الفترة من 3 ديسمبر 2007 وحتى 3 ديسمبر 2008. كما يبيّن الشكل(6) مسارالأسعار التقديريّة للعقود خلال الفترة بين يناير2007 و يناير 2009.

Image

شــكــل رقــم (5(


في ضوء ذلك، لا نستغرب أن تتجه كافة الأنظار، أكثر وأكثر، إلى رصد منحنى حركة الأسعار، في ترقب شديد للحظة إرتطامها بالقاع.

Image

شــكــل رقــم (6(



قوى المقاومة.. و العوامل الرافعة للأسعار ...

إذا استثنينا إحتمالات الحروب والكوارث الطبيعيّة في مناطق الإنتاج الرئيسة، فلن "يُنقذ" الأسعار، ويوقف تدهورها، سوى أحد أمرين: تزايد الطلب الفعلي أو نقص حجم المعروض. وبإستبعاد إمكانيّة تحقق الأمر الأوّل خلال الأزمة، لا يتبقى للتأثير على مسار الأسعار سوى تخفيض الإنتاج.
وقد أشرنا سابقاً إلى بعض السيناريوهات المتفائلة والتي تتوقع "صحوة" جديدة للأسعار تعود فيها إلى مستويات تقارب الـ 100$ للبرميل.وبالطبع تستند هذه السيناريوهات إلى تدخل منظمة الأوبك وإجراءاتها الإنقاذيّة.
والمعروف أن الآليّة الوحيدة التي تملكها المنظمة لمواجهة تدهور الأسعار، تكاد تنحصر في قراراتها بتخفيض الإنتاج. وكما شاهدنا فقد أقدمت المنظمّة فعلاً على ذلك ثلاث مرّات منذ شهر سبتمبر، وبلغ حجم التخفيض الإجمالي المُعلَن خلال هذه الأشهر القليلة الماضية 4.2 مليون برميل. وهو رقم قياسي في فترة زمنيّة وجيزة. ولكن ذلك لم يؤثر إطلاقاً على مستوى الأسعار.
على العكس، ففي اليوم التالي مباشرة لإعلان الجزائر أغلق تداول عقود تسليم يناير للنفط الأمريكي الخفيف WTI، في سوق أموال نيويورك NYMEX، بإنخفاض 5.0 سنت. كذلك أغلقت عقود تسليم ثلاثة أشهر، على 36.22$، أي بإنخفاض 9.6% عن سعر اليوم السابق.
أمّا عقود فبراير لخام برنت Brent، فقد أُغلِق تداولها في بورصة لندن للأسواق الآجلة ICE، في اليوم نفسه، بنقصان 1.12$. فهل هي مسألة وقت؟ وعلينا، بالتالي، كما صرّحت المنظمة مؤخرا، الإنتظار حتى تستجيب الأسواق. أمّ أن ذلك يوحي بأن عدد البراميل المعروضة في السوق لا يزال يفوق بكثير العدد المطلوب؟
الجواب، كما نراه، هو خليطٌ من هذا وذاك. فهناك، دوماً، مسافة زمنيّة تفصل بين الإعلان عن قرار التخفيض والأثر الحقيقي الذي يترتب عليه.
والتحسُّن النسبي الذي سجّلته الأسعارمؤخراً، قد يشير إلى بداية تفاعل السوق مع الخفض المتراكم للإنتاج. لكن، وفي نفس الوقت، فإن تواضع هذا التحسُّن يوحي بأن المنظمة قد تفكّر جديّاً في القيام بخفض جديدٍ للإنتاج، وربما تقوم بمناقشة ذلك في إجتماعها القادم في شهر مارس.
غيرأن السؤال الذي يطرح نفسه دوماً إنما يدور حول حقيقة الإمكانيات التي تتمتع بها المنظمة، والمدى الذي يمكن أن تصل إليه قدرتها على التحكُّم في الأسعار عموماً، و في إعادة مسارها المتصاعد على وجه التحديد. ولا يتعلّق الأمر، هنا، بحق المنظمة في حماية الأسعار، فهذا دورها المفترض، إن لم يكن مبرر وجودها أصلاً. المسألة، في تقديرنا، تكمن في مجموعة من العوامل الكابحة والمعيقة، والتي من شأنها، في آخر تحليل، إضعاف قدرة المنظمة على الفعل المؤثر، وعلى تحقيق النتائج التي تسعى إليها.
وذلك، في الواقع، من الأهم الأسباب وراء إستبعادنا لإمكانيّة تحقق التوقعات "المتفائلة" للأسعار والتي تراهن، في ذلك، على مجرّد تدخل المنظمةً.

المنظمة في قفص الإتهام..

جرت العادة، كلّما ارتفعت أسعار النفط، أن توجّه أصابع الإتهام، في الدرجة الأولى، إلى منظمة الأوبك. فهي تارة تتلاعب بعوامل السوق لتبقي الأسعار عند مستويات مرتفعة. وتارة هي ذلك الكارتل "الشيطاني" الذي يحقق أعضاؤه عوائد خرافيّة على حساب المستهلك "المسكين" في الدول الغربيّة.
وقد سبق للمنظمة ، في مناسبات عديدة، أن شدّدت على دورها المركزي في إستقرار الأسواق وذلك عبر حرصها على توفير الخام بما يكفي لتلبية الطلب العالمي وبأسعار عادلة للجميع. ورداً على إتهامها بـ "نهب" المستهلكين، كشفت المنظمة أن حصص الحكومات الغربيّة من إجمالي العوائد المتحققة من بيع لتر البنزين تشكّل نسباً كبيرة قد تقترب من نصيب الدولة المنتجة أو حتى تماثلها بل وتزيد عنها، كما هو الحال مع الحكومة البريطانيّة مثلاً (الشكل 7).

