آراء وأقلام نُشر

ميثاق شرف المتحاورين حول الأسس والمبادئ الفكرية العامة للحوار

 

منذ أن خلق الله عز وجل الإنسـان، وأوجده على ظهر البسيطة، والاختلاف بين البشر قائم باعتباره ظاهرة طبيعية فطرية، وذلك لاختلاف مراتب الناس وعقولهم، واختلاف مصالحهم، بل وأحياناً تناقضها، ولتنوع مشاربهم الفكرية والسياسية والاجتماعية.

ويشكل الاختلاف والخلاف داخل المجتمع الواحد أحد النتائج المباشرة لغياب الحوار البنَّـاء والفعَّـال والمنضبط بالأسس والمبادئ العامة الفكرية، وأيضاً الإدارية التنظيمية والفنية والسياسية، وفي الوقت نفسه من أبرز الأسـباب والعوامل التي تدفع المختلفين نحو القبول بالحوار من أجل تضييق شـقة الخلاف بينهم والحـد من التعصب المفضي إلى التفرقة والفتن. ولذلك فإن الاختلاف والخلاف يمثـلان الحالة التي تسـبق عادةً عملية الحوار وتؤدي إليه، ويستمر الاختلاف أيضا أثناء الحوار، إذ لو لم يكن الاختلاف قائماً في الرؤى والأفكار والاستراتيجيات والسياسات، لما وجـد الحوار أصلاً بين المتحاورين.

وفي اليمن، ساهمت الحوارات الوطنية السابقة في تجنيب البلاد، شعباً وأرضاً، العديد من المخاطر والتهديدات المحلية والإقليمية التي واجهت البلاد، ليصبح الحوار سمة هامة من السمات الرئيسية التي ميزت اليمنيين خلال الثلاثة العقود الماضية، بدءاً بلجنة الحوار الوطني الأولى في مطلع عقد الثمانينيات من القرن الماضي، مروراً بالوحدة اليمنية التي تمت، من خلال الحوار بين نظامي الحكم في شطري اليمن سابقاً، وتواصل الحوار بداية بين صانعي الوحدة خلال الأزمة السياسية التي عصفت بالدولة اليمنية الوليدة، ثم توسع الحوار بعد ذلك في إطار لجنة الحوار الوطني، والتي توصلت في عام 1994م إلى وثيقة العهد والاتفاق، والتي أدى الفشل في تنفيذ بنودها إلى نتائج كارثية لازال اليمن، شعباً وأرضاً، يعاني منها حتى الوقت الحاضر.

ومنذ العام 2001م بدأت شقة الخلاف بين السلطة السياسية الحاكمة وحزبها -حزب المؤتمر الشعبي العام- وأحزاب اللقاء المشترك المعارضة في الاتساع والتباعد، وبلغت ذروتها خلال وبعد الانتخابات الرئاسية والمجالس المحلية في عام 2006م. كما ساهمت كلاً من حروب صعدة الست وتصاعد نشاط الحراك الجنوبي وحركات الاحتجاج المطلبية في المناطق الجنوبية في تأكيد هذا التباعد وتعميقه. وعلى الرغم من أن وثيقة "قضايا وضوابط وضمانات الحوار بين الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان" الموقعة في شهر يونيو 2007م كانت تشكل في ذلك الوقت خطوة هامة وأساسية باتجاه تقريب وجهات النظر بين الطرفين حول القضايا المطروحة للنقاش، باتجاه العمل لاحقا نحو حوار وطني شامل إلا أن عدم استيعاب وفهم والتزام المتحاورين بالقواعد والأسس الفكرية العامة للحوار أدى إلى فشل هذه التجربة وحرم اليمن من فرصة ذهبية كانت ستساهم في ترسيخ الوحدة الوطنية وتعزيز الجبهة الداخلية والقضاء على جوانب الخلاف والتمزق، وبما يساهم في توفير الجهود والطاقات والموارد والوقت نحو الإسهام في عملية البناء الاقتصادي والتنموي وتحقيق الأمن الاجتماعي للبلاد.

