لقد انتشر الفساد في كل أجهزة الدولة واستشرى في منظومة الحكم في عهد النظام السابق وغدا مصدر المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، إذ عطّل برامج التنمية، وأهدر الموارد العامة، وأضحى طاردا للاستثمار الخاص, ومخلا بالاقتصاد الكلي، وفاقم من الفقر والبطالة والأمية. ومكافحته لم تكن بإنشاء جهاز أو هيئة وإنما تتطلب إصلاح المنظومة السياسية برمتها, من خلال تغييرات في التشكيل المؤسسي والقانوني والسياسي والحقوق المدنية والحريات وسياسة الأجور وانتهاءَ بأجهزة الرقابة والمحاسبة. ومع اتباع اليمن منذ 1995 برنامجا للإصلاح الاقتصادي بدعم من المؤسسات الدولية (البنك والصندوق) الدوليين والدول المانحة إلا أنه لم يرافق تلك البرامج إصلاح في الجانب المؤسسي ومحاربة الفساد مما أدّى إلى تعثر تلك السياسات وتبديد موارد المانحين والمؤسسات الدولية في مشاريع مبعثرة لا تخدم عملية التنمية..
ونظرا للأثر التدميري الذي تركه الفساد على الاقتصاد والمجتمع وتحت ضغط الدول المانحة والمؤسسات الدولية صادقت الجمهورية اليمنية على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في 7/ 11/ 2005 وتم إصدار قانون مكافحة الفساد رقم 39 لسنة 2006 وإنشاء هيئة مكافحة الفساد بموجب القرار الجمهوري في 3/7/2007 إلا أن تلك الهيئة ولدت ميتة لأنها:
أولا: جاءت لتعبر عن ظاهرة إعلامية تلمّع النظام السابق وتخدع المواطن البسيط بأن الحكومة قد شكّلت الهيئة وسوف تقرّح رؤوس الفاسدين, كما أنها ولدت تحت ضغط الدول المانحة وقد كشفت صحيفة محلية رسالة سرية موجهة من القربي وزير الخارجية إلى الرئيس السابق في فبراير 2010 أن صالح لم يكن جادا في الإصلاح المالي والإداري ومكافحة الفساد وان الغرض من إنشاء بعض الأجهزة كان مجرد محاكاة لما يتطلبه المانحون.. ثانيا:تشكلت من قبل منظومة الفساد نفسها مجلس الشورى ومجلس النواب وليس من قبل مؤسسات مستقلة تمثل المجتمع المدني.
ثالثا: وجدت محل تشكيك في نزاهتها, وفعلا ارتكبت الهيئة نفسها خروقات مالية وقانونية تمثلت حسب مصادر أن عضوا برئاسة الهيئة يتقاضى منذ مايو2011 مائتي ألف ريال شهرياَ بمبرر تعرض منزله للقصف أثناء الحرب التي دارت في منطقة الحصبة. إلى جانب ذلك يتقاضى بدل سكن شهري تبلغ قيمته سبعين ألف ريال, كما بلغ عدد سفرياته عشر مرات في عام واحد تقاضى فيها 550 دولارا عن كل يوم مع تذاكر سفر تصل قيمتها لبعض الدول إلى مليون ريال, مما وضع الهيئة أمام علامة استفهام من قبل المجتمع عن دورها في مكافحة الفساد. وتساءل هل نحتاج إلى من يكافح الفساد في هيئة مكافحة الفساد؟
رابعاً:فاقدة الاختصاص فالقانون رقم 6 لسنة 1995 أسند صلاحية محاكمة جرائم موظفي السلطات التنفيذية العليا لرئيس الجمهورية، إذ جاء في المادة العاشرة: تكون إحالة رئيس الوزراء أو نوابه أو الوزراء ونوابهم إلى التحقيق أو المحاكمة عما اقترفوا من جرائم أثناء تأدية عملهم بناء على قرار من رئيس الجمهورية أو موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب.ذلك القانون الذي يقتصر في جوهره على محاسبة صغار الموظفين أما ذوو وظائف السلطات العليا فلكي تتم محاسبتهم يشترط القانون موافقة رئيس الجمهورية أو ثلثي مجلس النواب, وإذا ما نظرنا إلى طبيعة الفساد فهو مرتبط بذوي السلطات العليا والذين يمتلكون قوة التصرف المالي وقوة استغلال الوظيفة العامة في ظل انعدام فاعلية أجهزة الرقابة والمحاسبة, وهو ما يعني أن طبيعة الفساد من نوع الفساد الكبير الذي يرتبط بالصفقات والاتفاقات والمقاولات والمشتريات, مما يظهر أن المشرع اليمني منح حصانة للفساد وهذا التشريع لم يوجد في الأنظمة الديكتاتورية.