Image

شــكــل رقــم (7(


وبالرغم من شدّة الإنحدار الذي عانت منه أسعار سلّتها خلال أشهر معدودة (الشكل 8)، نرى الأوساط الغربيّة وهي تقابل إجراءات ومحاولات المنظمة لرفع الأسعار بموجات من الإنتقاد تصل إلى حدّ التجريح، بحجَّة أن الأسعار المرتفعة من شأنها تكريس حالة الكساد الإقتصادي العالمي.

Image

شــكــل رقــم (8(



لايمكنك مُلاحقة أكثر من أرنب في نفس الوقت...

من زاوية أخرى، يرى البعض أنّ مجرد سعي المنظمة إلى رفع الأسعار، في مثل هذه الظروف، هو أشبه بمن يُطلق النار على قدميه. والسبب، في رأيهم، يكمن ببساطة في أن الأسعار المرتفعة تترجم دائما بطلبٍ أقلّ، وهو بالتأكيد ما لا تهدف إليه المنظمة. يُضاف إلى ذلك أن محاولة رفع الأسعار عن طريق خفض إنتاج المنظمة، في زمن يشهد إنكماشاً للطلب، قد يؤدي إلى تقليص حصتها الإجماليّة في السوق لصالح المنتجين خارج المنظمة، ما لم يتم التنسيق الكامل معهم و ضمان مساهمتهم الحقيقيّة في خفض حجم المعروض الكلّي.
الوجه الآخر لمعضلة المنظمة يرتسم داخلها. فليس سرّاً أن الأوبك تعاني من تناقضات كبيرة بين أعضائها. ولعلّ المصدر الأساسي لهذه التناقضات يتلخص في "عدم التجانس".
ويمتد عدم التجانس هذا ليشمل نواحي عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر:

— عدد السكان و البُنى المجتمعيّة؛
— الجيولوجيا وتكاليف الإنتاج؛
— التوجهات السياسيّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة؛
— العلاقات الدوليّة والإعتبارات الجيوسياسيّة.
هذه الحقائق، وغيرها، تُضعف آليات صُنع القرار داخل المنظمة وتجعلها أبعد ما تكون عن كارتل موحّد المصالح، أو سفينة واحدة يقودها ربّان يعلم تماماً إلى أين يُبحِر. كما تُفًسِّر، من ناحية أخرى، لماذا تأتي قراراتها أقرب إلى "حلول الوسط" وبعد جولات معقدة من النقاش، أو مايشبه التفاوض، بين أعضائها.
وتتجلّى هذه التباينات بصورة خاصّة في:
  • صعوبة الإتفاق على نطاق سعري يمثل "الهدف" الذي تسعى المنظمة إلى تحقيقة، وتقوم بالتدخل للمحافظة على مستواه كلّما انخفضت الأسعار عنه.
وتعود الصعوبة، في المقام الأوّل، إلى تباين الأسس والمعايير التي تستند إليها كلّ دولة من الدول الأعضاء في تحديدها لما هو السعرالعادل للبرميل الذي يُرضي الجميع و تقبل به مختلف الأطراف الفاعلة في السوق:
هل هو 40 دولار كما صرّح الرئيس الفرنسي ساركوزي في معرض تعليقه على تهاوي الأسعار، والتي كانت في حينها لاتزال عند 50$ ؟ أم 70 دولار كما يتردد مؤخراً في أوساط الأوبك؟
أم 75 دولار لتشجيع الإستثمارات في قطاع النفط، كما يرى العاهل السعودي ؟
أم 100 دولار، وهو بالمناسبة المستوى الذي بلغته الأسعار عام 1980 محسوباً بالقيمة الحقيقيّة؟ أم 120 دولار، إذا أخذنا في الإعتبار، كما يرى بعض المراقبين، تآكل القوّة الشرائيّة للدول المنتجة وسعر صرف الدولار مقابل العملات الأخرى، وأضفنا إليهً معاملاً حسابياً لتعويض "إستنزاف ثروة طبيعيّة ناضبة"؟
