جدل وتحقيقات نُشر

السوق السوداء.. تحدٍ جديدٌ أمام الاقتصاد

ازدهرت السوق السوداء في اليمن خلال الفترة الراهنة .. بسبب الازمة السياسية التي تمر بها البلاد.. وشجعت الأرباح الطائلة التي جناها التجار على استمرار هذه السوق غامضة المعالم والمخالفة للقانون، وازداد زخمها بشكل أكبر، مستفيدة من مناخات زيادة الطلب وقلة العرض للسلع الضرورية وضعف الدور الرقابي للجهات المختصة .. مادتا البترول والديزل أصبحتا من أكثر السلع المتداولة في هذه السوق ومن أبرز مظاهر الوضع الاقتصادي المتدهور جراء الأزمة السياسية وحركة الاحتجاجات التي بدأت منذ فبراير من العام الحالي.
يرى عدد من الخبراء أن اليمن تقترب من الانهيار الاقتصادي مع تفاقم الأزمة السياسية في البلاد، وتبدو معالم الانكماش واضحة بدءاً من أزمة الوقود وانخفاض قيمة الريال وتقلص الإنفاق الحكومي، ويدلل الخبراء على عدم وقوع الاقتصاد اليمني في حالة انهيار اقتصادي إلى الآن بسبب أنه اقتصاد غير منظم، إلا أنه في طريقه إلى الانهيار في حال استمرار الأزمة السياسية الراهنة، خاصة أن اليمن تواجه نقصاً حاداً في الوقود، والذي ترجع الجهات الرسمية سببه إلى تعرض مصافي النفط في مأرب إلى التفجير من قبل مسلحين، وارتفعت تكاليف ممارسة الأعمال التجارية بسبب انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة.ومع ارتفاع درجات الحرارة في الصيف تعجز المولدات التي تعمل على الديزل عن توفير إمدادات المياه للمنازل ويصعب نقل السلع الغذائية للمدن.
فقد وصلت أسعار الوقود إلى 15 دولاراً لكل 20 لتراً في السوق السوداء، أي ثلاثة أضعاف السعر الرسمي، وينتظر السائقون في طوابير طويلة تمتد إلى حوالي 2 كيلومتر ولمدة تصل إلى أسبوع للحصول على الوقود.
وفي ذات السياق يقول مراد محسن- مالك محطة مياه بمحافظة تعز- بأن عمله متوقف منذ بداية أزمة المشتقات النفطية، بسبب غياب مادة الديزل من محطات الوقود، مشيراً إلى أنها تتوفر في السوق السوداء بأسعار مرتفعة تصل قيمة الدبة الديزل (20 لتر) إلى 12 ألف ريال، محسن يؤكد أن كثيراً من تجار السوق السوداء يمارسون الغش عن طريق إضافة مواد أخرى لمادة الديزل ويقومون ببيعها، مما يؤثر على المعدات التي تستخدم هذه المواد المغشوشة، ويحمل محسن مسؤولية اتساع هذه الأزمة وتوقف الأعمال أحزاب المعارضة كونها فتحت المجال أمام ممارسة الأعمال التخريبية وحدت من الدور الرقابي للحكومة.
يخالفه الرأي محمد ناجي- سائق شاحنة- محملاً الحكومة مسؤولية توفير المشتقات النفطية وتأمين المقومات المعيشية للمواطن، ويتساءل ناجي كيف تختفي المشتقات النفطية من المحطات وتظهر في السوق السوداء؟ ويقول ناجي: «هناك متنفذون في السلطة يقومون بافتعال الأزمات ويحتكرون المشتقات النفطية ليبيعونها في السوق السوداء».
من جانبه محمد سيف –سائق سيارة أجرة- وصف غياب المشتقات النفطية بأنها كارثة على أصحاب الدخل المحدود، ويقول بأنه يقف في طابور البحث عن البنزين أمام محطة الوحدة بأمانة العاصمة منذ 4 أيام وليس له دخل هو وأسرته المكونة من 7 أفراد.
ويضيف سيف: «البعض من سائقي السيارات أوقفوا سياراتهم في طوابير الانتظار والبعض الأخر يلجأون إلى السوق السوداء خاصة من يملكون القوة الشرائية».
عند محاولة معرفة الآثار المترتبة على غياب المشتقات النفطية على المستوى المعيشي للمواطنين، فإن ذلك ينبئ عن انضمام أعدادٍ كبيرة من المواطنين إلى صفوف الفقراء، وكان مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي قد توصل في نتائج دراسة ميدانية حول الأوضاع المعيشية للمجتمع اليمني إلى أن عشرات الآلاف من الأسر اليمنية الفقيرة دخلت مرحلة الجوع وهي عدم القدرة على الوفاء بمتطلبات الغذاء الأساسية، محذراً من كارثة غذائية في اليمن جراء انقطاع المشتقات النفطية والكهرباء وارتفاع مخيف في أسعار السلع والخدمات في اليمن، حيث ارتفعت أسعار بعض المواد الغذائية كالقمح والدقيق والسكر والزبادي والحليب ومشتقاته بنسب تتراوح بين 40-60%، فيما ارتفعت أسعار مياه الشرب بنسبة 20% وأسعار التنقلات بنسبة تصل إلى 60%.
وأكد المركز أن أسعار المشتقات النفطية كالبنزين والديزل وصلت إلى مستويات غير معقولة حيث بلغت نسبة الارتفاع 900% في السوق السوداء، متجاوزة الأسعار العالمية بكثير، الأمر الذي أدى إلى زيادة في أسعار جميع السلع والخدمات بنسب متفاوتة، وتوقف كثير من القطاعات الاقتصادية وبعض الأنشطة الخدمية.
وتوصلت الدراسة الميدانية إلى أن الارتفاعات السعرية تضع 9 ملايين من اليمنيين الفقراء غير قادرين على الوصول للغذاء، محذرا مما سيخلفه ذلك من أضرار نفسية واجتماعية مستقبلية لن تتجاوزها اليمن خلال فترة قصيرة.