ونتيجة لذلك اتجهت اليمن منذ بداية العام 2007م نحو أزمة سياسية تصاعدت وتائرها عاماً بعد آخر لتبلغ ذروتها في مطلع العام 2011م عندما تحولت إلى انتفاضة وثورة شعبية عارمة كانت لها نتائج وآثار سلبية عديدة في كافة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية، مضيفة بذلك اختلالات ومشاكل وتحديات جديدة اقتصادية وسياسية واجتماعية، تتطلب من كافة القوى السياسية والاجتماعية العمل معاً برؤية واستراتيجية موحدة متفق عليها لبناء اليمن الجديد، بما في ذلك تحقيق أهداف الثورة والانتفاضة الشعبية وشهدائها.

وإذا كان قرار رئيس الجمهورية بشأن النظام الداخلي لمؤتمر الحوار الوطني الشامل قد ساهم في توفير الإطار السياسي والأسس والمبادئ الإدارية التنظيمية والفنية بدءاً من تحديد مواضيع مؤتمر الحوار والهدف منه، وبالتالي المخرجات والنتائج المتوقعة منه، وكذلك الهيكل التنظيمي للمؤتمر واللجان الفرعية ومهامها وغير ذلك. إذا كان الأمر كذلك فإن من الواجب الإشارة ايضا إلى أهمية توفر الأسس والمبادئ الفكرية العامة للحوار خاصة وأن الثقافة السياسية السائدة لدى كافة القوى والأحزاب السياسية وبالتالي ممثليهم في مؤتمر الحوار تستند على الأسس والقيم والمبادئ الإسلامية، أو على الأقل لها جذورها الإسلامية، وكل ذلك كفيل بالمساهمة في توجيه مؤتمر الحوار الوطني للمضي في الطريق الصحيح. كما أن استقراء جولات الحوار الوطنية والسياسية السابقة يشير إلى أن عدم اتفاق المتحاورين على الأسس والمبادئ العامة الفكرية التي تضمن مقومات نجاح هذه الحوارات قد ساهم في عدم تحقيق أهدافها بصورة كاملة وعرض هذه الحوارات في أحيانٍ أخرى للفشل.

كذلك، تبرز أهمية مؤتمر الحوار الوطني الشامل الحالي من ناحية في جسامة المهام وبالتالي أهمية النتائج والمخرجات التي يجب عليه إنجازها، وفقا لقرار رئيس الجمهورية بشأن النظام الداخلي للمؤتمر، والتي لن يؤدي نجاح المؤتمر في انجازها إلى تجاوز كل مظاهر الأزمة الراهنة التي تمر بها بلادنا حالياً فحسب وإنما -وهذا هو الأهم- الوصول إلى رؤى مشتركة حول الأسس والأهـداف العامة والاستراتيجية؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي ستؤسس للدولة اليمنية الحديثة، دولة الكرامة والعدالة الإنسانية بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية، السياسية والثقافية. ومن ناحية أخرى إلى كبر وتنوع المخاطر والتحديات والمشاكل الداخلية والخارجية التي يواجهها اليمن حالياً، وفي مقدمتها المخاطر التي تهدد وحدة المجتمع اليمني. وبدون شك فإن نجاح مؤتمر الحوار الوطني الشامل سيساهم إن شاء الله في توفير الظروف المناسبة لتحقيق الوحدة الوطنية على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والشعبية.

يضاف لما سبق أن الحوار الوطني الشامل يتم حالياً بين أطراف قد تكون غير متكافئة وذوي مصالح متعددة-إن لم تكن متعارضة- وفي ظل وجود اختلاف واضح في الرؤى والأفكار والسياسيات والتوجهات العامة بينها. كذلك من الأهمية بمكان اتفاق المتحاورين بداية الوطنية على طبيعة العوامل والأسباب الأساسية والجذور الحقيقية للاختلافات والخلافات القائمة حالياً بكل صدق وأمانة ووضوح وشفافية، كون ذلك سيساهم بصورة كبيرة في توصل المتحاورين إلى اتفاق على طبيعة المعالجات والحلول الجذرية الحقيقية للتغلب على المشاكل والتحديات والصعوبات، التي تراكمت وتعمقت نتائجها وآثارها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية عاماً بعد آخر، ليصل الأمر حالياً إلى تعدد المخاطر والتهديدات المحدقة بالشعب اليمني التي تهدد بصورة حقيقية وقوية وحدته ولحمته الوطنية. ففي الحوارات الوطنية والسياسية السابقة كان يتم الاكتفاء -في أغلب الأحيان- بالتسويات والمساومات والحلول المؤقتة بين الأطراف والقوى السياسية المتحاورة، الأمر الذي كان وما يزال أحد العوامل الرئيسية التي ساهمت في إفراغ هذه الحوارات الوطنية والسياسية من مضمونها وروحها وجديتها.