  • التباين الملموس للحاجات والمصالح. فنجد، مثلاً، أن مستوى سعر البرميل المطلوب لموازنة الحسابات الحكوميّة لكل من السعوديّة والإمارات وقطر هو 30 و 40 و 55 دولاراً على التوالي، وذلك طبقاً لتقديرات ميريل لينش Merill Lynch & Co. . بينما يرى إدوارد مورس Edward Morse، المدير التنفيذي وكبير الإقتصاديين لدى لويس كابيتال ماركٍتس/نيويورك Louis Capital Markets LP/NY، أن السعر المطلوب لإيران يدور حول 100 دولار للبرميل نظراً لعدد السكّان الكبير ولحجم مشاريع التصنيع. أمّا فنزويلا فهي بحاجة إلى سعر 120 دولار كحد أدنى لتتمكن حكومتها من تنفيذ البرامج الطموحة للتنميّة الإجتماعيّة والتي قررت تخصيص إجمالي العوائد النفطيّة لتمويلها.
  • التفاوت في كلفة إستخراج البرميل والتي تتراوح في المتوسط بين 4.0$ في الشرق الأوسط و 8.30$ في كندا. كما لايتجاوز متوسط كلفة التنقيب في مناطق الشرق الأوسط 5.26$ للبرميل، بينما يقفز إلى 63.71$ في المناطق المغمورة للولايات المتحدة. وكقاعدة إحصائيّة يمكن القول بأن إجمالي تكاليف الإنتاج للبرميل الواحد تتراوح بين حوالي 10$ في الحدّ الأدنى إلى حوالي 70$ وأن المتوسط العالمي، بصورة عامّة، يُقارب 30$. أمّا إذا أضفنا بقيّة التكاليف (المعالجة والنقل و والتخزين والإحلال وغيرها) فإننا نحصل عندئذٍ على إجمالي الكلفة الإستثماريّة للبرميل والتي تساوى سعر التكلفة break-even price . وهذا السعر يُعبّر، في الواقع، عن الحدّ الفاصل بين الربح والخسارة، ويُستخدَم، عادةً، في إحتساب معدّل الربحيّة العام طبقاً للمعادلة: الربحيّة = سعر البيع – السعر الإستثماري / السعر الإستثماري X 100. بيل المثال، فعند سعر 100$ للبرميل وسعر إستثماري (أو تكلفة) 50$ للبرميل، فإن معدّل الربحيّة يصل إلى 100%. ولكن هبوط الأسعار إلى 60$ للبرميل مثلاً، مع بقاء مستوى السعر الإستثماري دون تغيير، يعني تراجع الربحيّة إلى مجرّد 20% فقط. أمّا تدنّي سعرالبرميل إلى 50$ أو ما دونه فقد يعني إيقاف الإنتاج من الحقول ذات الكُلَف الإستخراجيّة الأعلى. وتتفاوت مستويات السعر الإستثماري بين دولة منتجة و أخرى. فنجد أدناها في الكويت إذ لا يتعدّى السعر الإستثماري هناك 17$ للبرميل تليها دولة الإمارات بسعر 25$ ثمّ كلّ من السعوديّة وقطر بسعر 30$ وعمان والبحرين بسعر 40$. أمّا في روسيا ودول بحر الشمال وحقول الرمال الزيتيّة oil sands في كندا، فإن السعر الإستثماري يرتفع إلى مستويات تتراوح بين 60-75 دولار للبرميل، وقد تتجاوزها في بعض المناطق النائية شديدة الوعورة أو المغمورة.
  • ضعف الإنضباط لدى الدول الأعضاء في تنفيذ القرارات المُعلًَنة، وهو ما يتجسَّد في عدم تقيُّد العديد منهم بتخفيض الإنتاج وفقاً للحصص التي تمّ إقرارها. ولهذه الظاهرة المزمنة دلالات عميقة. فهي تلخص وتعكس، في آن واحد، واقع "عدم التجانس" في المنظمة بكل نواحيه التي سبق شرحها، والمحدّدات التي تلازم آليات إتخاذ وتنفيذ قرارتها. فنرى، مثلاً، أن قرارات خفض الإنتاج تلقى، على الدوام، تأييداً مطلقاً، من كافة الأعضاء، بإعتبارها الوسيلة الوحيدة لوقف تدهور الأسعار، ولكننا لا نلبث حتى نلاحظ ، في مرحلة ما بعد إعلان القرارات، بروز التباينات، وإن كانت بصورة خفيّة، في طريقة تعامل الأعضاء مع تنفيذ هذه القرارات نفسها. وليس سرّاً أن ذلك يرتبط بإختلاف حجم الآثار المترتبة على خفض الإنتاج بين دولةٍ وأخرى. وهذا الإختلاف يتناسب، بدوره، مع ما تملكه كلّ دولة من مقوّمات وقدرات،من جهة، وما تواجهه من تحديات وهوامش للحركة، من جهة أخرى.