شارع السوق السوداء

في أمانة العاصمة تنشط السوق السوداء وفي شارع حيوي لا يبعد عن أنظار الجهات المعنية، في شارع الثلاثين الذي يقطع شارعي تعز وخولان يتمركز تجار السوق السوداء، هذه التجارة الغامضة المعالم والمخالفة للقانون أضفت لهذا الشارع زخماً كبيراً، ليصبح مزاراً لأصحاب السيارات والمعدات بمختلف أنواعها، إضافة إلى الباحثين عن الغاز المنزلي، مجلة «الاستثمار» زارت هذه السوق خلال النصف الثاني من يوليو الماضي، عند وصولك إلى شارع الثلاثين تشاهد ازدحاماً كبيراً أمام هؤلاء التجار، الذين يمارسون تجارة لا تتقيد بأية معايير، حيث وصل سعر اللتر الواحد من البنزين إلى 200 ريال.
قامت هذه السوق نتيجة الطلب المتزايد على المشتقات النفطية التي تغيب عن محطات البيع، وفي ظل هذا الطلب وجد المواطن نفسه مجبراً على الشراء بأي سعر كي لا تتوقف أعماله، ووفقاً لبعض التجار في هذه السوق التي بدأت تختفي مع بداية شهر رمضان فإن حجم الكميات التي كانت تباع يومياً خلال يوليو الماضي تصل إلى 1200 برميل من الديزل والبنزين.
وعن مصادر توفير هذه المواد يوضح بعض تجار السوق السوداء بأنه يتم تهريبها من محافظة مأرب عبر طرق فرعية بعيداً عن نقاط التفتيش، في حين يقول البعض الآخر أن عملية وصول هذه المشتقات إلى أمانة العاصمة تتم عبر المداخل الرئيسية للعاصمة، خاصة أن هناك بعض التجار تربطهم علاقات مع نقاط التفتيش الأمنية.
 
من هم تجارها؟!