وبناء على كل ما سبق، أرى أهمية توافق القوى السياسية المتحاورة على طبيعة الأسس والمبادئ العامة الفكرية للحوار وكذلك التزام كافة المتحاورين بها، باعتبارها تشكل أحد المتطلبات الأساسية التي ستساهم بإذن الله تعالى في نجاح هذا الحوار. ويمكن أن يكون ذلك -على الأقل- في شكل ميثاق شرف يصدر عن كافة المتحاورين في هذا المؤتمر يعلنون فيه الأسس والمبادئ التي اتفقوا عليها وكذلك التزامهم الكامل بها.

ويأتي في مقدمة الأسس والمبادئ الفكرية العامة للحوار: التزام المتحاورين بآداب الحوار وأخلاقياته، وكذا إقرار كل الأطراف المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني بحقيقة التنوع والتعـدد والتمايز، وبالتالي قبـول كل طرف بالأطراف الأخرى والاعتراف بها والتعايش معها، بدون إقصاء أو إلغاء أو تهميش على المستويين الفكري والعملي. وكذلك قاعدة تغليب المصالح العامة بعيدة المدى على المصالح الشخصية الذاتية الآنية. كذلك، يجب على المتحاورين الإخلاص لله تعالى والتجرد له، وتعزيز الاحترام المتبادل بينهم فعلاً وقولا، بما في ذلك القبول بالاختلاف واحترام حق كل طرف في تبني رأي أو فكر أو موقف أو اجتهاد مختلف، وكذا احترام حقه في الدفاع عن هذا الرأي ما دام موضوعياً محققاً للمصالح الوطنية العامة، ومبتعدا عن التعصب الأعمى، الذي لا يبقي ولا يذر، ويأكل الأخضر واليابس. يضاف إلى مبادئ الحوار الناجح ضرورة تحديد المفاهيم التي سيتم استخدامها في مؤتمر الحوار الوطني الشامل وكذلك تحديد الثوابت المتفق عليها والتي ستلتزم بها كافة الأطراف المتحاورة، مثل الوحدة اليمنية، النظام الجمهوري والديمقراطية والتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة كأسس للنظام السياسي اليمني الجديد.

وبدون شك ستوفر الأسس والمبادئ السابقة -وغيرها- الظروف المناسبة والبيئة لجعل الحوار في هذا المؤتمر الوطني الشامل هادئاً ومثمراً بعيداً عن التعصب والمصالح الآنية والذاتية، وبالتالي تمكين المتحاورين من الوصول إلى حلول وطنية جذرية متفق عليها للقضايا والمسائل التي تم تحديدها في هذا المؤتمر الوطني الشامل.

وأخيراً وليس آخر، فإنه نظراَ لجسامة المهام الملقاة على عاتق المتحاورين وفي الوقت نفسه غلبة الطابع السياسي عند اختيار أعضاء المؤتمر الوطني الشامل، إلى جانب الطابع الفني التخصصي لمعظم القضايا والمسائل التي تمثل مواضيع الحوار، وفقا لقرار رئيس الجمهورية بشأن النظام الداخلي للمؤتمر، فإن من الأهمية بمكان اشراك الكفاءات الوطنية المتخصصة بصورة أو بأخرى في أعمال وأنشطة اللجان الفرعية لمؤتمر الحوار الوطني الشامل، فأهل اليمن أدرى بشعابها وأكثر حرصاً على حاضرها ومستقبلها. ولا يعني ذلك عدم الاستفادة من التجارب والخبرات الإقليمية والعالمية، ولكن لا بد ايضا أن نتعظ من ما حدث في تلك الدول التي اعتمدت على الخارج في إعادة بنائها وصياغة دساتيرها. ولذلك أتمنى أن يكون القرار الأخير دائما بيد اليمنيين أنفسهم، لأنهم الأقدر على تحديد حاضرهم ومستقبلهم.

والله اعلم


 

مواضيع ذات صلة :