أنجولا في المواجهة...

ولنأخذ، على سبيل المثال، أنجولا لنرى كيف تأثرت بإنهيار أسعار النفط و قرارات المنظمة لخفض الإنتاج. وكيف تنوي التعامل مع ذلك. بعد ثلاثة عقود من الحرب الأهليّة، بدأت أنجولا، في 2002، وضع الخطط الطموحة لتجاوز آثار الحرب المدمّرة، والإسراع بنهوض إقتصادها الوطني عموماً. واعتمدت البلاد، في تنفيذ مجمل هذه الخطط، إعتماداً شبه مطلق، على قطاع النفط. وقد استفادت أنجولا من مناخ الأسعار المرتفعة حيث تمكّنت من جذب الإستثمارات وتحقيق قفزات لافتة في تطوير القطاع تجلّت في تسارع إرتفاع معدلات الإنتاج ونمو الإحتياطيات، حيث قُدِّرَت الإحتياطيات المؤكّدة في نهاية 2007 بحوالي 9.0 مليار برميل أي أكثر من ضعف حجم الإحتياطيات المُعلَنة في عام 1997.
وعند نهاية 2006، وبينما كانت الدول الغنيّة بالنفط تحت الضغوط لزيادة إنتاجها بهدف وقف التصاعد الشديد في الأسعارآنذاك، قرّرت أنجولا الإنضمام إلى منظمة الأوبك. وفي شهر أبريل 2008 إستطاعت أن تزيح نيجيريا من موقعها كأكبرمنتج للنفط في أفريقيا وذلك بعد أن بلغ معدّل إنتاحها 1.9 مليون برميل يومياً.
وطبقاً للخطط فقد كان من المتوقع إرتفاع المعدّل إلى 2.0 مليون برميل في اليوم بحلول عام 2010 و 2.5 مليون برميل في اليوم في عام 2015.
بالإضافة إلى أن أنجولا تتمتع أيضاً بإمكانيات نفطيّة غير مكتشفة تعدّ الأكبر في أفريقيا، إذ لا يتجاوز ما تمّ إستخراجه من إحتياطيات مؤكّدة ومحتملة نسبة 25% مقارنة بنسبة 34% و 51% لكلٍّ من نيجيريا وجابون على التوالي.
ومع إنهيار الأسعارالقياسي والذي شهد، كما رأينا، تبخر أكثر من 100$ في سعر البرميل خلال أقل من ثلاثة أشهر، وجدت أنجولا نفسها في مواجهة معضلة شديدة. فهي بأمسّ الحاجة إلى أسعارٍ مرتفعةٍ لتتمكن من جذب الإستثمارات اللآزمة لتوسيع أنشطة التنقيب وتنمية الإحتياطيات والحفاظ، إن لم يكن رفع معدلات الإنتاج. في نفس الوقت،عليها، لتحقيق ذلك الإلتزام بحصتها في خفض الإنتاج والبالغة 244 ألف برميل/اليوم من إجمالي 4.2 مليون برميل المعلن عنها.
أي أنها ستضطرّ للتحرّك تماماً في عكس إتجاه ما تصبو إليه من توسّعات، ولتحمُّل كلّ الآثارالسلبيّة المترتبة على التراجع الحاد في الإيرادات النفطيّة. وحتى تكتمل الصورة، نشير أيضاً إلى تباين، أو خصوصيّة، العامل الجيولوجي والمكمني. فأغلب الموارد النفطيّة لأنجولا تقع في مناطق مغمورة عميقة المياه وبعيدة عن السواحل، ممّا يرفع متوسط إجمالي تكاليف البرميل الواحد إلى قرابة 70$ مقابل حوالي 10$ في منطقة الشرق الأوسط،، كما سبق وذكرنا. من كلِّ ما تقدَّم، يمكننا أن نلمس مدى تأثير إنهيار الأسعارعلى إقتصاد ومستقبل دولة تعتمد على النفط مثل أنجولا، وندرك، بالتالي، لماذا تواجه هذه الدولة، اليوم، واحداً من أصعب تحديّاتها. وكما هو متوقع، فقد كان أوّل ردود فعلها هوقرارها المبدئي بمراجعة ميزانيتها للعام الحالي 2009، إذا بقيت الأسعار دون 55$/برميل، وهو ما تمّ إفتراضه وقت إعدادها.
أمّا بخصوص تعاملها مع حصتها في تخفيض الإنتاج، فبالرغم من المرارة التي تصاحبها، إلاّ أن أنجولا، كما يبدو، لن تتمكّن من اللجوء كثيراً إلى التحايل في التنفيذ ، خاصةً وقد تولّى، إبتداءً من أول يناير 2009، وزير نفطها خوزيه دي فاسكونلوس رئاسة الدورة الحالية لمنظمة الأوبك خلفاً لوزيرالطاقة الجزائري شكيب خليل.
و ممّا يسترعي الإنتباه هنا، أن صعوبة التحديات المفروضة على أنجولا لم تغيّب عنها النظرة الإستراتيجيّة حتى عند مقاربة الحلول والمعالجات الوقتيّة. فهناك إهتمام بإعادة تقييم السياسات القطاعيّة، بالرغم من ثبوت فاعليتها حتى الآن. والدافع، في الغالب، هو تطويرها ورفع كفاءتهاً في المدى القصير، أيّ في ظلّ مناخ الأسعار الهابطةِ، ممّا يجعلها أكثر صلابة و فاعليّة في المدى الأبعد، أيّ عندما يتحقق ما يتوقعونه من عودة لصعود منحنى الأسعار .

الخلاصة: سنواتٌ عِجاف تليها سنواتٌ سِمان...؟
في ما تقدَّم من أجزاء، توقعنا أن تستمرّ أسعار النفط عند مستويات منخفضة نسبياً طوال فترة الأزمة الماليّة- الإقتصاديّة العالميّة. ثمّ إستعرضنا، وبقدر من التفصيل، أسباب ترجيحنا لهذا التوقع.
ويأتي على رأس هذه الأسباب الإنكماش الشديد للطلب العالمي على النفط والناتج عن هذه الأزمة العالميّة، وتضاؤل فاعليّة ما تقوم به الأوبك من محاولات "إنقاذيّة".
وهنا ينبغي إبراز حقيقة أخرى وهي أن أساسيات السوق market fundamentals عادت، الآن ومن جديد، لتشكّل العامل الحاسم في توجّه مجرى الأسعار، وذلك خلافاً للفترة التي إنتفخت خلالها فقاعة أسعار النفط قبل إنفجارها، والتي كانت تستجيب لمنطق مختلف تماماً، ليس هذا مجال شرحه. ومن هنا، جاءت توقعاتنا بعودة قويّة للأسعار في المدى البعيد و الأبعد.
وكما ذكرنا، لا يعود ذلك إلى إنتعاش الطلب العالمي بعد الخروج من الأزمة، فحسب، وإنما يعزز هذه التوقعات تظافر عوامل أخرى، مع هذه الرافعة الأولى للأسعار، تتجلّى، أساساً، في قصور العرض عن تلبية الطلب المتزايد. وهذه الشِحَّة المتوقعة للبراميل المعروضة، في المستقبل، هي نتيجة مباشرة لما يجري اليوم من تجميد أكثر من 30% من المشاريع الإستثماريّة في مجال الإستكشاف والإنتاج، والناتجة بدورها، عن إفرازات الأزمة المالية الراهنة من تدهور للأسعار وندرة في كلٍّ من السيولة المتاحة و مصادر التمويل. وبالرغم من أن هذه الرافعة الثانية للأسعار ستؤدي، حتماً، إلى جذب المزيد من الإستثمارات النفطيّة، الأمر الذي سيعيد، في نهاية المطاف، التوازن في أساسيات السوق، إلاّ أن ذلك لن يُتَرجَم، في الواقع، بهبوط لمستوى الأسعار. ويعود ذلك إلى أن الرافعة الثالثة للأسعار تكمن تحديداً في الإرتفاع الشديد لكلفة إستخراج النفوط من المناطق والحقول "الجديدة"، مقارنةً بالمناطق والحقول "القديمة" أو "التقليديّة" والتي تقترب أكثر وأكثر من الإستنزاف الكامل والنضوب. هناك، بالطبع، عوامل أخرى عديدة تتفاعل وتتشابك، وتؤثر أيضاً، بهذا القدر أو ذاك، على ملامح مشهد أسعار النفط في المستقبل البعيد.
ولكننا آثرنا الإكتفاء بهذا القدر، على أن نعود إليه بصورة أكثر تفصيلاً ضمن ورقة مستقلّة، نتناول فيها، بالتحليل، تاريخ ومستقبل النفط عالمياً.