مع نهاية أبريل الماضي اشتدت أزمة المشتقات النفطية، خاصة بعد تعرض خط أنبوب النفط للتفجير من قبل عصابات مسلحة، حيث توقفت معه مصفاة عدن، وقدر تقرير حكومي خسائر هذا التوقف حتى نهاية أبريل الماضي 229 مليون دولار قيمة نفط خام و 84 مليون دولار قيمة غاز منزلي، وفي ذلك قررت الحكومة خفض حصة السوق المحلية من مادتي البنزين والديزل بنسبة 50%، مما أدى إلى ظهور أزمة تموينية في السوق المحلية، وظهرت معها الطوابير الباحثة عن هذه المواد.
وبعد أحداث جامع النهدين في الثالث من يونيو الماضي الذي أصيب فيه الرئيس علي عبدالله صالح وعدد من كبار المسؤولين، ازدادت حدة هذه الأزمة واتسع نشاط السوق السوداء في أمانة العاصمة وعدد من المحافظات، وارتفع سعر البنزين (20 لتراً) من نحو 7.5 دولارات إلى 60 دولارا في السوق السوداء, أُغلقت أغلب محطات الوقود, وظهرت طوابير طويلة للسيارات الباحثة عن الوقود.
وحمّل عدد من المواطنين والمهتمين الحكومة اليمنية مسؤولية اختفاء المشتقات النفطية وظهورها في السوق السوداء، مؤكدين أنه رغم وصول كميات كبيرة من المشتقات النفطية المقدمة من السعودية، إلا أن الأزمة تزداد مما يدلل على تورط مسؤولين في بيع النفط لتجار السوق السوداء.
وفي ذلك يقول عبدالله عبدالرقيب -طالب جامعي- إن الطلب الزائد على المشتقات النفطية وغياب دور الدولة ومؤسساتها في الرقابة على الأسواق شجع هذه السوق على الظهور، ويضيف: «كان الأحرى بالدولة أن تقوم بتنفيذ حملات لضبط وملاحقة محتكري المشتقات النفطية الذين استغلوا الأزمة الحاصلة في البلد لإنشاء سوق سوداء يتداول فيها البنزين والديزل بأسعار خيالية، لكن هناك ما يؤكد أن من يقومون ببيع المشتقات النفطية في السوق السوداء لهم أيادٍ في الدولة، خاصة أن عملية البيع تتم في الشوارع الرئيسية».
ويرجع محمد مهيوب أسباب أزمة المشتقات النفطية إلى الممارسات السلبية التي يقوم بها عدد من الباحثين عن هذه المشتقات عن طريق محاولة الحصول على أضعاف حاجتهم وتخزين كميات كبيرة في المنازل، الأمر الذي يزيد من حالة الاختناق وانعدام هذه المواد الأساسية.
وكانت مصادر أمنية قد أوضحت في تصريحات صحفية أنها تقوم بحملات ميدانية تنظم بالتنسيق مع وزارة النفط والمعادن، وأن هذه الحملات أسفرت عن ضبط كافة بائعي المحروقات في السوق السوداء المتواجدين في بعض شوارع أمانة العاصمة ومدن أخرى، مؤكدة أن الحملة ستستمر لضبط كافة المخالفين الذين يستغلون حاجة الناس.
وبينت المصادر الأمنية أن نتائج التحقيقات الأولية كشفت أن هؤلاء الباعة يتفقون مع بعض أصحاب محطات بيع المحروقات عبر قيامهم بشراء حصص هذه المحطات من مادتي البنزين والديزل وبيعها للمواطنين بأسعار مضاعفة، وهذا ما سبب حالة ازدحام بالسيارات وطوابير أمام محطات المحروقات بالعاصمة وغيرها من المدن.
وعن الدور الذي تقوم به وزارة الصناعة والتجارة يقول مدير مكتب الصناعة والتجارة بمحافظة صنعاء عبدالباسط الكميم إن الحملة التي شكلت مؤخراً من مكتب الصناعة والتجارة ومكتب شركة النفط واللجان الميدانية المكلفة بمراقبة حركة الأسعار والاستقرار التمويني بمحافظة صنعاء استطاعت خلال بدء عملها في يوليو الماضي ضبط كميات من المشتقات النفطية، على متن نحو (66) سيارة مختلفة الأحجام في عدد من طرقات محافظة صنعاء والشوارع المحيطة والمؤدية إلى أمانة العاصمة.
مشيراً إلى أن اللجنة قامت بمصادرة جزء من الكمية المضبوطة وبيعها مباشرة للمستهلك بالأسعار الرسمية، فيما تم إحالة جزء آخر منها إلى الأمن لإجراء التحقيق، إضافة إلى إتلاف كمية من المضبوطات ثبت أنها مغشوشة، وأوضحت نتائج التحقيقات أن التهمة الموجهة لمن أحيلوا إلى الضبط هي بيع المشتقات النفطية في السوق السوداء بأرباح (%400) في مخالفة قانونية صريحة واستغلال للظروف الراهنة والأزمة التي تمر بها البلاد، كما تم ضبط قرابة مليون لتر من المشتقات النفطية  ( بترول، ديزل) كانت معروضة للبيع في السوق السوداء في حين ألزمت اللجنة (20) محطة لتعبئة الوقود استئناف بيع المحروقات للمستهلك بعد أيام من وصول حصصها من المشتقات النفطية.
وكشف الكميم عن التحديات التي تواجههم أثناء أداء عملهم منها تلقيهم للتهديدات وإطلاق نار من قبل مالكي بعض المحطات، إضافة إلى تعرض أعضاء اللجنة الحكومية للاحتجاز لعدة ساعات لدى أجهزة الأمن المركزي وذلك عقب ضبطهم سيارة على متنها (3) براميل من مادة البترول كانت معروضة للبيع في السوق السوداء.
 
 
نقلا عن مجلة الاستثمار العدد (38)

 

مواضيع ذات صلة :