خامساَ: مبتورة المهام تلك الهيئة ليس لها صفة التدخل والضبط القضائي إذ ورد في المادة 37 من قانون مكافحة الفساد، ينعقد الاختصاص للنظر في مكافحة الفساد: للنيابة ومحاكم الأموال العامة، وهذا يعني أن الاختصاص مناط بجهة أخرى ومعزز بقوانين أخرى من قانون السلطة القضائية. وبالتالي أفرغت الهيئة من معناها واقتصرت مهامها على مجرد وسيط لجمع التقارير ورفعها لمن يعنيه الأمر.
هذا هو حال الهيئة لكن ما هو أدهى وأمر أن تتم إعادة إنشاء هيئة مكافحة الفساد بنفس الطريقة وبنفس الاختصاص من قبل منظومة الفساد في ظل حكومة الوفاق, إذ تم استقبال 200 ملف للمرشحين من قبل لجنة في مجلس الشورى وسيتم انتقاء 30 منهم في نهاية شهر يونيو وإرسالهم إلى مجلس النواب ليختار هو بدوره 11 شخصا تمثل الهيئة الجديدة متجاهلين بذلك الحدث الثوري الذي قام ضد النظام السابق برمته بحيث أصبحت تلك الأجهزة لم تعد تمثل الشعب, وهو مايمثل خيانة لدم الشهداء واستفزازاً لإرادة الجماهير الثورية التواقة للتغيير.
أما الجهاز الآخر لمكافحة الفساد فهي الهيئة العليا للرقابة على المناقصات والمزايدات واللجنة العليا للمناقصات والمزايدات بموجب القانون رقم 23 لسنة 2007 وتهدف إلى حماية المال العام والحفاظ على الممتلكات وأصول الدولة ومحاربة الفساد في مجال المناقصات والمزايدات ومع ذلك تفشى الفساد في مجال المشتريات والتوريدات والتعاقدات والمقاولات والمقاولات من الباطن ولم تحرك تلك الهيئات ساكنا ازاء صور الفساد في تلك المجالات ومع ذلك تم التمديد لذلك الجهاز من قبل حكومة الوفاق, وتكون تلك الحكومة قد ارتكبت جرماً في التمديد لأجهزة غير فاعلة في محاربة الفساد.
وفي ضوء ذلك فإن تلك الهيئات التي أنشئت لمكافحة الفساد أصبحت عبارة عن هياكل زائدة يتقاضى أعضاؤها رواتب شهرية تبلغ الملايين للعضو وامتيازات وزير, وسيارات فارهة وتوظيف للمقربين ورواتب الموظفين في دهاليز هياكلها ونفقات تشغيلية وغيرها, وتمثل نفقات تلك الهياكل الزائدة ليس تبديداً للموارد العامة فحسب بل وفتحت بؤراً للفساد داخل تلك الهيئات نفسها, وهو ما يتطلب إلغاءها وتفعيل عمل الجهاز المركزي للرقابة الذي هو الآخر لم يقم بالدور المطلوب منه وأصبح شاهدا على الفساد لا محاسبا له مع إنشاء هيئة لمكافحة الفساد من منظمات المجتمع المدني الثورية ويرافقها إنشاء نيابة ومحاكم متخصصة مستقلة ونزيهة, إذا أريد للفساد أن يكافح ولا يعقل أن يعُالج من قبل أجهزة منظومة الفساد.
إن استمرار منظومة الفساد وعدم وجود في الأفق ما يشير إلى اجتثاث أسبابه يمثل عائقا أمام حكومة الوفاق بل ومؤشراَ على عدم إفصاح تقديم الدول المانحة موارد مالية لليمن في مؤتمر الرياض المنعقد في 23 من الشهر الجاري.
صحيفة مال وأعمال العدد (96)