أين نحن من كلِّ هذا...؟ عودٌ على بدء...؟

لقد أوضحنا في مطلع الورقة طبيعة التحديات المزمنة التي تواجه قطاع النفط والغاز في بلادنا، والمتمثلة في تراجع معدلات الإنتاج. وبيّنا كيف أدّى الإنهيار المتسارع للأسعار إلى بروز معالمها، بعد أن ساهمت موجة إرتفاع الأسعار غير المسبوق، خلال السنوات القليلة الماضية، في إخفاء آثارها. وتوصّلنا إلى أن المستويات المتواضعة للأسعار هي المرشحة للبقاء، على الأقل في المدى المنظور، وتحديداً خلال فترة الأزمة العالميّة.
ومع إقترابنا من خاتمة هذه الورقة، نعود ، من جديد، إلى نقطة بدايتها.
فنجد أن التحديات التي أشرنا إليها منذ سنوات ليست فقط باقية، من حيث الجوهر، وإنما إزدادت صعوبةً وتعقيداً، نتيجة للتراكم الطبيعي لمعدّلات التراجع في إنتاج الحقول.
أمّا إذا أضفنا إلى اللوحة آثار الزلزال المدمِّر للأسعار، فلن نبالغ إذا قلنا أن ما يرتسم اليوم أمام قطاع النفط، ومعه مجمل الإقتصاد الوطني، لا يبعد كثيراً عن ملامح كارثة حقيقيّة، بكل ما في الكلمة من معنى.
وهذا ما يجعل من المواجهة مهمّة قوميّة و وطنيّة، في المقام الأوّل، ينبغي من أجلها حشد مختلف الطاقات والجهود على كافة مستويات المجتمع والدولة.
هذا الطرح لا يتناقض إطلاقاً مع منهجنا، الذي وصفناه، في مقاربة التشخيص و المعالجات والحلول من منظور إستراتيجي قطاعي.
على العكس، نرى أن التطوّرات الأخيرة، وإستفحال الوضع، عجّلت بالترابط بين التناول الكلِّي والجزئي، مع تأكيد ديناميكيّة دور الأخير و فاعليّة أدواته في تحقيق الحلول العاجلة. وقبل أن نسترسل، يجدُر بنا، الوقوف عند بعض التصوّرات غير الدقيقة، أو بالأحرى غير الصحيحة، التي تتردد هنا وهناك، فهناك من يعتقد، مثلاً، أن الوضع ليس "مأساوياً" إلى هذا الحدّ، إستناداً إلى أن التراجع في عائدات النفط سيتم تعويضه من العائدات المُرتَقبة من تصدير الغاز المُسال.
و الواقع أن مشروع تسييل الغاز الطبيعي Yemen LNG، يُعَدّ، بحق، من أهمّ وأكبرالمشاريع الإستثماريّة في اليمن، إن لم يكن أهمها و أكبرها على الإطلاق. ونعتقد، أننا، وبكلّ تواضع، على إطّلاع لا بأس به بمكوّنات و عناصر المشروع، وذلك بحكم موا كبتنا لمراحل تطوّره طوال السنوات السِت ألأولى من عمره. ولكن، و حتى لا تحجب هذه التصوّرات عن أعيننا رؤية التحديات "الحقيقيّة"، وتجرّنا، بالتالي، إلى التراخي والركون بدلاً من التأهُّب و المواجهة، نرى من واجبنا الإشارة، ولو بإختصار، إلى بعض الحقائق ذات الصِلة. و لا يفوتنا، هنا، لفت الإنتباه إلى أن هذه الحقائق لا تمثل، بأي شكل من الأشكال، "أوجه قصور" في المشروع اليمني لتسييل الغاز الطبيعي، ولكنها إنعكاس للخصوصيّة التي تتميّز بها كافة مشاريع الغاز الممائلة في العالم. و فيما يلي أهم الحقائق المشار إليها:
  • صافي الدخل المتحقق من مشروع الغاز المسال، خلال السنوات الأولى، محدود نسبياً. ويعود ذلك إلى الإرتفاع الإستثنائي للكُلَف، في هذه الفترة، نتيجة جدول تسديد أقساط وفوائد قروض التمويل؛
  • حِصَّة الحكومة خلال هذه السنوات الأولى، متواضعة للغاية، بسبب تواضع صافي الدخل الإجمالي، كما ذكرنا، من جهة، ولتدني شريحة التقاسم بالنسبة للحكومة والتي تحددها النسبة بين الدخل والنفقات (R/E)، من جهة أخرى؛
  • سعر الغاز المسال مرتبط بسعر النفط؛
  • تصدير الغاز المسال يعني سحب كميّات كبيرة من الغاز المصاحب associated gas، المتواجد في حقول مآرب، ممّا يُضعف الضغط الإجمالي في المكامن، ويؤثر، بالتالي، سلباً على كميّة النفط القابل للإستخراج recoverable oil.
نأمل أن تساعد هذه الحقائق على تبديد الغيوم و رؤية حجم التحديات و أبعادها، بمزيدٍ من الوضوح. ولعلها، بذلك، تساهم، أيضاً، في تعزيز الوعي بضرورة الإستعداد لمواجهتها. و إذا كنّا، في محاولاتنا، لا نكتفي بمجرَّد " دقّ نواقيس الخطر"، أو " قذف حجر في بركة مياه آسنة"، إلاّ إننا، في المقابل، وبكلّ تأكيد، لا نملك أيّ حلول، أو وصفات، سحريّة جاهزة. و لا نعتقد أن هناك من يدّعي إمتلاكها. كلّ ما نصبو إليه لا يتعدَّى المساهمة، ببعض الأفكار، في صياغة رؤية إستراتيجيّة عمليّة، قابلة للتنفيذ، يمكن، في ضوئها، ترتيب أهم العناصر والأنشطة القطاعيّة بما يكفل تحقيق الأهداف العاجلة، ويمهِّد، في نفس الوقت، لتحقيق الأهداف البعيدة. وكما سبق وأشرنا في السطور الأولى، فقد تناولنا هذه الأهداف و آليات تنفيذها، بنوعٍ من التفصيل، ضمن الورقة التي رُفِعَت إلى وزارة النفط منذ سنوات.
و بتبسيط شديد، يمكن تلخيص هذه الأهداف في غايتين أساسيتين:
الأولـى: زيادة حجم الإحتياطيات؛
والثانيـة: تخفيف حِدَّة التراجع في العائدات النفطيّة. ومن طبيعة كلٍّ من هاتين الغايتين، تتحدّد المهام النوعيّة الجزئيّة و أدوات و وسائل وآليات التنفيذ والتحقيق، بما في ذلك الإطار أو الكيان المؤسسي المسئول و الأنشطة النوعية المعنيّة.
وبذلك يصبح تنفيذ كلّ مهمّة جزئيّة إسهاماً في تحقيق الغاية المتعلِّقة بها؛ وتحقيق الغايتين الأساسيتين نجاحاً لمجمل خطَّة المواجهة.
هذا بالإضافة إلى ماتتيحه هذه المقاربة من سهولة وموضوعيّة في عملية التقييم، حيث يمكن التعبير عن نتائج كلّ مهمَّة أو هدف مباشر بمعيار كمِّي محدَّد، يقاس بموجبه مستوى التقدُّم في الإنجاز، في أيّ مرحلة من المراحل. وعلى سبيل المثال، نجد أن تحقيق الغاية الأولى يبدأ في مستويات للنشاط مبكرة للغاية. حيث يتمّ فيها تقييم السياسات و الإجراءات القائمة وإعادة صياغتها، في ضوء المعارف المتراكمة ومستجدات الواقع، من جهة، وبما يخدم تحقيق الغاية النهائيّة، أيّ رفع الجاذبيّة للإستثمارات، من جهة أخرى. ويشمل ذلك: سياسة الترويج/ الشروط التعاقديّة وحوافزإستكشاف و إستخراج الغاز/البنية التحتيّة والتسهيلات/ رسم حدود القطاعات الإستكشافيّة/...إلخ.
ومن الواضح أن الكيانات المؤسسيّة القطاعيّة المسئولة تتعدد بتنوّع الأنشطة المعنيّة. وسواء كان ذلك في تحديد المهام المباشرة، أو في تنفيذها، فإن الأمر يستوجب التكامل والتنسيق الدائم بين دوائر ومستويات مختلفة، لعلّ أهمها: الشئون القانونيّة/الإستكشاف والإنتاج/البيانات والمعلومات/ الإعلام/...إلخ. كما يستلزم ذلكً، و في مراحل معيّنة، مساهمات من قيادات وسلطات عليا، تشمل، و لا تقتصر على، رئاسة الوزراء ومجلس النوّاب. أمّا الغاية الثانية، وهي الأكثر إلحاحاً، فتحقيقها يستدعي مشاركة الجميع، إذا صحّ التعبير. ونظراً لطبيعتها المركبة، يمكن القول أن تحقيقها النهائي يتم، عملياً، عبر تحقيق مجموعة من المهام المتميّزة والمترابطة في آن واحد، والتي نعرض لها، بإيجاز شديد، فيما يلي:
  • المهمّة الأولى: رفع معدّل النفط القابل للإستخراج recoverable oil. و ذلك عن طريق إستخدام الوسائل التقنية الحديثة للإستخراج مثل الحفر الأفقي horizontal drilling والطُرُق المختلفة، الحراريّة والكيميائيّة، للإستخراج المدعومoil enhanced recovery(OER). وقد يكون من المفيد، هنا، الإشارة، ولو سريعاً، إلى تجربة مشابهة في النرويج.
    ففي عام 2008 أعلنت الدائرة النرويجيّة للنفط عن خطّتها لزيادة حجم الإحتياطيات، في منطقة الجرف القارّي، إلى 5.0 مليار برميل بحلول عام 2015. وأوجه التشابه، المشار إليها، تتمثل في أن إنتاج العديد من الحقول الكبيرة، في المنطقة المذكورة، قد وصل إلى مرحلة التراجع الشديد، في حين كانت أغلب الإكتشافات الجديدة، كما هو الحال عندنا، إكتشافات صغيرة نسبيّاً.
    ومعنى ذلك أن القسم الأكبر من الزيادة في حجم الإحتياطيات، المخطّط لها، سيأتي من الحقول المنتجة نفسها ومن مناطق مكمنيّة جرى إستنزافها كليّاً أو جزئياً.أيّ أن تحقيق أهداف الخطّة النرويجيّة يعتمد، بصورة رئيسة، على إستخدام الطرق الحديثة للإستخراج المدعوم OER.
    ولأهميتها المتميّزة نرى أن يتولّى الإستكشاف والإنتاج، في الدرجة الأولى، مسئوليّة توصيف وتنفيذ هذه المهمّة، بدءاً بدراسة الخيارات والبدائل وتقييمها في ضوء الخصوصيات الجيولوجيّة والمكمنيّة لليمن، ودرجة الفاعليّة الإقتصاديّة لكلٍّ منها، وإنتهاءً بالخطوات العمليّة الميدانيّة للتنفيذ.ّ
  • المهمّة الثانية: رفع حصّة الحكومة من الإنتاج. وذلك عن طريق إنقاص نفط الكُلفة cost oil. ممّا يعني ضغط النفقات والكُلَف الخاصّة بمختلف العمليات والخدمات النفطيّة.
    وفي الوضع الراهن يُفترض أن تقوم الحسابات النفطيّة بهذه الأنشطة من المراقبة والمراجعة للنفقات و التدقيق في الأرقام وتحديد نسب المشاركة..إلخ.
    وقد كان، ولا يزال، تأهيل القائمين على هذا النشاط من الأولويات. كما يبدو جليّاً ضرورة إعادة توصيف الروابط الهيكليّة لهذا النشاط مع الكيانات المؤسسيّة الأخرى، وخاصةً الإستكشاف والإنتاج و تسويق النفط.
  • المهمّة الثالثة: رفع القيمة السوقيّة للنفوط اليمنيّة market price. وهذا يعني إنجاز سلسلة من المهام المحدّدة، تضعنا، أخيراً، على عتبة الطريق الصحيح للتسويق بالمعنى الواسع للكلمة.
    وأوّل هذه المهام هو تحديد القيمة التكريريّة net back value للنفوط اليمنيّة.
    ومن ثمَّ تقييم الأسواق وترتيب الأفضليات. ويتلازم مع ذلك رفع قدرات الرصد والتحليل لمعطيات الأسواق النفطيّة أولاً بأوّل. ودراسة وتقييم ومقارنة ما يتواجد من معادلات سعريّة ونفوط مرجعيّة وأنماط تعاقديّة لإختيار الأفضل والأنسب منها. وتبرز هنا، بصفة خاصّة، أهميّة التأهيل وتطوير المعارف والمهارات النوعيّة، على أساس تعميق الحرفيّة والمهنيّة professionalism في ممارسة العمل.
    إلى هذه المهام الثلاث، والتي يمكن وصفها بـ "القطاعيّة المباشرة"، هناك أيضاً مهام أخرى لا تقل أهميّة، ولكن مسئوليّة تنفيذها تتجاوز حدود الدوائر القطاعيّة، على أكثر من مستوى. وكما سنلاحظ، لاحقاً، فإن ما يجمع بين هذه المهام هو أنها تتعلّق، في جوهرها، بالسياسات. وتحديداً، بتقييم ما هو قائم منها، وإعادة صياغتها في ضوء ما تفرضه التحديات، وبما يدعم تحقيق الغاية النهائية، أيّ تخفيف حِدَّة التراجع في العائدات النفطيّة، كما سبق وحدّدناها. و سنكتفي، فيما يلي، برسم الخطوط العامّة لهذه المهام، دون الدخول في التفاصيل:
  • المهمّة الرابعة: رفع كفاءة أداء أنشطة التكرير والتخزين والتوزيع. وهذه مهمّة معقدة ومتشعبة. ليس فقط بحكم طبيعتها و إتساع رقعتها، وإنما أيضا نتيجة لتراكمات مزمنة أثقلت كاهل هذه الأنشطة، وأعاقت فيها أهم محرِّكات التغيير والتطوير.
    وبدلاً من تناول كلّ نشاط على حِدَة، آثرنا هنا إبراز ما هو جوهري، و ما يجب التركيز عليه، من منظور وظيفيّة النشاط functionality وطبيعة الروابط و التبادلات transactions بين الوحدات المعنيّة. ونعتقد أن المدخل الصحيح لهذه المقاربة هو تأكيد الطبيعة التجاريّة- الإقتصاديّة لهذه الأنشطة بعد أن طغى عليها التضخيم المُفرِط لدورها الخدمي.
    ومن شأن ذلك توفيرالشفافيّة و الشروط اللاّزمة لتطبيق معايير وأسس إقتصادية موضوعيّة سواء لتحديد طبيعة العلاقة بين الكيانات المؤسسيّة القائمة على هذه الأنشطة، أو لتقييم مستوى أداء كلٍّ منها. كما سَيَسْهُل، من هذا المنظور، تشخيص و علاج مواطن الضعف و الإختلالات، ممّا يرفع من مستوى الفاعليّة الإقتصاديّة الكُليّة لهذه المؤسسات.
  • المهمّة الخامسة: ترشيد الإستهلاك المحلّي من المشتقات النفطيّة. في مواجهة التدهورالحاد في الإيرادات النفطيّة، يجب أن يُسلَّط الضوء بشدَّة على جوانب الإستغلال الأمثل للثروة النفطيّة.
    فلا يُعقَل أن يلتهم الإستهلاك المحلّي حوالي ثلثي حصَّة الحكومة من النفط المُنتَج. وأن ينتهي قسماً كبيراً منه وقوداً يحترق في مكائن السيّارات.
    أمّا الباقي، وخاصّة الديزل والمازوت، فسواءً إتجه إلى محطّات توليد الكهرباء أو المولدات الصغيرة أو أيّة وجهة أخرى، فإن المصير، في جميع الحالات، لا يختلف من حيث تدني درجة فاعليّة الإستغلال على مستوى الإقتصاد الوطني. ويجدرالتنويه، هنا، بالتوجُّه الأخير إلى إستخدام الغاز الطبيعي لتوليد الكهرباء في محطَّة مآرب الجديدة.
    والمطلوب تعزيز هذا التوجُّه وتوسيع نطاقه وفق خطّة زمنية مدروسة تهدف إلى تعميم إستخدام الغاز الطبيعي في كافة محطّات ومنشآت توليد الطاقة الكهربائيّة كوقود بديل للمازوت والديزل.
  • المهمّة السادسة: تقييم سياسة دعم المشتقات النفطيّة ونظراً لحساسيّة موضوع الدعم عموماً، وحتى لا يساء الفهم، نسارع إلى القول بأن المقصود ليس المساس بمبدأ الدعم، في حدِّ ذاته، فهو يستمِدّ مبرراته، بل ومشروعيته، من الواقع المعاش لأغلب فئات وشرائح المجتمع.
    على العكس، فما نرمي إليه هو،
    أولاً، تقييم مدى فاعليّة السياسة المتبعة، والتي تُكَلِّف الخزينة العامَّة المليارات، في تحقيق أهدافها الأصليّة، مثل تخفيف الأعباء المعيشيّة عن المواطنين ذوي الدخل المحدود، ودعم تطوير ونمو قطاع الزراعة.
    و ثانياً،ً تقييم ما يمكن تسميته "بالنتائج الضارَّة"، التي نمت وتجذرت على هامش تطبيق هذه السياسة. و لا تقتصر هذه النتائج على تفشي ظاهرة التهريب المعروفة، ولكنها تقف أيضاً وراء ظاهرة الإسراف في إستهلاك الوقود، وإهدار الثروة النفطيّة عموماً، المشارإليها في المهمّة السابقة.
    وثالثاً، وفي ضوء نتائج التقييم، إعادة صياغة سياسة الدعم، بما في ذلك طُرُق ووسائل تطبيقها بالشفافية المطلوبة، وبما يكفل، في الوقت نفسه، تحقيق الأهداف المنشودة وتفادي "النتائج الضارّة".
كلمة أخيرة...
قبل أن ننتهي من هذه الورقة، يبقى لنا التأكيد على مايلي:
* الأفكارالواردة فيها حول إستراتيجيّة المواجهة، لا تتعدَّى كونها مقترحات و إجتهادات. وهي بذلك تُعتَبَر دعوة للتفاعل معها و إغنائها.
ومع إدراكها لخطورة الموقف، إلاّ أنها تعبِّر عن خيار مبدئيٍ، يرفض الإستسلام للأمر الواقع، ويسعى إلى تهيئة الشروط للخروج من الأزمة بأقلّ الخسائروبأكبر قدر من الدروس المستفادة.
وقد أدرك اليابانيون ذلك منذ أقدم العصور. حيث نجد أن رموز الكلمة التي تعني "أزمة" في لغتهم، تعني، في نفس الوقت "فُرصَة".
*رغم إدراكنا للإختلالات الهيكليّة في البناء المؤسَّسي القائم للقطاع، لم نتعرّض في الورقة لذلك، إلاّ في أضيق الحدود. ولكن، ونظراً لدور هذه الإختلالات في إعاقة تحقيق المهام والغايات الأساسيّة، فقد تناولنا هذا الموضوع، بالتفصيل، في الورقة التي سبق رفعها إلى وزارة النفط، إلى جانب مواضيع أخرى لم يتسع المجال لتناولها في الورقة. 
*
قطاع النفط والغاز يزخر بالخبرات و الطاقات القادرة على المواجهة و إبتكار الحلول. ولكن سيطرة الممارسات السلبيّة في محيط العمل أدت، تدريجيّاً، إلى تهميش وتغييب أغلبها عن الحلقات المؤئرة في صُنع القرار. و الأسوأ أن يتلازم ذلك مع تكريس ظاهرة "الإنقطاع"، والتي حالت دون تراكم المعارف والخبرات والمهارات، ممّا أدَّى، و يؤدي، إلى إفقار "الذاكرة الجماعيّة"، وحرمانها من أهم مصادر حيويتها.
لكلِّ ذلك، نعتقد أن نجاح خطط المواجهة يشترط، في البدء، توفير بيئة صحِّية للعمل، تختفي فيها عوامل الإحباط، وتسودها المبادئ والممارسات القائمة على تأطير وتحفيز وتوظيف الموارد و القدرات المتاحة في إتجاه الإبداع والتطوير.
* آن الأوان لتشكيل مجلس وطني للطاقة، يضمّ الخبراء والمتخصّصين في مختلف المجالات ذات الصِلة، ويكون بمثابة النطاق الحيوي لتوليد و تلاقح الأفكار والخبرات think tank، و تناط به مهام إعداد وتقييم الإستراتيجيات والخطط العامّة، بعيدة المدى، والخاصّة بالمزيج الأمثل لإستغلال كافّة مصادر الطاقة، التقليديّة منها والبديلة والمتجدِّدة.
في الختام، نحن واثقون من أن هذه الورقة ستُنشَر كما هي، دون شطب أو تغيير، إلاّ أننا لسنا على نفس القدر من الثقة في أنها ستُحدِث الأثر المطلوب لدى "أولي الأمر" و "صُنّاع القرار".
وإن كنا نتمنى، و بكلِّ صدق، أن نكون على خطأ. أمّا إذا صحّ ما نخشاه، ولقيت الورقة نفس مصير سابقاتها، وبقي الحال على ما هو عليه، فحسبُنا أننا، على الأقل، حاولنا. والله من وراء القصد. ورحم الله زرقاء اليمامة.


* خبير المنظمة الدولية لمفاوظي  عقود النفط AIPN


 

مواضيع ذات صلة :